يوم التغابن : هو يوم القيامة ، وسُمي بذلك لأن أهلَ الجنة تغبن فيه أهل النار بما يصير إليه أهل الجنة من النعيم وما يلقى أهل النار من العذاب في الجحيم . وأصل الغَبن : النقص ، غبن فلان فلاناً في البيع : نقصه حقه . والخلاصة أنه في ذلك اليوم يظهر الربح والخسران ، فيربح المؤمنون ، ويخسر الجاحدون الكافرون .
ثم أنذر بأنه تعالى يجمعهم يومَ القيامة ، يوم يظهر ربح الرابحين وخسران المبطلين فقال :
{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن }
في ذلك اليوم يُغبن الكافرون ويربح المؤمنون ، وما أعظمه من ربح ! ! إنه لا غبنَ أعظم من أن قوما ينعمون ، وقوما يعذَّبون ، ذلك هو الخسران المبين . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يُذهب عنه سيئاته { وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم } ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده ، { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز } [ آل عمران : 185 ] .
{ يوم يجمعكم ليوم الجمع } يعني يوم القيامة ، يجمع فيه أهل السماوات والأرض ، { ذلك يوم التغابن } وهو تفاعل من الغبن ، وهو فوت الحظ ، والمراد بالمغبون من غبن عن أهله ومنازله في الجنة ، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } قرأ أهل المدينة والشام : { نكفر } { وندخله } وفي سورة الطلاق ندخله بالنون فيهن ، وقرأ الآخرون بالياء ، { خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم . }
الأولى- قوله تعالى : " يوم يجمعكم ليوم الجمع " العامل في " يوم " " لتنبؤن " أو " خبير " لما فيه من معنى الوعد ، كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم . أو بإضمار اذكر . والغبن : النقص . يقال : غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته . وقراءة العامة " يجمعكم " بالياء ؛ لقوله تعالى : " والله بما تعلمون خبير " فأخبر . ولذكر اسم الله أولا . وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام " نجمعكم " بالنون ؛ اعتبارا بقوله : " والنور الذي أنزلنا " . ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض . وقيل : هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله . وقيل : لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم . وقيل : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته . وقيل : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي . " ذلك يوم التغابن " أي يوم القيامة . قال :
وما أَرْتَجِي بالعيش في دار فرقة *** ألا إنما الرَّاحَاتُ يوم التغابن
وسمى يوم القيامة يوم التغابن ؛ لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار . أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة ، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة ، فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب . يقال : غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك . وكذا أهل الجنة وأهل النار ، على ما يأتي بيانه . ويقال : غبنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا ، فهو نقصان أيضا . والمغابن : ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين . قال المفسرون : فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة . ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام . قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته .
الثانية- فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها . قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع ، كما قال تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى{[15045]} " [ البقرة : 16 ] . ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا ، وذكر أيضا أنهم غبنوا ؛ وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة . وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا . وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين : فريقا للجنة وفريقا للنار . ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار . فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار ، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول ، فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن . والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن . وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب . وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في " قد أفلح المؤمنون{[15046]} " [ المؤمنون : 1 ] والله اعلم . وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد ، ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته . وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف : رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به ، وعمل به من تعلمه منه فنجا به . ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه ، وفرط في طاعة ربه بسببه ، ، ولم يعمل فيه خيرا ، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه ، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه . ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين ؟ فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن أقول ، اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى : قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له : غَبَنّاك غَبَنّاك سعدنا بما شقيت أنت به ) فذلك يوم التغابن .
الثالثة- قال ابن العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى : " ذلك يوم التغابن " على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال : " ذلك يوم التغابن " وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث . واختاره البغداديون واحتجوا عليه{[15047]} بوجوه : منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ : ( إذا بايعت فقل لا خلابة{[15048]} ولك الخيار ثلاثا ) . وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف . نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين ؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة ، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد ، فمضى في البيوع{[15049]} ؛ إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا ؛ لأنه لا يخلو منه ، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به . والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم ، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد ؛ إذ رأوه في الوصية وغيرها . ويكون معنى الآية على هذا : ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل . أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا ؛ لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين : إما برد في بعض الأحوال ، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى . فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا . وقد قال بعض علماء الصوفية : إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين ، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا ؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب . وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد ) .
قوله تعالى : " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته وندخله جنات " قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما ، والباقون بالياء .
ولما أخبر بالبعث وأقسم عليه ، وأشار إلى دليله السابق ، وسبب عنه ما ينجي في يومه ، ذكر يومه وما يكون فيه ليحذر{[65764]} فقال متبعاً ما مضى من دعائم الإيمان دعامة اليوم الآخر واعظاً{[65765]} لمن يقول : يا ليت شعري ما حالي بعد ترحالي ؟ وقامعاً لمن يقول : لا حال بعد الترحال ، بالإعلام بأنها أحوال أي أحوال ، تشيب{[65766]} الأطفال ، وتقصم ظهور الرجال ، بل تهد شم الجبال : { يوم } أي تبعثون في يوم { يجمعكم } أي أيها الثقلان . ولما كان الوقت المؤرخ به فعل من الأفعال إنما يذكر لأجل ما وقع فيه ، صار كأنه علة لذلك الفعل فقال تعالى : { ليوم الجمع } لأجل ما يقع في ذلك اليوم{[65767]} الذي يجمع فيه أهل السماوات وأهل الأرض من الحساب والجزاء الذي يكون فوزاً لناس فيكونون غابنين ، ويكون خيبة لناس فيكونون مغبونين ، وكل منهم يطلب أن يكون غابناً .
ولما كان هذا المقصد أمراً عظيماً مقطعاً ذكره الأكباد ، قال تعالى مشيراً إلى هوله بأداة البعد مستأنفاً : { ذلك } أي اليوم العظيم المكانة الجليل الأوصاف { يوم التغابن } الذي لا تغابن في الحقيقة غيره لعظمه ودوامه ، والغبن : ظهور النقصان للحظ الناشىء عن خفاء لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون وسائر الخلق أجمعون ، ويكون فيه السمع والإبصار على غاية لا توصف بحيث إن جميع ما يقع{[65768]} فيه يمكن{[65769]} أن يطلع عليه كل أحد من أهل ذلك الجمع ، فإذا فضح أحد افتضح عند الكل ، وما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من{[65770]} النار لو أساء ليزداد{[65771]} شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد{[65772]} حسرة فيغبن كل كافر بتركه{[65773]} الإيمان وكل مؤمن بتقصيره{[65774]} في الإحسان ، ومادة " غبن " تدور على الخفاء من مغابن الجسد وهي ما يخفى عن العين ، وسمي الغبن في البيع - لخفائه عن صاحبه ، فالكافر والظالم يظن أنه غبن المؤمن بنعيم الدنيا الذي استأثر به الكافر ، وبالنقص الذي أدخله الظالم على المظلوم ، وقد غبنهما المؤمن والمظلوم على الحقيقة بنعيم الآخرة وكمال جزائها العظيم الدائم ، فالغبن فيه لا يشبهه غبن ، فقد بعث ذكر هذا اليوم على هذا الوجه على التقوى أتم بعث ، وهي الحاملة على اتباع الأوامر واجتناب النواهي لئلا يحصل الغبن بفوات النعيم أو نقصانه ، ويحصل بعده للكافر{[65775]} العذاب الأليم .
ولما كان كل أحد يحسب أن يكون في النور ، ويكره أن يكون في الظلام ، ويحب أن يكون غابناً ، ويكره أن يكون مغبوناً ، أرشدت سوابق الكلام ولواحقه إلى أن التقدير ، فمن آمن كان في النور ، وكان في ذلك اليوم برجحان ميزانه من{[65776]} الغابنين ، ومن كفر كان في الظلام ، وكان في ذلك اليوم بنقصان ميزانه من المغبونين ، فعطف{[65777]} عليه قوله بياناً لآثار ذلك الغبن ، وتفضيلاً له بإصلاح الحامل على التقوى وهي أمور منها القوة العلمية : { ومن يؤمن } أي يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار { بالله } أي الملك الأعظم الذي لا كفؤ له . ولما ذكر الرأس وهو إصلاح القوة العلمية ، أتبعه البدن وهو إصلاح القوة العملية فقال : { ويعمل } تصديقاً لإيمانه { صالحاً } أي عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في{[65778]} جلب المنافع ودفع المضار .
ولما كان الدين مع سهولته متيناً لن يشاده أحد إلا غلبه ، قال حاملاً على التقوى بالوعد بدفع المضار ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى أن زمان التكفير والدخول متفاوت بحسب طول الحساب وقصره ، كلما{[65779]} فرغ واحد من الحساب دخل الجنة إن كان من أهلها : { يكفر } أي الله - على قراءة الجماعة بأن يستر ستراً عظيماً { عنه{[65780]} سيئاته } التي غلبه عليها نقصان الطبع ، وأتبع ذلك الحامل الآخر وهو الترجئة يجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء والرهبة والرغبة{[65781]} والنذارة والبشارة فقال : { ويدخله } أي رحمة له وإكراماً وفضلاً{[65782]} { جنّات } أي بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ، ورياض مديدة منوعة الأزاهير{[65783]} عطرة النشر تبهج رائيها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله : { تجري } ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير{[65784]} ممدوح ، بين أنه في خلالها على أحسن{[65785]} الأحوال فقال : { من تحتها } وبين عظمه بقوله : { الأنهار } ولما كان النزوح{[65786]} أو توقعه عن مثل هذا محزناً ، أزال توقع ذلك بقوله جامعاً لئلا يظن الخلود لواحد بعينه تصريحاً بأن من معناها الجمع وأن كل من تناولته مستوون في الخلود : { خالدين فيها } وأكد بقوله{[65787]} : { أبداً } والتقدير{[65788]} على قراءة نافع وابن عامر{[65789]} بالنون : نفعل التكفير{[65790]} والإدخال إلى هذا النعيم بما لنا من العظمة فإنه لا يقدر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء إلا الله سبحانه ، ولا تكون هذه القدرة تامة إلا لمن كان عظيماً لا راد لأمره أصلاً .
ولما كان هذا أمراً باهراً جالباً بنعيمه سرور القالب ، أشار إلى عظمته بما يجلب سرور القلب بقوله : { ذلك } أي الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام ، لا غيره { الفوز العظيم * } لأنه جامع لجميع المصالح{[65791]} مع دفع المضار وجلب المسار .