الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَلِذَٰلِكَ فَٱدۡعُۖ وَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡۖ وَقُلۡ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٖۖ وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡۖ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡۖ لَا حُجَّةَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (15)

قوله تعالى : " فلذلك فادع واستقم كما أمرت " لما أجاز أن يكون الشك لليهود والنصارى ، أو لقريش قيل له : " فلذلك فادع " أي فتبينت شكهم فادع إلى الله ، أي إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به . فاللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى : " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] أي إليها . و " ذلك " بمعنى هذا . وقد تقدم أول " البقرة " {[13479]} . والمعنى فلهذا القرآن فادع . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع . وقيل : إن اللام على بابها ، والمعنى : فمن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع واستقم . قال ابن عباس : أي إلى القرآن فادع الخلق . " واستقم " خطاب له عليه السلام . قال قتادة : أي استقم على أمر الله . وقال سفيان : أي استقم على القرآن . وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة . " ولا تتبع أهواءهم " أي لا تنظر إلى خلاف من خالفك . " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم " أي أن أعدل ، كقوله تعالى : " وأمرت أن أسلم لرب العالمين " {[13480]} [ غافر : 66 ] . وقيل : هي لام كي ، أي لكي أعدل . قال ابن عباس وأبو العالية : لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول . وقال غيرهما : لأعدل في جميع الأحوال وقيل : هذا العدل هو العدل في الأحكام . وقيل في التبليغ . " الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم " قال ابن عباس ومجاهد : الخطاب لليهود ، أي لنا ديننا ولكم دينكم . قال : نسخت بقوله : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " {[13481]} [ التوبة : 29 ] الآية . قال مجاهد : ومعنى " لا حجة بيننا وبينكم " لا خصومة بيننا وبينكم . وقيل : ليس بمنسوخ ؛ لأن البراهين قد ظهرت ، والحجج قد قامت ، فلم يبق إلا العناد ، وبعد العناد لا حجة ولا جدال . قال النحاس : ويجوز أن يكون معنى " لا حجة بيننا وبينكم " على ذلك القول : لم يؤمر أن يحتج عليكم يقاتلكم ، ثم نسخ هذا . كما أن قائلا لو قال من قبل أن تحول القبلة : لا تصل إلى الكعبة ، ثم . حول الناس بعد ، لجاز أن يقال نسخ ذلك . " الله يجمع بيننا " يريد يوم القيامة . " وإليه المصير " أي : فهو يحكم بيننا إذا صرنا إليه ، ويجازي كلا بما كان عليه . وقيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة ، وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش ، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .


[13479]:راجع ج 1 ص 157 طبعة ثانية أو ثالثة.
[13480]:آية 66 سورة غافر.
[13481]:آية 29 سورة التوبة.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{فَلِذَٰلِكَ فَٱدۡعُۖ وَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡۖ وَقُلۡ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٖۖ وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡۖ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡۖ لَا حُجَّةَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (15)

قوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .

هذه الآية من عظيمات الآيات المشتملة على فيض من المعاني الجليلة العظام . وهي تتضمن عشرا من المعاني المستقلة . فقالوا : لا نظير لها في هذه الصفة إلا آية الكرسي ؛ فهي كذلك عشرة فصول كهذه . وتلكم هي الآيات وهي : قوله : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي ادع إلى ما أوحينا إليك من الكتاب الحكيم ، والدين القويم ، دين الإسلام الكامل العظيم ؛ فهو جماع الخير والحق والصلاح والرحمة بما حواه من قواعد وأسس ثوابت تراعي فطرة الإنسان وتحقق للبشرية كامل السعادة والنجاة والصلاح في المعاش والمعاد .

قوله : { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي استقم على عبادة الله وطاعته والامتثال لأوامره . أو استقم على تبليغ الرسالة . رسالة الإسلام العظيم ؛ بعقيدته الراسخة المرغوبة وتشريعه الكبير الشامل .

قوله : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } يحذِّر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في كل زمان ، أهواء المشركين والظالمين والمضلين . يحذِّرُ الله عباده المؤمنين على مرِّ الزمن شرَّ الافتتان بالطغاة والمفسدين والمجرمين من الناس . أولئك الذين يريدون للإسلام أن يتزعزع ويتبدَّد وينهار ، وللمسلمين أن يضعفوا ويتهافتوا تحت ضربات الضلال والفتنة والإغواء لكي يزيغوا عن دينهم الإسلام فيركبوا متن الباطل والإباحية والردة جريا وراء الكافرين على اختلاف مللهم وأهوائهم وأحزابهم ومسمياتهم .

يحذِّر الله المؤمنين على الدوام أهواء الكافرين المضلين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين بالغ الكيد .

قوله : { وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي صدَّقت بسائر الكتب السماوية المنزلة من عند الله على النبيين والمرسلين . فلا نفرِّقُ في ذلك بين أحد منهم ؛ فكلهم مرسلون صادقون مؤتمنون .

قوله : { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم فأقضي بالحق والصدق . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا تحتذي به البشرية في العدل وإحقاق الحق بين الناس . فقد كان أبعد الخلْق عن الحيف والجور . ولم يعرف الثَّقَلان من أهل هذه الأرض أحدا أعدل وأصدق وأعظم استقامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله : { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي الله مالكنا ومالككم . وهو يخاطب بذلك أهل الكتابين ، والتوراة والإنجيل . والمراد أن يقال لهم : إننا مقرّون لله بالوحدانية والربوبية فهو وحده المعبود لا إله غيره .

قوله : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي لنا جزاءُ ما اكتسبنا ولكم جزاء ما اكتسبتم . فنحن براء من أعمالكم وأنتم براء من أعمالنا .

قوله : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا خصومة بيننا وبينكم . فقد ظهر الحق واتضح البرهان فلم يبق بعد ذلك إلا العناد منكم . وليس بعد العناد من حجة أو خصومة أو جدال .

قوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } إلى الله المرجع والمعاد يوم الحساب{[4093]} .


[4093]:تفسير ابن كثير ص 109 وتفسير الطبري ج 25 ص 12