وبعد بيان حال المشركين وسوء مصيرهم ، وصفَ حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم ساعة يخرجون من عنده يقولون للواعين من الصحابة : ماذا قال محمد ونحن في مجلسه ؟ فإننا لم نفهم منه شيئا . وهذا كله سخرية واستهزاء .
{ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ }
فهم مشغولون بالخبث وحطام الدنيا .
قرأ ابن كثير : أنفا بهمزة بغير مد على وزن حذر . والباقون : آنفا بمد الهمزة على وزن فاعل .
{ 16-17 } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }
يقول تعالى : ومن المنافقين { مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ما تقول استماعا ، لا عن قبول وانقياد ، بل معرضة قلوبهم عنه ، ولهذا قال : { حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } مستفهمين عما قلت ، وما سمعوا ، مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آنِفًا } أي : قريبا ، وهذا في غاية الذم لهم ، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم ، ووعته قلوبهم ، وانقادت له جوارحهم ، ولكنهم بعكس هذه الحال ، ولهذا قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : ختم عليها ، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم ، التي لا يهوون فيها إلا الباطل .
قوله تعالى : " ومنهم من يستمع إليك " أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون : عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت{[13927]} والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم ، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، قاله الكلبي ومقاتل . وقيل : كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، فيستمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر . " حتى إذا خرجوا من عندك " أي إذا فارقوا مجلسك . " قالوا للذين أوتوا العلم " قال عكرمة : هو عبد الله بن العباس . قال ابن عباس : كنت ممن يُسأل ، أي كنت من الذين أوتوا العلم . وفي رواية عن ابن عباس : أنه يريد عبد الله بن مسعود . وكذا قال عبد الله بن بريدة : هو عبد الله بن مسعود . وقال القاسم بن عبد الرحمن : هو أبو الدرداء . وقال ابن زيد : إنهم الصحابة . " ماذا قال آنفا " أي الآن ، على جهة الاستهزاء . أي أنا لم ألتفت إلى قوله . و " آنفا " يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك ، من قولك : استأنفت الشيء إذا ابتدأت به . ومنه أمر أنف ، وروضة أنف ، أي لم يرعها أحد . وكأس أنف : إذا لم يشرب منها شيء ، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف . قال الشاعر{[13928]} :
ويحرم سرُّ جارتهم عليهم *** ويأكل جارهم أنفَ القِصاع
وقال آخر{[13929]} :
إن الشِّواء والنَّشيل والرُّغُفْ *** والقيْنَةُ الحسناء والكأس الأنف
للطاعنين الخيل والخيل قُطُفْ{[13930]}
قد غَدَا يحملني في أَنْفِه{[13931]}
أي في أوله . وأنف كل شيء أوله . وقال قتادة في هؤلاء المنافقين : الناس رجلان : رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع ، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع . وكان يقال : الناس ثلاثة : فسامع عامل ، وسامع عاقل ، وسامع غافل تارك .
قوله تعالى : " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم " فلم يؤمنوا . " واتبعوا أهواءهم " في الكفر .
ولما كان التقدير بعد هذا التمثيل والوصف{[59555]} والتشويق الذي يبهر العقول : فمن الناس من-{[59556]} يسمع منك بغاية المحبة والإنصاف فيعليه{[59557]} الله بفهم ما يتلوه واعتقاده والعمل به واعتماده وهم المتقون الذين وعدوا الجنة ، عطف عليه قوله تعالى : { ومنهم من يستمع } أي بغاية جهده لعله يجد في المتلو مطعناً يشك به على الضعفاء ، وبين تعالى بعدهم بقوله : { إليك } ولما أفرد المستمع نظراً إلى لفظ " من " إشارة إلى قلة المستمع جمع نظراً إلى معناه إشارة إلى كثرة المعرضين الجامدين المستهزئين من المستمعين منهم والسامعين فقال تعالى : { حتى } أي{[59558]} واستمر إجهادهم لأنفسهم بالإصغاء حتى { إذا خرجوا } أي المستمعون والسامعون جميعاً{[59559]} { من عندك قالوا } أي الفريقان عمى وتعاميا واستهزاء . ولما كان مجرد حصول العلم النافع مسعداً ، أشار إلى تعظيمه ببنائه{[59560]} لما لم يسم فاعله فقال تعالى : { للذين أوتوا العلم } أي{[59561]} بسبب تهيئة الله لهم بما{[59562]} آتاهم من صفاء الأفهام لتجردهم عن النفوس والحظوظ وانقيادهم{[59563]} لما تدعوا إليه الفطرة الأولى : { ماذا قال } أي النبي صلى الله عليه وسلم { آنفاً } أي قبل افتراقنا وخروجنا عنه من ساعة - أي أول وقت - تقرب منه ، من أنفة الصلاة - بالتحريك ، وهو ابتداؤها وأولها ، قال أبو حيان{[59564]} : حال ، أي مبتدئاً ، أي ما القول الذي-{[59565]} ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه . ورد كونه ظرفاً بأنه تفسير معنى ، وأنه لا يعلم أحداً من النحاة عده في الظروف . و-{[59566]}قال البغوي-{[59567]} : ائتنفت الأمر : ابتدأته ، وأنف الشيء أوله ، قال مقاتل : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه استهزاء : ماذا قال محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال ابن عباس رضي الله عنه : وقد سئلت فيمن سئل .
ولما دل هذا من المصغي ومن المعرض على غاية الجمود الدال على غاية الشقاء ، أنتج قوله : { أولئك } أي خاصة هؤلاء البعداء من الفهم ومن كل خير { الذين طبع الله } أي{[59568]} الملك الأعظم الذي لا تناهي لعظمه جل وعلا { على قلوبهم } أي{[59569]} فلم يؤمنوا ولم يفهموا فهم الانتفاع لأن مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك . ولما كان التقدير : {[59570]}إنهم ضلوا حتى{[59571]} صاروا كالبهائم{[59572]} ، عطف عليه ما هو من أفعال البهائم{[59573]} فقال : { واتبعوا } أي بغاية جهدهم { أهواءهم * } أي مجانبين{[59574]} لوازع العقل وناهي المروءة ، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام ويقبلون على جمع{[59575]} الحطام ، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية " مثل الجنة " بأنهم زين لهم سوء أعمالهم .
قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم 16 والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم 17 فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم 18 فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم } .
ذلك إخبار من الله ، يبين فيه حقيقة المنافقين وما هم عليه من بلادة الضمير ، وصقاقة الحس ، وكزازة الطبع . أولئك صنف من البشر ماكر ومراوغ وبور ، لا خير فيه ، فلا يعطف قلبه وعظ أو تذكير ولا يثني سماعه للقرآن عن لجوجه في الجحود والتكذيب والخداع .
فقال سبحانه : { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا } والمراد بهم المنافقون كعبد الله بن أبي ابن سلول وأمثاله ، فقد ذكر أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه . وقيل : كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين فيستمعون منه ما يقول فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر .
قوله : { ماذا قال آنفا } الآنف معناه ، الماضي القريب . يقال : فعله آنفا أي قريبا . أو أول هذه الساعة . أو أول وقت كنا فيه{[4236]} يعني ، قال المنافقون لأهل العلم من الصحابة كابن عباس وابن مسعود ، لدى خروجهم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا قال الآن ؟ وذلك على سبيل التهكم والاستهزاء .
قوله : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } أي هؤلاء المنافقون بصفاتهم الخبيثة من فساد الطبائع وسوء الفطر ، قد ختم الله على قلوبهم فلا يهتدون إلى الحق وإنما يتبعون ما تسوّله لهم أهواؤهم من الجحود والتكذيب .