الذين كفروا : هم بنو النضير من اليهود ، وذلك بنقضهم العهدَ بينهم وبين رسول الله .
لأول الحشر : وهو جمعهم وإخراجهم من المدينة .
حصونهم : واحدها حصن ، كان اليهود يسكنون منفردين عن العرب في قلاع مسوَّرة محصنة .
من حيث لم يحتسبوا : من حيث لم يخطر لهم ببال .
يخرِّبون بيوتهم بأيديهم : كانوا يهدمون بيوتهم من قبل أن يغادروها .
هو الذي أجلى الذين كفروا من أهل الكتاب « وهم بنو النضير ، أكبر قبائل اليهود » أجلاهم من ديارهم ، وكان هذا أول مرة حُشروا فيها وأخرجوا من المدينة فذهب بعضهم إلى الشام ، وبعضهم إلى خيبر . وما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا من ديارهم ، لقوّتهم ، وظنوا هم أن حصونهم تمنعهم من بأس الله . . فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا ، وألقى في قلوبهم الرعب الشديد .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } ، وكانوا يخرّبون بيوتهم ليتركوها غير صالحة للسكنى بعدهم ، وتخرّبها أيدي المؤمنين من خارج الحصون ليقضوا على تحصنهم ويخرجوهم أذلاء .
{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، اتعظوا يا ذوي البصائر السليمة ، والعقول الراجحة ، بما جرى لهؤلاء القوم المتكبّرين المتجبّرين من حيث لم تنفعهم أموالُهم ، ولا أسلحتهم .
وعلينا نحن اليوم أن نعتبر ولا نخاف من شدة تسلّح اليهود وما عندهم من قوة وأموال ، فلو اتفقنا واتحدنا ، وجمعنا شملَنا على قلبٍ واحد صمَّم على الجهاد ، وأعددنا لهم ما نستطيع من العدة ، لكان النصر لنا بإذن الله ، سيكون مآل اليهود كمآل أسلافهم المتبجّحين . ولا يمكن أن يأتينا النصرُ من الشرق ولا من الغرب فما النصر إلا من عند الله ، ومن عند أنفسنا وإيماننا وعزمنا على استرداد أراضينا بأيدينا . عندها يكون الله معنا والنصر لنا بإذنه .
{ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق ، والمراد بالذين كفروا بنو النضير بوزن الأمير وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ، ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في «البحر » ، ويقال : إنهم نزلوا قريباً من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظاراً لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى .
وقيل : إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق ، وقال لهم : لا تستحيوا منهم أحداً فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله تعالى والله لادخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ماكان ، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى ، والجار الأول : متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب ، والثاني : متعلق بأخرج وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا ، وضمير { هُوَ } راجع إليه تعالى بعنوان العزة والحكمة إما بناءاً على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام ، أو على جعلن مستعاراً لاسم الإشارة كما في قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } [ الأنعام : 46 ] أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج الخ ، ففيه إشعار بأن في الآخراج حكمة باهرة ، وقوله تعالى : { لأِوَّلِ الحشر } متعلق بأخرج واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون ، ومآلها إلى معنى في الظرفية ، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا : إنها بمعنى في إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات ، وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا ، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناءاً على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم ، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام ، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر ، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام .
وعن عكرمة من شك أن المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية ، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى لأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضاً ليتم التقابل ، وهو يوم القيامة من القبور ، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة ؛ وفي «البحر » عن عكرمة . والزهري أنهما قالا : المعنى الأول موضع الحشر وهو الشام ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : «اخرجوا قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر » ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضاً ، وقيل : آخر حشرهم أن ناراً تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب ، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره ، وهو كما ترى ، وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم ، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ، ولذا قيل : إنه الظاهر ؛ وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضاً ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حماراً مخطوماً بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر ، وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة مع المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل ، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا ، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعاً من ذوي الأرواح لا غير ، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخت ، ولا يجوز إلا القتل . أو السبي . أو ضرب الجزية { مَا ظَنَنتُمْ } أيها المسلمون { أَن يَخْرُجُواْ } لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم .
{ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ ، { ومانعتهم } خبر مقدم ، والجملة خبر { أن } وكان الظاهر لمقابلة { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في «النظم الجليل » للإشعار بتفاوت الظنين ، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء بمانعتهم . وحصونهم مقدماً فيه الخبر على المبتدأ ؛ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم ، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، فجيء بضمير هم وصير اسماً لأن وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوّى على ما في «الكشف » .
وشرح الطيبي ، وفي كون ذلك من باب التقوّى بحث ، ومنع بعضهم جواز الإعراب السابق بناءاً على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلاً ، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل ، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون { حُصُونُهُم } فاعلاً لمانعتهم لاعتماده على المبتدأ .
وجوز كون { مَّانِعَتُهُمْ } مبتدأ خبره { حُصُونُهُم } ، وتعقب بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية ، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل ، وكانت { حُصُونُهُم } على ما قيل : أربعة الكتيبة . والوطيح . والسلالم . والنطاة ، وزاد بعضهم الوخدة وبعضهم شقا ، والذي في «القاموس » أنه موضع بخيبر أو واد به { فاتاهم الله } أي أمره سبحانه ، وقدره عز وجل المتاح لهم { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } ولم يخطر ببالهم ؛ وهو على ما روي عن السدي . وأبي صالح . وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة ، وقيل : ضمير { ءاتاهم } و { لَمْ يَحْتَسِبُواْ } للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، وفيه تفكيك الضمائر .
وقرئ فآتاهم الله ، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين . ثانيهما محذوف أي فآتاهم الله العذاب أو النصر { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب } أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذا ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب ، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد ، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ } ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب { وَأَيْدِي المؤمنين } حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم ، وبهذا الاعتبار عطفت { أَيْدِىَ المؤمنين } على أيديهم وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم فيخربون على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز ، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير { قُلُوبِهِمْ } أو لا محل لها من الإعراب ، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب ؟ أو معه .
أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها .
وقرأ قتادة . والجحدري . ومجاهد . وأبو حيوة . وعيسى . وأبو عمرو { يُخْرِبُونَ } بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول ، وجوز أن يكون في الفاعل ، وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب ترك الموضع خراباً وذهب عنه ، فالإخراب يكون أثر التخريب ، وقيل : هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة . وبالهمزة أخرى { فاعتبروا ياأولى * الابصار } فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سبباً لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أو طانهم مكرهين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه .
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي ، قالوا : إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ثبتت مشروعية العمل بالقياس ، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق ، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : { إِنَّ في ذلك لَعِبْرَةً لأِوْلِي الابصار } [ آل عمران : 13 ] { وَإِنَّ لَكُمْ في الانعام لَعِبْرَةً } [ النحل : 66 ] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال : إنه غير معتبر ، ولو كان القياس هو الاعتبار لم يصح هذا السلب سلمان لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم : إنه إذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم ، وإن كان أسود ، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم ، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأموراً به من جهة ما فيه من الانتقال وهو القياس .
والآيتان على ذلك ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظراً إلى كونه قائساً ، وإنما صح ذلك نظراً إلى أمر الآخرة ، وأطلق النفي نظراً إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به ، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة ، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه ، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق .
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ، وسوق الآية للاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة ، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية .
قوله : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال المفسرون : نزلت هذه الآية في بني النضير . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بني النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية . فلما غزا أحدا وهزم المسلمون نقضوا العهد وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صالحهم على الجلاء من المدينة .
وذكر محمد بن إسحاق في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديه ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما . وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف ، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه ، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه . فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال : أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ، ( رضي الله عنهم ) فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة .
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة . فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - يعني السلاح - ففعلوا فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل . فكان الرجل منهم يهدم بيته على نجاف{[4494]} بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام {[4495]} .
قوله : { لأول الحشر } يعني أخرجهم عند أول الحشر فكان هذا أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام ، فقد كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط . وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . قال ابن عباس : من شك في أن أرض المحشر ههنا الشام فليقرأ هذه الآية { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اخرجوا " قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة ، لأن المحشر يكون بالشام .
قوله : { ما ظننتم أن يخرجوا } ما ظن المسلمون أن تخرج يهود بهذه السهولة في هذه المدة القصيرة من محاربتهم وهي ستة أيام ومع تمكنهم في حصونهم المنيعة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } ظنت يهود - واهمين - أن حصونهم القوية البنيان تمنعهم من أمر الله إن نزل بهم بأسه . وقد كان المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول يحرّضونهم على الثبات في وجه المسلمين وقد وعدوهم بالتأييد والمناصرة لكنهم سرعان ما تخلوا عنهم فلم يغنوا عنهم من بأس الله شيئا { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } أي أتاهم من بأس الله وشديد بلائه ما لم يخطر لهم على بال { وقذف في قلوبهم الرعب } ألقى الله في قلوبهم الجزع والفزع وغشيهم من الترعيب والهلع ما غشيهم .
قوله : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } كان المسلمون يهدمون ما يليهم من حصون يهود للدخول عليهم . وكان اليهود يخربونها من داخلها قبل رحيلهم عنها . فكان أحدهم ينظر إلى ما يستحسنه في بيته من الخشبة أو العمود أو الباب فينزعه . فاحتملوا من أموالهم وأمتعتهم ما أقلّته افبل فكانوا بذلك يهدمون بيوتهم عن نجاف أبوابها فيضعونها على ظهور الإبل ثم ينطلقون بها راحلين . وذلكم تخريبهم بيوتهم بأيديهم .
قوله : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } يعني اتعظوا يا أهل العقول والنهى واعتبروا مما حل بهؤلاء الظالمين ، إذ لم تغنهم حصونهم المنيعة شيئا من بأس الله لما نزل بهم . وقد هدموا بيوتهم فخربوها بأيديهم تخريبا . والله عز وعلا ولي عباده المتقين فهو ناصرهم ومؤيدهم ومخزي الظالمين .