اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُ إِلَيۡكَ حَتَّىٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنۡ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُمۡ} (16)

قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعنى الكفار منهم من يستمع إليك يعني المنافقون يستمعون إليك فلا يسمعونه ، ولا يَفْهَمُونَه تهاوناً . والضمير في قوله : «وَمِنْهُمْ » يحتمل أن يرجع إلى معنى قوله : { هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَاءً حَمِيماً } يعنى ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك{[51350]} .

قوله { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } قال المفسرون : حَتَّى للعطف . قالوا : والعطف بحتى لا يحسُنُ إلا إذا كان المعطوف جُزْءاً من المعطوف عَلَيْهِ إمَّا أعلاه وإما أدونه ، كقولك : أَكْرَمَنِي النَّاسُ حَتَّى المَلِكُ وجاء الحُجَّاجُ حَتَى المُشَاةُ . وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف متعلّقاً بالمعطوف عليه من حيث المعنى . ولا يشترط بالعطف بالواو ذلك . فوجه التعلق ههنا هو أن قوله : { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } يفيد معنًى واحداً في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلُّم الطالب للتفهم ، يفعلون ذلك استهزاء كما قال تعالى عنهم : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] . ويحتمل أن يكون فعلهم ذلك لعدم فهمهم . والأول يؤيده قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } [ الأعراف : 101 ] ، وقوله بعد ذلك { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ } أي تركوا اتّباعَ الحقِّ ، إما لعدم الفهم أو لعدم الاستفادة{[51351]} .

قوله : «آنِفاً » فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الحال فقدَّره أبو البقاء : ماذا{[51352]} قال مُوْتَنِفاً ؟ وقدره غيره مبتدئاً أي ما القول الذي ائْتَنَفَهُ الآن قبل انْفصاله عنه ؟{[51353]}

والثاني : أنه منصوب على الظرف أي ماذا قال الساعة . قاله الزمخشري{[51354]} . وأنكره أبو حيان قال : لأنا لم نعلم أحداً عده من الظروف{[51355]} .

واختلفت عبارتهم في معناه ؛ فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرف حالي كالآنَ ، ولذلك فسّره بالسَّاعةِ{[51356]} .

وقال ابن عطية : والمفسرون يقولون : آنفاً معناه الساعة الماضية القريبة منا وهذا تفسير بالمعنى{[51357]} . وقرأ البَزِّيُّ{[51358]} بخلاف عنه أنِفاً بالقصر . والباقون المدِّ ، وهما لغتان بمعنًى واحدٍ . وهما اسما فاعل كَحذر وحَاذِر وأَسنٍ وآسنٍ ؛ إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مُجَرَّد ، بل المستعمل ائْتَنَفَ يأتَنِفُ ، واستأنف يَسْتَانِفُ والأئْتناف والاسْئتِنَاف الابتداء . قال الزجاج : هو من اسْتَأنَفْتُ الشَّيْءَ أي{[51359]} ابْتَدَأتُهُ أي ماذا قال في أول وقت يَقْرُبُ منَّا ؟{[51360]}

فصل

روى مقاتل ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ){[51361]} أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عَبْدَ الله بن مسعود استهزاءاً ماذا قال محمد آنفاً ؟ ثم قال تعالى : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } فلم يؤمنوا واتَّبعوا أهواءهم في الكفر والنفاق{[51362]} .


[51350]:وانظر تفسير العلامة القرطبي 16/237، 238.
[51351]:الرازي السابق.
[51352]:التبيان السابق، وهو أحد قولي أبي البقاء.
[51353]:وهو رأي أبي حيان في البحر 8/79.
[51354]:قال: على فعل نصب على الظرف.
[51355]:البحر المحيط 8/79.
[51356]:الكشاف 3/534.
[51357]:البحر المحيط المرجع السابق.
[51358]:وهي قراءة ابن كثير أيضا. وهي سبعية متواترة. انظر السبعة 600 والإتحاف 393.
[51359]:في (ب) إذا. والتصحيح منها كما في المعاني.
[51360]:معاني القرآن وإعرابه 5/10.
[51361]:زيادة من (أ).
[51362]:وانظر القرطبي 16/238 والكشاف 3/534.