الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

قوله { وَأَنَّ هَذَا } قرأ الأخوان بكسر " إن " على الاستئناف و " فاتبعوه " جملة معطوفة على الجملة قبلها . وهذه الجملة الاتئنافية تفيد التعليل لقوله " فاتبعوه " ، ولذلك استشهد بها الزمخشري على ذلك كما تقدَّم ، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في " فاتَّبِعوه " كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي .

وقرأ ابن عامر " وأَنْ " بفتح الهمزة وتخفيف النون ، والباقون بالفتح أيضاً والتشديد . فأمَّا قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه ، أحدها : وهو الظاهر أنها في محل نصب نَسَقاً على ما حرَّم أي : أتل ما حرم وأتل أنْ هذا صراطي ، والمراد بالمتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ صراطه صراط لله عز وجل ، وهذا قول الفراء قال : " بفتح " أن " مع وقوع " أتلُ " عليها يعني : أتل عليكم أنَّ هذا صراطي مستقيماً . والثاني : أنها منصوبة المحل أيضاً نسقاً على " أن لا تشركوا " إذا قلنا بأنَّ " أَنْ " المصدرية وأنها وما بعدها بدل من " ما حَرَّم " قاله الحوفي .

الثالث : أنها على إسقاط لام العلة أي : ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه كقوله تعالى : *** { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ } [ الجن : 14 ] قال أبو علي : " من فتح " أنَّ " فقياس قول سيبويه أنَّه حَمَلها على " فاتَّبعوه " والتقدير : ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه كقوله : { وَأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ المؤمنون : 52 ] . قال سيبويه : " ولأن هذه أمتكم " وقال في قوله تعالى : " وأن المساجد لله " : ولأن المساجد " . قال بعضهم : وقد صرَّح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ . . . فَلْيَعْبُدُواْ }

[ قريش : 1 ] ، والفاء على هذا كهي في قولك : زيداً فاضرب ، وبزيد فامرر . وقد تقدم تقريره في البقرة . قال الفارسي : " قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في " زيد فقائم " قلت : سيبويه لا يجوِّز زيادتها في مثل هذا الخبر ، وإنما أراد أبو علي بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يَقُلْ به ، بل قال به غيرُه . الرابع : أنها في محل جر نسقاً على الضمير المجرور في " به " أي : ذلكم وصَّاكم به وبأن هذا ، وهو قول الفراء أيضاً . وردَّه أبو البقاء بوجهين أحدهما : العطف على الضمير المجرور من غير إعادةِ الجار . والثاني : أنه يصير المعنى : وَصَّاكم باستقامة الصراط وهذا فاسدٌ " . قلت : والوجهان مردودان ، أمَّا الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجارَّ هنا في قوة المنطوق به ، وإنما حُذِفَ لأنه يَطَّرد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطولهما بالصلة ، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود ، ويدل على ما قلته ما قال الحوفي قال : " حُذِفت الباء لطول الصلة وهي مرادة ، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَرٍ على مضمر لإِرادتها " . وأمَّا الثاني فالمعنى صحيح غير فاسد ؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يُخْرِجنا عن الصراط ، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه .

وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فقالوا : " أنْ " فيها مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن أي : " وأنَّه " كقوله تعالى : { أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ } [ يونس : 10 ] وقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . *** أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَْحفَى ويَنْتَعِلُ

وحينئذٍ ففيها أربعةُ الأوجه المذكورة في المشددة . و " مستقيماً " حال ، العامل : إمَّا " ها " التنبيه ، وإمَّا اسم الإِشارة ، وفي مصحف عبد الله " وهذا صراطي " بدون " أنَّ " وهي قراءة الأعمش ، وبها تتأيَّد قراءةُ الكسر المؤذنة بالاستئناف .

قوله : { فَتَفَرَّقَ } منصوب بإضمار " أن " بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على " فتفرق " بتاء خفيفة ، والبزي بتشديدها ، فَمَنْ خَفَّف حذف إحدى التاءين ، ومَنْ شدَّد أدغم ، وتقدم هذا آنفاً في { تَتَذَكَّرُونَ }

[ الأنعام : 80 ] . و " بكم " يجوز أن تكون مفعولاً به في المعنى أي : فيفرقكم ، ويجوز أن تكون حالاً أي : وأنتم معها كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَدُوس بنا الجماجمَ والتَّرِيبا

وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط ، فإنَّ مَنْ اتَّبعه وقى نفسه من النار .