سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون ، نزلت بعد سورة الحديد . وهي مرتبطة بآخر السورة السابقة ، حتى لو أسقطت البسملة من بينهما لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه . ولها اسم آخر وهو : { سورة القتال } وهو اسم حقيقي لها ، لأن موضوعها القتال . وهو العنصر الأساسي فيها ، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة .
تبدأ السورة ببيان حقيقة الذين كفروا ، وحقيقة الذين آمنوا ، وأن الله تعالى أبطل أعمال الذين كفروا لأنهم اتبعوا الباطل ، وكفّر عن المؤمنين لأنهم اتبعوا الحق . ثم بينت السورة بإسهاب وجوب الدفاع عن الحق ، وأن جزاء ذلك في الآخرة دخول الجنة ، وحرّضت المؤمنين على نصر دين الله والقتال في سبيله .
وفيها إعلان الحرب من الله تعالى على الذين كفروا ، وقتلهم وأسرهم ، وعلى المؤمنين أن يحاربوهم : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . . الآية } .
ومع هذا الأمر يبين الله حكمة القتال ويشجع عليه ، وتكريم الاستشهاد في سبيل الله ، وإكرام الشهداء ، والنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله ، وإهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم .
ثم بعد ذلك يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يؤلفون مع اليهود خطرا كبيرا على المسلمين في المدينة أول الأمر . وتبين السورة هلعهم وجُبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال ، وهم يتظاهرون بالإيمان . تفضحهم السورة في تولّيهم للشيطان وتآمرهم مع اليهود ، ويهددهم الله بالعذاب عند الموت ، ومن ثم يحذّر المؤمنين أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، ولا تُبطلوا أعمالكم } . وتُختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إذا بخلوا بإنفاق المال ، والبذل في القتال ، فالله غير عاجز عن أن يُذهبهم ويأتي بخير منهم : { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم } .
صدوا عن سبيل الله : صرفوا الناس عن الإسلام .
قسم الله الناس فريقين : أهلَ الكفر الذين صدّوا الناسَ عن دين الله ، وبيّن أن هؤلاء قد أبطلَ أعمالهم .
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } : أي كفروا بتوحيد الله ولقائه وبآياته ورسوله وصدوا غيرهم عن الدخول في الإِسلام .
{ أضل أعمالهم } : أي أحبط أعمالهم الخيرية كإِطعام الطعام وصلة الأرحام فلا يرى لها أَثَرُ يوم القيامة .
قوله تعالى { الذين كفرا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } هذه جملة خبريّة أخبر تعالى فيها عن حال من كفر بالله ورسوله وصد عن سبيل الله أي الإِسلام غيره من الناس أضل الله عمله فأحبطه فلم يحصل له ثواب في الآخرة ، ولازمه أنه هالك في النار ، وتكون هذه الجملة كأنها جواب السؤال نشأ عن قوله تعالى في خاتمة سورة الأحقاف قبل هذه السورة وهي فهل يُهلك إلاّ القوم الفاسقون أي ما يهلك إلاّ القوم الفاسقون فقال قائل من هم القوم الفاسقون ؟ فكان الجواب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وهو وجه ارتباط بين السورتين حسن .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }
هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين ، والسبب في ذلك ، ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك ، فقال : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهؤلاء رؤساء الكفر ، وأئمة الضلال ، الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته ، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه .
فهؤلاء { أَضَلَّ } الله { أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأشقاهم بسببها ، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الحق وأولياء الله ، أن الله جعل كيدهم في نحورهم ، فلم يدركوا مما قصدوا شيئا ، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها ، أن الله سيحبطها عليهم ، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل ، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان ، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة ، كانت الأعمال لأجلها باطلة .
سورة{[1]} محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وتسمى القتال و{[2]}تسمى أيضا{[3]} الذين كفروا .
مقصودها التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين بإدامة الجهاد للكفار ، حتى يلزموهم الصغار ، أو يبطلوا{[4]} ضلالهم كما أضل [ الله-{[5]} ] أعمالهم ، لا سيما أهل الردة الذين [ فسقوا عن محيط الدين إلى -{[6]} ] أودية الضلال المبين ، والتزام{[7]} هذا الخلق الشريف إلى أن تضع الحرب أوزارها بإسلام أهل الأرض كلهم بنزول{[8]} عيسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى ذلك دل اسمها " الذين كفروا " لأن من المعلوم أن من صدك عن سبيلك قاتلته و[ أنك-{[9]} ] إن لم تقاتله كنت مثله ، واسمها محمد واضح في ذلك لأن الجهاد كان خلقه عليه/أفضل الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله تعالى وهو نبي الرحمة بالملحمة لأنه لا يكون حمد وثم نوع ذم كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبأ وفي الفاتحة ، ومتى كان كف عن أعداء الله [ كان-{[10]} ] الذم ، [ و-{[11]} ] أوضح أسمائها في هذا المقصد القتال ، فإن من المعلوم أنه لأهل الضلال { بسم الله } الملك الأعظم الذي [ أقام-{[12]} ] جنده للذب عن حماه { الرحمن } الذي عمت رحمته تارة بالبيان وأخرى بالسيف والسنان { الرحيم } الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان .
لما أقام سبحانه الأدلة في الحواميم حتى صارت كالشمس ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، وختم بأنه لا يهلك بعد هذه الأدلة إلا القوم{[13]} الفاسقون ، افتتح هذه بالتعريف بهم فقال سبحانه وتعالى :
فقال سبحانه وتعالى : { الذين كفروا } أي ستروا أنوار الأدلة فضلوا على{[59255]} علم { وصدوا } أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر { عن سبيل الله } أي الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم { أضل } أي أبطل إبطَّالاً عظيماً يزيل العين والأثر-{[59256]} { أعمالهم * } التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر بعد أن وفر سيئاتهم وأفسد بالهم ، ومن جملة أعمالهم ما يكيدونكم به لأنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة{[59257]} أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم{[59258]} الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم وأنتم في غاية الاجتراء عليهم ، فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم ، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً ، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره ، محتوم بخيبته وخسره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : {[59259]}لما انبنت{[59260]} سورة الأحقاف على ما ذكر من مآل من كذب وافترى {[59261]}وكفر{[59262]} وفجر ، وافتتحت السورة بإعراضهم ، ختمت بما قد-{[59263]} تكرر من تقريعهم وتوبيخهم ، فقال تعالى : { ألم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى{[59264]} } أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة ، ثم ذكر عرضهم على النار إلى{[59265]} قوله { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } فلما ختم بذكر هلاكهم ، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى : { فإذا{[59266]} لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق {[59267]}فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها{[59268]} } الآية بعد ابتداء السورة بقوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى{[59269]} والضلال بيده{[59270]} ، فنبه على الطريقين بقوله { أضل أعمالهم } وقوله في الآخر{[59271]} { كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } ثم بين {[59272]}أنه تعالى{[59273]} لو شاء لانتصر منهم ولكن{[59274]} أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختباراً ، ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال : { إن تنصروا الله ينصركم } ثم التحمت الآي - انتهى .