النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .
بعد أن ذكر اللهُ أن في الإنس من آمنَ ومنهم من كفر ، بيّن هنا أن الجنّ كذلك ، وأنهم عالَمٌ مستقلّ بذاته . ويجب أن نعلم أن عالَم الملائكة وعالَم الجن يختلفان عنا تمامَ الاختلاف ولا نعلم عنهما شيئا إلا من الأخبار التي جاءت بها الرسُل الكرام . ونحن نؤمن بوجودهما ، وأن النبيّ عليه الصلاة والسلام بلّغ الجنَّ رسالته كما ورد هنا وفي عدد من السور .
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن علقمة قال : قلت لعبدِ الله بن مسعود ، هل صحبَ رسولَ الله منكم أحد ليلة الجنّ ؟ قال ما صحبه منا أحد ، ولكنّا افتقدناه ذات ليلة ، فبتنا بشرِّ ليلة باتَ بها قوم . فلمّا كان وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قِبَل حِراء ، فقال : أتاني داعي الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم القرآن . فانطلق فأرانا آثارهم . . . الحديث .
لقد وجّهنا إليك أيها الرسول مجموعة من الجن ليستمعوا القرآن ، فلما سمعوه قالوا : أنصِتوا . فلما فرغ من قراءته رجعوا إلى قومهم فأنذروهم .
{ 29-32 } { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة .
فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم ، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه { نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي : وصى بعضهم بعضا بذلك ، { فَلَمَّا قُضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن .
{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } كانوا تسعة نفر من الجن من نينوى من أرض الموصل وذلك أنه عليه السلام أمر أن ينذر الجن فصرف إليه نفر منهم ليتسمعوا ويبلغوا قومهم { فلما حضروه } قال بعضهم لبعض { أنصتوا } أي اسكتوا { فلما قضى } أي فرغ من تلاوة القرآن رجعوا { إلى قومهم منذرين } وقالوا لهم ما قص الله في كتابه
ولما كان ما ذكر من البعد من الإيمان مع تصريف العظات والعبر والآيات يكاد أن يؤنس السامع من إيمان هؤلاء المدعوين{[59058]} ، قربه دلالة على عزته وحكمته بالتذكير بالإيمان {[59059]}من هم{[59060]} أعلى منهم عتواً وأشد نفرة وأبعد إجابة وأخفى شخصاً ، فقال جواباً عما وقع له صلى الله عليه وسلم في عرض نفسه الشريفة على-{[59061]} القبائل وإبعادهم عنه لا سيما أهل الطائف ، دالاً على تمام القدرة بشارة للمنزل عليه-{[59062]} صلى الله عليه وسلم وتوبيخاً لما تأخر عن إجابته من قومه عاطفاً على ما تقديره : اذكر هذه الأخبار : { وإذ } أي واذكر حين { صرفنا إليك } أي وجهنا توجيهاً خالصاً حسناً متقناً فيه ميل إليك وإقبال{[59063]} عليك ، وإعراض عن غيرك ، بوادي نخلة عند انصرافك من الطائف حين عرضت نفسك الشريفة عليهم بعد موت النصيرين{[59064]} فردوك رداً تكاد تنشق منه المرائر ، وتسل من تذكاره النواظر .
ولما كان استعطاف من جبل على النفرة وإظهار من بني على الاجتنان أعظم في النعمة ، عبر بما يدل على ذلك فقال : { نفراً } وهو اسم يطلق على ما دون العشرة ، وهو المراد هنا ، ويطلق على الناس كلهم ، وحسن {[59065]}التعبير به{[59066]} أن هؤلاء لما خصوا بشرف السبق وحسن المتابعة كانوا كأنهم هم النفر لا غيرهم { من الجن } من أهل نصيبين من الناحية التي منها عداس الذي جبرناك{[59067]} به في{[59068]} الطائف بما شهد به لسيديه{[59069]} عتبة وشيبة ابني ربيعة أنك خير أهل الأرض مع أنه{[59070]} ليس لهؤلاء النفر من جبلاتهم إلا النفرة والاجتنان وهو الاختفاء والستر فجعلناهم{[59071]} ألفين لك ظاهرين عندك لتبلغهم ما أرسلناك{[59072]} به فإنا أرسلناك إلى جميع الخلائق ، وهذا جبر لك وبشارة بإيمان النافرين{[59073]} من الإنس كما أيدناك منهم بعد نفرة{[59074]} أهل الطائف بعداس ، ثم وصفهم بقوله : { يستمعون القرآن } أي يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير ، الفارق {[59075]}بين{[59076]} كل ملبس وأنت في صلاة الفجر في نخلة تصلي بأصحابك ، ودل على قرب زمن{[59077]} الصرف من زمن الحضور بتعبيره{[59078]} سبحانه بالفاء في قوله تعالى مفصلاً لحالهم : { فلما حضروه } أي صاروا بحيث يسمعونه { قالوا } أي قال بعضهم{[59079]} ورضي الآخرون{[59080]} : { أنصتوا } أي اسكتوا و-{[59081]} ميلوا بكلياتكم واستمعوا{[59082]} حفظاً للأدب على بساط الخدمة ، وفيه تأدب مع العلم{[59083]} في تعلمه و-{[59084]}أيضاً مع معلمه{[59085]} ، قال القشيري : فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار ، والثوران والانزعاج يدل على غيبة أو قلة تيقظ{[59086]} ونقصان من الاطلاع ، ودل على أن ما {[59087]}استمعوه كان{[59088]} يسيراً وزمنه{[59089]} قصيراً ، وعلى تفصيل حالهم بعد انقضائه بالفاء في قوله تعالى : { فلما } أي فأنصتوا{[59090]} فحين { قضي } أي{[59091]} حصل الفراغ من قراءته الدالة على عظمته من أيّ قارئ كان { ولوا } أي أوقعوا التولية - أي القرب - بتوجيه الوجوه والهمم والعزائم { إلى قومهم } الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه ، ودل على حسن تقبلهم لما{[59092]} سمعوه ورسوخهم في اعتقاده بقوله تعالى : { منذرين * } أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن-{[59093]} عباس رضي الله عنهما : جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .