الرؤيا : ما يراه النائم . صدَق الله رسوله الرؤيا : صدقه فيما رآه في نومه ولم يكذبه .
محلّقين رؤوسكم ومقصرين : بعضكم يحلق شعره كله ، وبعضكم يقصر منه . رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه وهو في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية رؤيا أنه يدخلُ المسجدَ الحرام هو وأصحابه آمنين ، منهم من يحلق شعره كله ، ومنهم من يقصّر منه . فأخبر بذلك أصحابه آمنين ، منهم من يحلق شعره كله ، ومنهم من يقصّر منه . فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة في ذلك العام الذي خرجوا فيه إلى الحديبية . فلما انصرفوا ولم يدخلوا مكة شقَّ ذلك عليهم ، وقال المنافقون : أين رؤيا النبي التي رآها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ودخلوا في العام المقبل . وهذا معنى { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام . . . } الآية { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } هو صلح الحديبية وفتح خيبر .
{ 27-28 } { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
يقول تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت ، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : " أخبرتكم أنه العام ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " قال الله هنا : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها ، { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي : في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف ، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }
ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها ، هدى ورحمة .
قوله تعالى : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة ، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة ، فأنزل الله تعالى : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام ، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق . وقيل : إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت ، وأنه سيدخل . وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية ، وأن رؤيا الأنبياء حق . والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء . " لتدخلن " أي في العام القابل " المسجد الحرام إن شاء الله " قال ابن كيسان : إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه ، خوطب في منامه بما جرت به العادة ، فأخبر الله عن رسول أنه قال ذلك ولهذا استثنى ، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " {[14028]} [ الكهف : 23 ] . وقيل : خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه ، كما قال : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " . وقيل : استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون ، قاله ثعلب . وقيل : كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى ، قال الحسين بن الفضل . وقيل : الاستثناء من " آمنين " ، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة . وقيل : معنى " إن شاء الله " إن أمركم الله بالدخول . وقيل : أي إن سهل الله . وقيل : " إن شاء الله " أي كما شاء الله . وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى " إذ " ، أي إذ شاء الله ، كقوله تعالى : " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " {[14029]} [ البقرة : 278 ] أي إذ كنتم . وفيه بعد ، لأن " إذ " في الماضي من الفعل ، و " إذا " في المستقبل ، وهذا الدخول في المستقبل ، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة ، وذلك عام الحديبية ، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا ، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع ، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " . وإنما قيل له في المنام : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام ، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك ، والله تعالى لا يشك ، و " لتدخلن " تحقيق فكيف يكون شك . ف " إن " بمعنى " إذا " . " آمنين " أي من العدو . " محلقين رؤوسكم ومقصرين " والتحليق والتقصير جميعا للرجال ، ولذلك غلب المذكر على المؤنث . والحلق أفضل ، وليس للنساء إلا التقصير . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " {[14030]} . وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المروة بمشقص . وهذا كان في العمرة لا في الحج ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته . " لا تخافون " حال من المحلقين والمقصرين ، والتقدير : غير خائفين . " فعلم ما لم تعلموا " أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم . وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها ، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام ، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعدة بأضعاف ذلك . وقال الكلبي : أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم . وقيل : علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم .
قوله تعالى : " فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر ، قال ابن زيد والضحاك . وقيل فتح مكة . وقال مجاهد : هو صلح الحديبية ، وقاله أكثر المفسرين . قال الزهري : ما فتح الله في الإسلام أعظم من صلح الحديبية ، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس ، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا ، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة . فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر . يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف .
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ( 27 ) }
لقد صدق الله رسوله محمدًا رؤياه التي أراها إياه بالحق أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا تخافون أهل الشرك ، محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين ، فعلم الله من الخير والمصلحة ( في صرفكم عن " مكة " عامكم ذلك ودخولكم إليها فيما بعد ) ما لم تعلموا أنتم ، فجعل مِن دون دخولكم " مكة " الذي وعدتم به ، فتحًا قريبًا ، وهو هدنة " الحديبية " وفتح " خيبر " .