محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (153)

[ 153 ] { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( 153 ) } .

{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } يقرأ بفتح همزة ( أن ) والتشديد . ومحلها مع ما في حيزها الجر بحذف لام العلة . أي : ولأن هذا الذي وصيتكم به من الأمر والنهي طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي قويما لا اعوجاج فيه ، فاعملوا به . وجوز أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على { ما حرم } أي : وأتلوا عليهم أن هذا صراطي . وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف . { ولا تتبعوا السبل } يعني الأديان المختلفة أو طرق البدع والضلالات { فتفرق بكم عن سبيله } أي : فتفرقكم عن صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده . روى الإمام ( أحمد ) {[3773]} عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه / سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه . ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما . . } الآية " . رواه ( الحاكم ) وصححه .

لطائف : قال الكيا الهراسي : في الآية دليل على منع النظر والرأي ، مع وجود النص .

قال ابن كثير : إنما وحد { سبيله } لأن الحق واحد ولهذا جمع { السبل } لتفرقها وتشعبها . كما قال تعالى : {[3774]}{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } .

قال ابن عطية : وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية ، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات ، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام . وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد .

قال قتادة : اعلموا أن السبيل سبيل واحد . جماعة الهدى ، ومصيره الجنة . وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة . جماعة الضلالة ، ومصيرها إلى النار . وروى{[3775]} علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ونحو هذا في القرآن ، قال : " أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة . وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله " .

{ ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل { وصاكم به لعلكم تتقون } أي اتباع سبل الكفر والضلالة . وفيه تأكيد أيضا . روى {[3776]}الترمذي وحسنه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول / الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء الآيات : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا- إلى قوله- لعلكم تتقون } .

وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : " في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب . ثم قرأ : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم . . . } الآيات " .

وروى الحاكم وصححه ، وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } حتى فرغ من ثلاث آيات . ثم قال : ومن وفى بهن فأجره على الله . ومن انتقص منهن شيئا ، فأدركه الله في الدنيا ، كانت عقوبته . ومن أخره إلى الآخرة ، كان أمره إلى الله . إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه " .

لطيفة :

قال النسقي : ذكر أولا { تعقلون } ثم { تذكرون } ثم { تتقون } لأنهم إذا عقلوا تفكروا ، ثم تذكروا ، أي اتعظوا ، فاتقوا المحارم . انتهى .


[3773]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 435 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 4142 (طبعة المعارف).
[3774]:- [2/ البقرة/ 257].
[3775]:- الأثر رقم 14166 من تفسير ابن جرير.
[3776]:- أخرجه الترمذي في: 44- كتاب التفسير، 6- سورة الأنعام، 7- حدثنا الفضل بن الصباح البغدادي.