ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام ؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام . فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا ، وينبئهم أنها منه ، وأنها واقعة ولا بد . وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا :
( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى )( ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا ) . .
فأما البشرى الأولى . بشرى تصديق رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخولهم المسجد الحرام آمنين ، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة ، لا يخافون . . فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد . ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية . إذ تم لهم فتح مكة ، وغلبة دين الله عليها .
ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان ؛ وهو يقول لهم : " لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - " . . فالدخول واقع حتم ، لأن الله أخبر به . ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء ، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب ، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية . والقرآن يتكئ على هذا المعنى ، ويقرر هذه الحقيقة ، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع ، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله . ووعد الله لا يخلف . ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق . إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين ، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور .
ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد ؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع - أي العام التالي لصلح الحديبية - خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية . فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي - كما أحرم وساق الهدي في العام قبله - وسار أصحابه يلبون . فلما كان [ صلى الله عليه وسلم ] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه . فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " وما ذاك ? " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى ياجج " فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء !
وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه . فدخلها [ صلى الله عليه وسلم ] وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها .
{ لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا } رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية ، وأخرج ابن المنذر . وغيره عن مجاهد أنه عليه الصلاة والسلام رأي وهو في الحديبية والأول أصح أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فلما تأخر ذلك قال على طريق الاعتراض عبد الله بن أبي . وعبد الله بن نفيل . ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت .
وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه ، وفي رواية أن رؤياه صلى الله عليه وسلم أنما كانت إن ملكاً جاءه فقال له : { لَتَدْخُلُنَّ } الخ ، والمعنى لقد صدقه سبحانه في رؤياه على أنه من باب الحذف والإيصال كما في قولهم : صدقني سن بكره ، وتحقيقه أنه تعالى أراه الرؤيا الصادقة .
وقال الراغب : الصدق يكون بالقول ويكون بالفعل وما في الآية صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق سبحانه رؤيته . وفي شرح الكرماني كذب يعتدي إلى مفعولين يقال : كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية ، وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين انتهى . وفي «البحر » صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيداً الحديث وصدقته في الحديث ، وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر . وأمر والمشهور ما أشرنا إليه أولاً { بالحق } صفة لمصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بالحق أي بالفرض الصحيح والحكمة البالغة وهو ظهور حال المتزلزل في الإيمان والراسخ فيه ، ولأجل ذلك أخر وقوع الرؤيا إلى العام القابل أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام ، وجوز كونه حالاً من الاسم الجليل وكونه حالاً من { رَسُولِهِ } وكونه ظرفاً لغواً لصدق وكونه قسماً بالحق الذي هو من أسمائه عز وجل أو بنقيض الباطل ، وقوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } عليه جواب القسم والوقف على { الرءيا } وهو على جميع ما تقدم جواب قسم مقدر والوقف على { الحق } أي والله لتدخلن الخ ، وقوله سبحانه : { إِن شَاء الله } تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد ، وبه ينحل ما يقال : إنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق منه سبحانه بالمشيئة ، وفي معنى ما ذكر قول ثعلب : استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون .
وفيه تعريض بأن وقوع الدخول من مشيئته تعالى لا من جلادتهم وتدبيرهم ، وذكر الخفاجي أنه قد وضع فيه الظاهر موضع الضمير وأصله لتدخلنه لا محالة إلا إن شاء عدم الدخول فهو وعد لهم عدل به عن ظاهره لأجل التعريض بهم والإنكار على المعترضين على الرؤيا فيكون من باب الكناية انتهى .
وقد أجيب عن السؤال بغير ذلك فقيل : الشك راجع إلى المخاطبين ، وفيه شيء ستعلمه قريباً إن شاء الله تعالى ؛ وقال الحسين بن الفضل : إن التعليق راجع إلى دخولهم جميعاً وحكى ذلك عن الجبائي ، وقيل : إنه ناظر إلى الأمن فهو مقدم من تأخير أي لتدخلنه حال كونكم { ءامِنِينَ } من العدو إن شاء الله . وردهما في «الكشف » فقال : أما جعله قيد دخولهم بالأسر أو الأمن ففيه أن السؤال بعد باق لأن الدخول المخصوص أيضاً خبر من الله تعالى وهو يناف يالشك ، وليس نظير قول يوسف عليه السلام : { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } [ يوسف : 99 ] إذ لا يبعد أن لا يعرف عليه السلام مستقر الأمر من الأمن أو الخوف فأما أن يؤول بأن الشك راجع إلى المخاطبين أو بأنه تعليم ، والثاني أولى لأن تغليب الشاكين لا يناسب هذا المساق بل الأمر بالعكس . ودفع وروده على الحسين بأن المراد أنه في معنى ليدخلنه من شاء الله دخوله منكم فكيون كناية عن أن منهم من لا يدخله لأن أجله يمنعه منه فلا يلزم الرجوع لما ذكر .
وقيل : هو حكاية لما قاله ملك الرؤيا له صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب ابن كيسان أو لما قاله هو عليه الصلاة والسلام لأصحابه . ورد «صاحب التقريب » بأنه كيف يدخل في كلامه تعالى ما ليس منه بدون حكاية . ودفع بأن المراد أن جواب القسم بيان للرؤيا وقائلها في المنام الملك وفي اليقظة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي في حكم المحكي في دقيق النظر كأنه قيل : وهي قول الملك أو الرسول لتدخلن الخ ، وأنت تعلم أن هذا وإن صحح النظم الكريم لا يدفع البعد ، وقد اعترض به على ذلك «صاحب الكشف » لكنه ادعى إن كونه حكاية ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أقل بعداً من جعله من قول الملك ، وقال أبو عبيدة . وقوم من النحاة : { إن } بمعنى إذ وجعلوا من ذلك قوله تعالى : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] وقوله صلى الله عليه وسلم في زيادة القبور : " أنتم السابقون وأنا إن شاء الله بكم لاحقون " والبصريون لا يرتضون ذلك ، وقوله تعالى : { مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ } حال كآمنين من الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين من قوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ } إلا أن آمنين حال مقارنة وهذا حال مقدرة لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير ، وجوز أن يكون حالاً من ضمير { ءامِنِينَ } والمراد محلقاً بعضكم رأس بعض ومقصراً آخرون ففي الكلام تقدير أو فيه نسبة ما للجزء إلى الكل ، والقرينة عليه أنه لا يجتمع الحلق وهو معروف والتقصير وهو أخذ بعض الشعر فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم ، وقوله تعالى : { لاَ تخافون } حال من فاعل { لَتَدْخُلُنَّ } أيضاً لبيان الأمن بعد تمام الحج و { ءامِنِينَ } فيما تقدم لبيان الأمن وقت الدخول فلا تكرار أو حال من الضمير المستتر في { ءامِنِينَ } فإن أريد به معنى آمنين كان حالاً مؤكدة ، وإن أريد لا تخافون تبعة في إلحاق أو التقصير ولا نقص ثواب فهو حال مؤسسة ، ولا يخفى الحال إذا جعل حالاً من الضمير في { مُحَلّقِينَ } أو { مقصرين } ، وجوز أن يكون استئنافاً بيانياً في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فكيف الحال بعد الدخول ؟ فقيل : لا تخافون أي بعد الدخول .
واستدل بالآية على أن الحلق غير متعين في النسك بل يجزىء عنه التقصير ، وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء .
أخرج الشيخان . وأحمد . وابن ماجه عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول الله والمقصرين قال : اللهم اغفر للمحلقين ثلاثاً قالوا : يا رسول الله والمقصرين قال : والمقصرين " وأما في النساء فقد أخرج أبو داود . والبيهقي في «سننه » عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير " والسنة في الحاق أن يبدأ بالجانب الأيمن ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال للحلاق هكذا وأشار بيده إلى جانب الأيمن وإن يبلغ به إلى العظمين كما قال عطاء .
وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن عباس . وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنهما كانا يقولان للحلاق أبدأ بالأيمن وأبلغ بالحلق العظمين ، واستدل بالآية أيضاً على أن التقصير بالرأس دون اللحية وسائر شعر البدن إذ الظاهر أن المراد ومقصرين رؤسكم أي شعرها لظهور أن الرؤس أنفسها لا تقصر { فَعَلِمَ مَا لَمْ } الظاهر عطفه على { لَّقَدْ صَدَقَ } فالترتيب باعتبار التعلق الفعلي بالمعلوم أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية لتقديم ما يشهد للصدق علماً فعلياً ، وقيل : الفاء للتركيب الذكري { فَجَعَلَ } لأجل هذا العلم { مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام آمنين الخ ، وقيل : أي من دون فتح مكة ، والأول أظهر ، وهذا أنسب بقوله تعالى : { فَتْحاً قَرِيباً } وهو فتح خيبر كما قال ابن زيد .
وغيره ، والمراد بجعله وعده تعالى وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا وتستروح قلوب المؤمنين إلى تيسر وقوعها .
وقال في «الكشاف » : { مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ } أي من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل ، وفيه أمران . الأول : أن فتح مكة لم يقع في العام الذي قاله بل في السنة الثامنة ، والتجوز في العام القابل أو تأويل الفتح بدخول المؤمنين مكة معتمرين لا يخفى حاله . الثاني : إباء الفاء عما ذكر لأن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعاً .
وأجيب عن هذا بالتزام كون الفاء للترتيب الذكري أو كون المراد فأظهر معلومه لكم وهو الحكمة فتدبر .
ونقل عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الفتح القريب في الآية هو بيعة الرضوان ، وقال مجاهد . وابن إسحق : هو فتح الحديبية ، ومن الغريب ما قيل : إن المراد به فتح مكة مع أنه لم يكن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه دون مكة على أنه مناف للسياق كما لا يخفى .
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا }
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحقِّ } رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدهم الكفار بالحديبية ورجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين نزلت ، وقوله بالحق متعلق بصدق أو حال من الرؤيا وما بعدها تفسيرها { لتدخلنِّ المسجد الحرام إنْ شاء الله } للتبرك { آمنين محلقين رؤوسكم } أي جمع شعورها { ومقصرين } بعض شعورها وهما حالان مقدرتان { لا تخافون } أبدا { فعلم } في الصلح { ما لم تعلموا } من الصلاح { فجعل من دون ذلك } أي الدخول { فتحاً قريباً } هو فتح خيبر وتحققت الرؤيا في العام القابل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} وذلك أن الله عز وجل أرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه ففرحوا واستبشروا وحبسوا أنهم داخلوه في عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، فردهم الله عز وجل عن دخول المسجد الحرام إلى غنيمة خيبر... فأنزل الله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}. {لتدخلن المسجد الحرام} يعني العام المقبل {إن شاء الله} يستثنى على نفسه مثل قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} ويكون ذلك تأديبا للمؤمنين ألا يتركوا الاستثناء، في رد المشيئة إلى الله تعالى {آمنين} من العدو {محلقين رءوسكم ومقصرين} من أشعاركم {لا تخافون} عدوكم {فعلم} الله أنه يفتح عليهم خيبر قبل ذلك فعلم {ما لم تعلموا} فذلك قوله: {فجعل من دون ذلك} يعني قبل ذلك الحلق والتقصير {فتحا قريبا} يعني غنيمة خيبر وفتحها، فلما كان في العام المقبل بعدما رجع من خيبر أدخله الله هو وأصحابه المسجد الحرام، فأقاموا بمكة ثلاثة أيام فحلقوا وقصروا تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصّرا بعضهم رأسه، ومحلّقا بعضهم... قال ابن زيد، في قوله:"لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ "إلى آخر الآية. قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ» فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله "لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ" فقرأ حتى بلغ "وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ" إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكوننّ ذلك...
وقوله: "فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا" يقول تعالى ذكره: فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين، الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك...
وقوله: "فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا" اختلف أهل التأويل في الفتح القريب، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين؛ فقال بعضهم: هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش... عن مجاهد، قوله: "مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا" قال: النحر بالحُديبية، ورجعوا فافتتحوا خَيبر، ثم اعتمر بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة...
عن الزهريّ، قوله: فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني: صلح الحُديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر...
وقال آخرون: عنى بالفتح القريب في هذا الموضع: فتح خيبر... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام، ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك، ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح، بل عمّ ذلك، وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك.
والصواب أن يعم كما عمه، فيقال: جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لتدخلُنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: على الأمر أن ادخلوا المسجد الحرام...
والثاني: أن يكون قوله: {لتدخلنّ المسجد الحرام} على الوعد، فتُخرّج الثُّنيا المذكورة على وجهين:
أحدهما: على التبرُّك والتيمُّن كما يُتبرّك بذكر اسمه في فعل يُفعَل، والله أعلم. والثاني: على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول {إن شاء الله} كما يؤمر بالثّنيا من أخبر آخر شيئا أنه يفعله لقوله تعالى عز وجل: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا} {إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 و24]...
{محلّقين رؤوسكم ومقصِّرين} يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلّقين ومقصّرين...
فإن قيل: ما الحكمة في أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة، وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النُّسك، إذ لا يُحمَل على ذلك إلا بأمر من الله تعالى، ليس هو كغيره من الناس: إنهم يفعلون أفعالا بلا أمر، ثم يُمنعون، أو يُنهون عن ذلك. فأما رسول الله صلى لله عليه وسلم فلا يفعل شيئا إلا عن أمر منه له بذلك؟ قيل: يحتمل أن ما أمره بذلك مع علمه بأنهم يُمنعون ذلك تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار أن من حُصِر عن الحج، ومُنع عن دخول مكة لقضاء النّسُك ماذا يلزمه؟ وكيف يخرج منه؟ ولله تعالى أن يعلّم خلقه أحكام شريعته، أو يخبره بأمر يأمرهم بذلكن أو يخبر بخبرهم، ومرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهم بما شاء إذ له الحكم والأمر في الخلق، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لقد}. ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران: أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، عبر بالصدق والحق فقال تعالى: {صدق الله} أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال {رسوله} صلى الله عليه وسلم الذي هو أعز الخلائق عنده...
{الرؤيا} التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون...
{بالحق} لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً... {لا تخافون} أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام. فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا، وينبئهم أنها منه، وأنها واقعة ولا بد. وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا:
(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخلن المسجد الحرام -إن شاء الله- آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون. فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا. هو الذي أرسل رسوله بالهدى) (ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا)..
فأما البشرى الأولى. بشرى تصديق رؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ودخولهم المسجد الحرام آمنين، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة، لا يخافون.. فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد. ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية. إذ تم لهم فتح مكة، وغلبة دين الله عليها.
ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان؛ وهو يقول لهم: "لتدخلن المسجد الحرام -إن شاء الله -".. فالدخول واقع حتم، لأن الله أخبر به. ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية. والقرآن يتكئ على هذا المعنى، ويقرر هذه الحقيقة، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله. ووعد الله لا يخلف. ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق. إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور.
ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع- أي العام التالي لصلح الحديبية -خرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية. فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي- كما أحرم وساق الهدي في العام قبله -وسار أصحابه يلبون. فلما كان [صلى الله عليه وسلم] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص، فقال: يا محمد، ما عرفناك تنقض العهد. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " وما ذاك؟ " قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج " فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء!
وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وإلى أصحابه- رضي الله عنهم -غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه. فدخلها [صلى الله عليه وسلم] وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها.