" أن تقول نفس " " أن " في موضع نصب أي كراهة " أن تقول " وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر " أن تقول " . وقيل : أي من قبل " أن تقول نفس " لأنه قال قيل هذا : " من قبل أن يأتيكم العذاب " الزمخشري : فإن قلت لم نكرت ؟ قلت : لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر . ويجوز أن يريد نفسا متميزة من الأنفس ، إما بلجاج في الكفر شديد ، أو بعقاب عظيم . ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى :
ورُبَّ بَقِيعٍ لو هتفتْ بِجَوِّهِ *** أتاني كريم ينفضُ الرأس مُغْضَبَا
وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا ، ونظيره : رب بلد قطعت ، ورب بطل قارعت ، ولا يقصد إلا التكثير . " ياحسرتا " والأصل " يا حسرتي " فأبدل من الياء ألف ؛ لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت ، وربما ألحقوا بها الهاء . أنشد الفراء :
يا مَرْحَبَاهُ بحمارٍ نَاجِيَهْ{[13329]} *** إذا أَتَى قَرَّبْتُهُ للسَّانِيَهْ
وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ؛ لتدل على الإضافة . وكذلك قرأها أبو جعفر : " يا حسرتاي " والحسرة الندامة " على ما فرطت في جنب الله " قال الحسن : في طاعة الله . وقال الضحاك : أي في ذكر الله عز وجل . قال : يعني القرآن والعمل به . وقال أبو عبيدة : " في جنب الله " أي في ثواب الله . وقال الفراء : الجنب القرب والجوار ، يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره ، ومنه " والصاحب بالجنب " [ النساء : 36 ] أي ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة . وقال الزجاج : أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه . والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبا ، تقول : تجرعت في جنبك غصصا ، أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك . وقيل : " في جنب الله " أي في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل وثوابه ، والعرب تسمي الجانب جنبا ، قال الشاعر :
قُسِم مجهودا لذاكَ القلب *** الناس جَنْبٌ والأميرُ جَنْبُ
يعني الناس من جانب والأمير من جانب . وقال ابن عرفة : أي تركت من أمر الله ، يقال : ما فعلت ذلك في جنب حاجتي ، قال كثير :
ألا تَتَّقِيَّنَ الله في جَنْبِ عاشق *** له كَبِدٌ حَرَّى عليك تَقَطَّعُ
وكذا قال مجاهد ، أي ضيعت من أمر الله . ويروى عن النبي صلى أنه قال : ( ما جلس رجل مجلسا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة ) أي حسرة{[13330]} . خرجه أبو داود بمعناه . وقال إبراهيم التيمي : من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره ، قد ورثه وعمل فيه بالحق ، كان له أجره وعلى الآخر وزره ، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل ، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو .
" وإن كنت لمن الساخرين " أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا وبأولياء الله تعالى : قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل " إن كنت " النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . وقيل : وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل ، أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى .
ولما كان للإنسان عند وقوع الخسران أقوال وأحوال لو تخيلها قبل هجومه لحسب حسابه فباعد أسبابه . علل الإقبال على الاتباع بغاية الجهد والنزاع فقال : { أن } أي كراهة أن { تقول } ولما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله ، عبر بقوله : { نفس } أي عند وقوع العذاب لها ، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد { يا حسرتى } والتحسر : الاغتمام على ما فات والتندم عليه ، وألحق الألف بدلاً من الياء تعظيماً له ، أي يا طول غماه لانكشاف ما فيه صلاحي عني وبعده مني فلا وصول لي إليه لاستدراك ما فات منه ، وذلك عند انكشاف أحوالها ، وحلول أوجالها وأهوالها ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر " حسرتاي " بالجميع بين العوض وهو الألف والمعوض عنه وهو الياء ، وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم ، وأدل على المراد وأعظم ، فقال : { على ما فرطت } أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه ، وتعذر انضمامه والتئامه .
ولما كان حق كل أحد قريباً منه حساً أو معنى حتى كأنه إلى جنبه ، وكان بالجنب قوام الشيء ولكنه قد يفرط فيه لكونه منحرفاً عن الوجاه والعيان ، فيدل التفريط فيه على نسبة المفرط لصاحبه إلى الغفلة عنه ، وذلك أمر لا يغفر ، قال : { في جنب } وصرف القول إلى الاسم الأعظم لزيادة التهويل بقوله : { الله } أي حق الملك الأعظم الذي هو غير مغفول عنه ولا متهاون به .
ولما كان المضرور المعذب المقهور يبالغ في الاعتراف ، رجاء القبول والانصراف ، قال مؤكداً مبالغة في الإعلام بالإقلاع عما كان يقتضيه حاله ، ويصرح به مقاله ، من أنه على الحق واجد الجد : { وإن } أي والحال أني { كنت } أي كان ذلك في طبعي { لمن الساخرين * } أي المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها ، وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة ، أي تقول : هذا لعله يقيل منها ويعفي عنها على عادة المترققين في وقت الشدائد ، لعلهم يعادون إلى أجمل العوائد .
قوله : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } أن بمعنى لئلا ، أو كراهية ؛ أي لئلا تقول نفس . وقد نكَّر النفس ؛ لأن المراد بها بعض الأنفس وهم الظالمون الخاسرون ؛ إذْ يقول الهالك الخاسر يوم القيامة حيث العذاب المباغت الداهم والإياس الكامل { يَا حَسْرَتَا } والأصل : يا حسرتي . ولكن العرب تحوِّل الياء ألفا لأنها أمكن في الاستغاثة . ي يا ويلتا ويا ندما { عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } على ما ضيعت من أوامر الله . أو على ما قصرت في طاعة الله { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي وما كنت من المستهزئين بدين الله وبكتابه الحكيم وبما جاء به المرسلون وبالمؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.