محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ} (18)

{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته . وفيه غاية التفخيم لمقامه ، وأنه من الآيات الكبر .

قال الناصر : ويحتمل أن تكون { الكبرى } صفة لآيات ، ويكون المرئيّ محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه ، كأنه قال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف . والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول .

/ تنبيهات

الأول – قدمنا في تفسير قوله تعالى : { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة . ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف ، كتوجيه ابن جرير والرازي ومن وافقهما ، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ . والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير ، كما نقلناه عنه ، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك . ونحن نقول في تأييده إن القرآن يفسر بعضه بعضا ، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها . والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة ، فقد قال تعالى{[6819]} ثمة : { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين } فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا ، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية ، وبيان دنوّ واقتراب لم يذكر في ( التكوير ) . وسر الزيادة هو ارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتا فوقتا . وسورة النجم مما نزل بعد التكوير ، كما حكاه في ( الإتقان ) عن ابن عباس وغير واحد من السلف ، فلذلك كان في ( النجم ) زيادة هذا التكريم والتفضيل . وحاصل المعنى : أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه ، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم ، جمّ المناقب ، لأنه شديد القوى ، ذو مرة ، رفيع المكانة بالأفق الأعلى . ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق ، ودنا إليه ، وكان في غاية القرب منه ، والتمكن من رؤيته ، وتلقي الوحي عنه . وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه . وكيف يمارى من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه ، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة ، بل رآه نزلة ثانية ، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه ، وهو سدرة المنتهى . وبالجملة ، فتوافق هذه الآيات لآيات ( التكوير ) وتفسير بعضها بعضا ، أمر لا خفاء به عند المتدبر ، وكله رد على المشركين المفترين ، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل ، وصدق ما يخبر به ، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه . فما بقي بعد التعنت / والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة ، كما أشار له في آخر السورة .

هذا ملخص معنى الآيات ، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته . وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد – والله الموفق- .

الثاني – ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى : { ثم دنا فتدلى . . . } الخ إلى جبريل عليه السلام ، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين ، وقد أيدناه بما رأيت .

قال الإمام ابن تيمية : الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه – كما قالت عائشة وابن مسعود – والسياق يدل عليه ، فإنه قال : { علمه شديد القوى } وهو جبريل ، { ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى } فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة أي القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنا فتدلى ، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، وهو الذي رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، رآه على صورته مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى . انتهى .

وروى البخاري{[6820]} في هذه الآيات عن ابن مسعود قال : ( رأى جبريل له ستمائة جناح ) .

وروى الترمذي{[6821]} عن عائشة رضي الله عنها : ( أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ، ولم يره في صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في جياد – مكان بمكة- له ستمائة جناح ، قد سدّ الأفق ) .

وأما ما وقع في حديث شريك في ( البخاريّ ){[6822]} من قوله : ( ودنا الجبّار رب العزة فتدلى ، / حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ) ، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك ، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره ، فهو دنوّ وتدلّ غير ما في سورة النجم ، نؤمن به . ونفوِّض كيفيتة إليه تعالى ، كسائر أخبار الصفات .

قال ابن كثير : قد تكلّم كثير من الناس في رواية شريك ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر ، وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، لا ليلة الإسراء . ولهذا قال بعده : { ولقد رآه نزلة أخرى *عند سدرة المتنهى } ، فهذه هي ليلة الإسراء ، والأولى كانت في الأرض . انتهى .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ : وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل . وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل ، أصح .

قال العماد بن كثير : وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة ، هو الحق ، فإن أبا ذرّ قال : يا رسول الله ! رأيت ربك ؟ قال : نور أنّى أراه ) . وفي رواية : ( رأيت نورا ) – أخرجه مسلم{[6823]}- .

وقوله : { ثم دنا فتدلى } إنما هو جبريل عليه السلام ، كما ثبت ذلك في ( الصحيحين ) عن عائشة{[6824]} وعن ابن مسعود{[6825]} . وكذلك هو في ( صحيح مسلم ( {[6826]} عن أبي هريرة ، ولا يعرف لهمخالف من الصحابة في تفسير هذه بهذا . انتهى .

وقال شمس الدين بن القيّم في ( زاد المعاد ) : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصحّ عنه أنه قال : " رآه بفؤاده " ، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقال : إن قوله تعالى : { ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى } إنما هو جبريل . وصحّ عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنّى أراه " . أي حال بيني وبين رؤيته النور ، كما في لفظ آخر : " رأيت نورا " .

وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره .

قال الإمام ابن تيمية : وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا ، ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال : ( رأيت ربي تبارك وتعالى ) ، لكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال : نعم رآه حقا ، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد . وأما قول ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين . فإن كان استناده إلى قوله تعالى : { ما كذب الفؤاد ما رأى } ثم قال : { ولقد رآه نزلة أخرى } والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . انتهى .

وقال ابن كثير : أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ربي عز وجل ) ، فإنه حديث إسناده على شرط ( الصحيح ) ، لكنه مختصر من حديث المنام ، كما رواه الإمام أحمد{[6827]} أيضا عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتاني ربي الليلة في أحسن صورة ( أحسبه ، يعني في النوم ( ، فقال : يا محمد ! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟/ قال قلت : لا . فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي ( أو قال نحري ) فعلمت ما في السماوات وما في الأرض . ثم قال : يا محمد ! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : نعم ! يختصمون في الكفارات والدرجات . قال : وما الكفارات ؟ قال قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ! من فعل ذلك عاش بخير ، ومات بخير . وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه . وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة ، أن تقبضني إليك غير مفتون .

قال : والدرجات بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام ) .

ثم قال ابن كثير : وقوله تعالى :{[6828]} { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } كقوله :{[6829]} { لنريك من آياتنا الكبرى } أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا ، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة ، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع . لأنه قال : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ، ولقال ذلك للناس . انتهى .

الثالث- ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبوي ، أعني : عروجه صلى الله عليه وسلم ، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السماوات السبع ، كما ذكر في أحاديث المعراج من سدرة المنتهى فوق السماوات ، ومشاهدة جبريل على صورته .

قال القليوبيّ : لما كان الإسراء مقدما في الوجود على المعراج ، لأنه كالوسيلة والبرهان ، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه ، التصديق بالمعراج وما فيه . وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر ، صدره تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته ، والرد على منكريه والطاعنين فيه ، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز عليه ، فقال : { والنجم . . . } الخ انتهى .

/ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية ، وتحقيق الوحي ، بأنه تعليم ملك كريم ، مرئيّ للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس ، لا لإثبات المعراج .

ثم من الغرائب أيضا هنا ، قول بعضهم محاولا سر إفراد الإسراء عن المعراج ، وذكر كل في سورة ، ما مثاله : إن الإسراء أنزل أولا وحده ، حملا للمشركين على تسليم ما وضح صدقه صلى الله عليه وسلم فيه ، توصلا للتصديق بما وراءه فإنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن يخبر المشركين أولا بالإسراء إلى المسجد الأقصى ، لأن قريشا تعرفه ، فيسألونه عنه ، فيخبرهم بما يعرفون ، مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط ، فتقوم الحجة عليهم . وكذلك وقع ، كما ذكر في الروايات . وعلى أثر هذا الإخبار أنزل بيان الإسراء ، ثم أُلهم صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالمعراج إلى ملكوت السماوات ، ورؤية جبريل عليه السلام ، وأنزل الله تصديقه في سورة النجم انتهى . فكل هذا مما لا سند له ، نعم ! روى البيهقيّ وابن أبي حاتم وابن جرير في حديث مطول ؛ ( أنه صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب . إني أتيت البارحة بيت المقدس ، وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا ) . إلا أن يقال ليس هذا من مرويات ( الصحيحين ( ، ولا حجة في الأخبار إلا مرويّهما . وبالجملة ، فالمعوّل عليه هو أن المعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقا ، وما ورد في هذه السورة وسورة التكوير ، فلا علاقة له بالمعراج ، وإنما هي رؤية النبي صلوات الله عليه لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما تقدم . وأما المعراج فإنما كان رؤيا منامية روحانية . لصريح حديث البخاري في ذلك من طرقه التي عن أنس ومالك بن أبي صعصعة . قال بعضهم ولذلك لم يذكر في حديث المعراج ، بحسب رواية البخاري التي هي أصح الروايات بالإجماع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سار أولا إلى بيت المقدس ، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى ، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه ، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية ، بل المذكور أنه كان مصاحبا له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة ، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة ، هو غير ما ذكر في الحديث ، مما وقع مناما في وقت آخر ، / وإلا لذكرا معا في سياق واحد ، إما في القرآن ، وإما في أصح الأحاديث ، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعوّل عليها ، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض . انتهى – والله أعلم- .

ثم قال تعالى منكرا على المشركين عبادتهم الأوثان ، واتخاذهم لها البيوت ، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده ، بقوله : { أفرأيتم اللات والعزى 19 } .


[6819]:[81/ التكوير/ 19- 23].
[6820]:أخرجه البخاري في: 25- كتاب التفسير، 53- سورة النجم، 1- حدثنا يحيى بن وكيع، حديث رقم 1526.
[6821]:أخرجه الترمذي في: 44- كتاب التفسير، 53- سورة النجم، 3-حدثنا ابن أبي عمر.
[6822]:أخرجه البخاري في: 97- كتاب التوحيد، 37- باب قوله {وكلم الله موسى تكليما}، حديث رقم 1674، عن أنس بن مالك.
[6823]:أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث رقم 291 و 292(طبعتنا(.
[6824]:أخرجه البخاري في: 65- كتاب التفسير، 53-سورة النجم، 1 – حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1528. وأخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث 287(طبعتنا(
[6825]:أخرجه البخاري في: 65- كتاب التفسير، 53- سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1526. وأخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث 280(طبعتنا(
[6826]:أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث رقم 283(طبعتنا(.
[6827]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 368 من الجزء الأول(طبعة الحلبي) والحديث رقم 3484(طبعة المعارف(.
[6828]:[53/ النجم/ 18].
[6829]:[20/ طه/ 23].