تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

وأن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه ، وأدعوكم به إلى ما يحييكم ، هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله ، لا يَضِلُّ سالكه ، ولا يهتدي تاركه .

الوصية العاشرة : لا تتبعوا الطرق الباطلة المضلّة التي نهاكم الله عنها ، حتى لا تتفرقوا شيعا وأحزابا ، وتبعدوا عن صراط الله المستقيم ، كما هو حاصلٌ اليوم . فنحن لنا في كل خِربةٍ دولةٌ ذات مجد ! ! في كل بيت عدة شيع وأحزاب ! ! هدانا الله وتجاوز عما نحن فهي من مخادعة !

أخرج الإمام أحمد والنسائي وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال :

«خطّ رسول الله خطاً بيده ، ثم قال : هذا سبيلُ الله مستقيما ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذِه السبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } .

وقد جعل الله تعالى الصراط المستقيم واحدا والسبلَ المخالفة متعددة ، لأن الحق واحدٌ والباطل كثير . ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق ، كان التفرق فيه سبب الضَّعف وذلك المتفرقين وضياع حقهم .

{ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . لقد أوصاكم باتباع صراط الحق المستقيم ونهاكم عن سبيل الضلالات والأباطيل ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردي في الدنيا والآخرة .

وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا ، من ذلك ما أخرجه عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَيُّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا : قل تَعالوا أتلُ ما حرّم ربُّكم عليكم . . . ثم قال فَمن وفى بهنّ فأجرُه على الله ، ومن انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدُّنيا كانت عقوبتُه ، من أخّر إلى الآخرة كان أمرُه إلى الله ، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه » .

قراءات :

قرأ حمزة والكسائي «وإن هذا صراطي » بكسر همزة إن . وقرأ ابن عامر ويعقوب «وأنْ هذا صراطي » بفتح همزة أَن وبتخفيف النون . وقرأ ابن عامر «صراطيَ » بفتح الياء والباقون بتسكين الياء . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم : وأنَّ ، بفتح الهمزة وتشديد النون .

لقد رسمتْ هذه الآية والآيتين اللتين قبلها للإنسان طريق علاقته بربه الذي يرجع إليه الإحسان والفضل في كل شيء : «ألاّ تُشرِكوا به شيئا » ، ووضعت الأساس المتين الذي يُبنى عليه صرح الأُسَر التي تكوِّن الأمةَ القوية الناجحة في الحياة : «وبالوالدَين إحسانا » ، وسدّت منافذ الشر الذي يصيب الإنسان من الإنسان في الأنفُس والأعراض والأموال ، وهي عناصر لا بدّ لسلامة الأُمة من سلامتها : «ولا تقتلوا أولادَكم » ، «ولا تقتلوا النفسَ » «ولا تقربوا مال اليتيم » ثم ذكرتْ أهمّ المبادئ التي تسمو الحياة الاجتماعيةُ بالتزامِها والمحافظة عليها : «وأوفوا الكيلَ والميزان » «وإذا قُلتم فاعِدلوا » «وبعهدِ الله أَوفوا » . وخَتمت بأن هذه التكاليف ، وتلك المبادئ ، هي الصِراط المستقيم ، بُعِث به محمد عليه الصلاة والسلام ، كما بعث به جميع الرسل السابقين .

وقد أطلق العلماء على ما جاء في هذه الآية والآيتين اللتين قبلها «الوصايا العشر » نظرا لتذييل آياتها الثلاث بقولِ الله : «ذلكُم وصّاكم به » وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : «مَن سرَّه أن ينظر إلى وصيّةِ محمد التي عليها خاتَمُه فليقرأْ هذه الآيات : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . . . إلى قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .

ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال :

لما أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يَعرِض نفسه على قبائل العرب خرج إلى مِنَى وأنا وأبو بكرٍ معه . فوقف رسول الله على منازل القوم ومضاربهم ، فسلَّم عليهم وردّوا السلام . وكان في القوم مفروقُ بن عمرو ، وهانئ بن قَبيصة ، والمثنّى بنُ حارثة والنعمانُ بن شَريك .

وكان مفروق أغلبَ القوم لساناً وأوضَحهم بيانا ، فالتفتَ إلى رسول الله وقال له : إلامَ تدعو يا أخا قريش ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أدعوكم إلى شهادة أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأَنّي رسولُ الله ، وأن تُؤوُني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدّيَ حقّ اللهِ الذي أمرني به ، فإن قريشاً قد تظاهرتْ على أمر الله ، وكذّبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد .

فقال مفروق : وإلامَ تدعو أيضاً يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم . . . الآيات الثلاث » .

فقال مفروق : وإلامَ تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض ، ولو كان من كلامهم لعرفناه . فتلا رسولُ الله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فقال مفروق : دعوتَ واللهِ يا قرشِيُّ إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وقد أفِكَ قوم كذّبوك وظاهروا عليك .

وقال هانئ بن قبيصة : قد سمعتُ مقالتك واستحسنتُ قولك يا أخا قريش . ويعجبني ما تكلّمت به . فبشّرهم الرسول- إن آمنوا- بأرضِ فارسَ وأنهارِ كسرى . فقال النعمان : اللهمُّ وإنّ ذلك يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ثم نهض رسول الله وتركَهم وكلًّهم يعجَب من هذه الفصاحة ، وتلك المعاني السامية ، والفضائل العليا .

هذه مكانة الآية والآيتين اللتين قبلها من ذلك الكتاب العظيم ، وهذا مبلغ تأثيرها في نفوس العرب ، أهلِ الجاهلية ! وكيف لا تكون لها تلك المكانةُ وقد جمعتْ بأسلوبها الآخذِ بالقلوب أصولَ الفضائل ، وعُمُدَ الحياة الطيبة التي تنبع من الفطرة السليمة ! !

وبعد ، فأين المسلمون اليوم حينما يسمعون هذه الآيات ، ثم ينظرون إلى ما هم فيه من تفرُّق في الآراء والأحكام ، ومجافاةٍ لأحكام الله ، وبُغضٍ لما لا يتفق وأهواءَهم منها ، ومن الارتماء في أحضان أعدائهم المستعمرين ، قدامى وجُدُد ! !

نسأل الله تعالى أن يجمعنا على كتابه الكريم ويهدينا الصراط المستقيم .