محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ} (4)

{ ورفعنا لك ذكرك } أي بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطا في قبول الإيمان وصحته وقال قتادة : " رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا مشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله " .

وعن مجاهد : أي لا أذكر إلا ذكرت معي . قال الشهاب : وهذا أي المأثور عن مجاهد إن أخذ كلية خالف الواقع ، فإنه كم ذكر الله وحده وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده ، وإن عين موضعا فهو ترجيح بلا مرجح ، وإن جعلت القضية مهملة فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة .

قال : وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر ويرد السائل غير صفر ، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال : الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها ، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب فلا ترى مشهدا من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك ، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام ولا ليلة من الليالي ، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها ، فتتجه الكلية ، فإن قلت : من أين لك هذا التقييد فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح ؟ قلت : المقام ناطق بهذا القيد ، فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره الدال على قربه صلى الله عليه وسلم من ربه كقرب اسمه من اسمه ، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد وأي إشاعة أقوى من الأذان ؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر .

ثم قال : واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الشافعي في أول ( رسالته الجديدة ) ، وبينه السبكي في تعليقه على الرسالة ، فقال رحمه الله تعالى : قال الإمام رضي الله عنه عن مجاهد في تفسير الآية : لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله . قال الشافعي : يعني ذكره عند الإيمان بالله والأذان ، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية .

قال السبكي : هذا الاحتمال من الشافعي جيد جدا ، وهو مبني على أن المراد بالذكر الذكر بالقلب ، وهو صحيح ، فعلى هذا يعم ، لأن الفاعل للطاعة أو الكاف عن المعصية امتثالا لأمر الله تعالى به ذاكر للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه ، لأنه المبلغ لها عن الله ، وهذا أعم من الذكر باللسان ، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها . قال الشافعي : فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظا في دين أو دنيا أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها . فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره حمل الذكر على الذكر القلبي فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قيل :

فأنت باب الله أي امرئ *** أتاه من غيرك لا يدخل ؟

ولك أن تقول : المراد برفع ذكره تشريفه صلى الله عليه وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة وأولها كلمتا الشهادة ، وهما أساس الدين ثم الأذان والصلاة والخطب فالحصر إضافي . انتهى كلام الشهاب .