الفاسق : الخارج عن حدود الدين .
بنبأ : بخبر . قال الراغب في مفرداته : لا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة .
فتبينوا : فتثبتوا ، وفي قراءة فتثبتوا .
تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين : كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، وأن عليهم أن يتثبَّتوا من مصدرها . وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب ، أما إذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره ، ولا يجوز أن يُشك فيه ، وإلا تعطّلت المصالح ، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين ، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها . وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم ، ومنهم الرازي . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا ، من التثبت والتريث في الأمور ، وقرأ الباقون : فتبينوا ، من التبين والتريث ، والفعلان قريبان من بعض .
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } الآية ، نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدوم قومه ، وقال له : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق } يعني الوليد بن عقبة ، { بنبأ } بخبر ، { فتبينوا أن تصيبوا } أي لا تصيبوا بالقتل والقتال ، { قوماً } برآء ، { بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } من إصابتكم بالخطأ .
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط . وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام . فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم : [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] . وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا . قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله : الفاسق الكذاب . وقال أبو الحسن{[14068]} الوراق : هو المعلن بالذنب . وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله . وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " من التثبت . الباقون " فتبينوا " من التبيين " أن تصيبوا قوما " أي لئلا تصيبوا ، ف " أن " في محل نصب بإسقاط الخافض . " بجهالة " أي بخطأ . " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " على العجلة وترك التأني .
الثانية- في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا ، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق . ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها . وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود ، وإثبات حق مقصود على الغير ، مثل أن يقول : هذا عبدي ، فإنه يقبل قوله . وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدية ، فإنه يقبل ذلك . وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر . وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا . وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره : لا يكون وليا في النكاح . وقال أبو حنيفة ومالك : يكون وليا ، لأنه يلي مالها فيلي بضعها . كالعدل ، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم ، وقد يبذل المال ويصون الحرمة ، وإذا ولي المال فالنكاح أولى .
الثالثة- قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق . ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف{[14069]} يصح أن يؤتمن على قنطار دين . وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استُطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم . ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته . وبوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة ، ولكن يعيد سرا في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره .
الرابعة- وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر{[14070]} أو قول يحكى ، فإن الكلام كثير والحق ظاهر .
الخامسة-لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله ، أو إذن يعلمه ، إذا لم يخرج عن حق المرسل ، والمبلغ ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله . وهذا جائز للضرورة الداعية اليه ، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها{[14071]} شيء لعدمهم في ذلك . والله أعلم .
السادسة- وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول ، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم ، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .
فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة ، كالقضاء بالشاهدين العدليين ، وقبول قول العالم المجتهد . وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله . ذكر هذه المسألة القشيري ، والذي قبلها المهدوي .
ولما أنهى سبحانه ما أراد من النهي عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه ، وكان من ذلك أذاه في{[60746]} أمته ، فإنه عزيز عليه ما عنتوا وكان من آذاه فيهم فاسقاً ، وكان{[60747]} أعظم الأذى فيهم ما أورث كرباً فأثار حرباً ، وكان ربما اتخذ أهل الأغراض هذه الآداب ذريعة إلى أذى-{[60748]} بعض المسلمين فقذفوهم بالإخلال بشيء منها فوقعوا هم فيها فيما قذفوا به غيرهم من الإخلال بحقه والتقيد بولائه ورقه ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الطاهرة والمعالي الظاهرة ما يؤمن معه أن يوقع شيئاً في غير محله ، أن يأمر بأمر من غير حله{[60749]} - هذا مع ما له من العصمة ، قال منبهاً على ما في القسم الثالث من مكارم الأخلاق من ترك العجز بالاعتماد على أخبار الفسقة ، تخاطباً لكل من أقر بالإيمان على طريق الاستنتاج مما مضى ، نادباً إلى الاسترشاد بالعقل الذي نفاه عن أهل الآية السالفة ، والعفو عن المذنب والرحمة لعباد الله ، منادياً بأداة البعد إشارة إلى أن من احتاج إلى التصريح بمثل هذا التنبيه غير مكتف بما أفاده من قواعد الشرع وضع نفسه في محل بعيد ، وتنبيهاً على أن ما في حيزها{[60750]} كلام له خطر عظيم ووقع{[60751]} جسيم : { يا أيها الذين آمنوا } وعبر بالفعل الماضي الذي هو لأدنى أسنان القلوب ، وعبر بأداة الشك إيذاناً بقلة الفاسق فيهم وقلة مجيئه إليهم بخبر له وقع ، فقال : { إن جاءكم } أي في وقت من الأوقات { فاسق } أي خارج من ربقة الديانة{[60752]} أيّ فاسق كان { بنبأ }{[60753]} أي خبر يعظم خطبه فيؤثر شراً{[60754]} ، أيّ خير كان مما يكون كذلك ؟ { فتبينوا } أي عالجوا البيان وهو فصل الخطأ من الصواب ، استعمالاً لغريزة العقل المنفي عن المنادين{[60755]} واتصافاً بالغفران والرحمة ليرحمكم الله ويغفر لكم ، وهذه القراءة غاية لقراءة حمزة والكسائي{[60756]} بالمثلثة ثم المثناة الفوقية ، والسياق مرشد إلى أن خبر-{[60757]} الفاسق كالنمام والساعي بالفساد كما أنه لا يقبل فلذلك لا يرد حتى يمتحن ، وإلى أن خبر العدل لا وقفة فيه ، وإلا لاستوى مع الفاسق ، فالتثبت معلل بالفسق ، فإذا انتفى ولم توجد علة أخرى توجب التثبت وجب القبول ، والمعلق على شيء بكلمة " إن " عدم عند-{[60758]} عدمه ، والتبين بأحد شيئين : بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حاضراً ، وبمراجعة آثاره من كتاب الله وسنته إلى أن تبين الأمر منهما إن كان غائباً ، فإنه لا تكون أبداً كائنة إلا وفي الكتاب والسنة المخرج منها-{[60759]} .
ولما أمر بالتبين ، ذكر علته فقال : { أن } أي-{[60760]} لأجل كراهة أن { تصيبوا } أي بأذى { قوماً } أي هم مع قوتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم { بجهالة } أي مع الجهل بحال استحاقهم ذلك .
ولما كان الإنسان إذا وضع شيئاً في غير موضعه جديراً{[60761]} بالندم ، سبب عن ذلك قوله : { فتصبحوا } أي فتصيروا ، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته { على ما فعلتم } أي-{[60762]} من إصابتهم { نادمين * } أي عريقين في الأسف على ما فات مما{[60763]} يوقع الله في نفوسكم من أمور ترجف القلوب وتخور الطباع ، وتلك سنته في كل باطل ، فإنه لكونه مزلزلاً في نفسه لا ينشأ{[60764]} عنه إلا الزلزال والندم على ما وقع من تمني أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام{[60765]} بما تدور مادته عليه مما يرشد إليه-{[60766]} مدن ودمن ، وهو ينشأ من تضييع أثقال الأسباب التي أمر الإنسان بالسعي فيها كما أشار إليه حديث " احرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل{[60767]} : قدر الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني-{[60768]} فعلت كذا ، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان " والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس ، والذي نزل ذلك بسببه هو الوليد بن عقبة ، ولم يزل كذلك حتى أن عثمان رضي الله عنه ولاه الكوفة فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال : هل أزيدكم فعزله عثمان رضي الله عنه .