في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

28

ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم ، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها :

( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) . .

لماذا ؟

( ربنا ليقيموا الصلاة ) .

فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك ، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان .

فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم . .

وفي التعبير رقة ورفرفة ، تصور القلوب رفافة مجنحة ، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادى الجديب . إنه تعبير ندي يندي الجدب برقة القلوب . .

( وارزقهم من الثمرات ) . .

عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج . . لماذا ؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا ؟ نعم ! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور :

( لعلهم يشكرون ) . .

وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام . . إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله . ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض . . إنه شكر الله المنعم الوهاب .

وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم . . فلا صلاة قائمة لله ، ولا شكر بعد استجابة الدعاء ، وهوي القلوب والثمرات !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

جملة { إني أسكنت من ذريتي } مستأنفة لابتداء دعاء آخر . وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع . وفي كون النداء تأكيداً لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله .

وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافاً لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه . ولعل إسماعيل عليه السلام حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } إلى قوله { واجعلنا مسلمين لك } [ سورة البقرة : 127 ] . وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا .

ومِن } في قوله : { من ذريتي } بمعنى بعض ، يعني إسماعيل عليه السلام ، وهو بعض ذريته ، فكأن هذا الدعاء صدر من إبراهيم عليه السلام بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة ، كما دل عليه قوله في دعائه هذا { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } [ سورة إبراهيم : 39 ] ، فذكر إسحاق عليه السلام .

والواد : الأرض بين الجبال ، وهو وادي مكة . و{ غير ذي زرع } صفة ، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة ، فإن كلمة { ذُو } تدلّ على صَاحببِ ما أضيفت إليه وتمكنه منه ، فإذا قيل : ذو مال ، فالمال ثابت له ، وإذا أريد ضد ذلك قيل غير ذي كذا ، كقوله تعالى : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ سورة الزمر : 28 ] ، أي لا يعتريه شيء من العوج . ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أولا زرع به .

وعند { بيتك } صفة ثانية لوادٍ أو حال .

والمحرم : الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم ، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم . وما أصحاب الفيل منهم ببعيد .

وعلق { ليقيموا } ب { أسكنت } ، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معموراً أبداً .

وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة . وتهيّأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، لأن همة الصالحين في إقامة الدين .

والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب . والمراد به هنا النفس والعقل .

والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم . فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس } ، ف { من } بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته . والمعنى : فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم .

وتهوي مضارع هوَى بفتح الواو : سقط . وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة ، كقول امرىء القيس :

كجلمود صخْرٍ حَطّه السيلُ من عل

ولذلك عدّي باللام دون { على .

والإسراع : جُعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم .

والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم .

والتنكير مطلقٌ يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين ، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف .

ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته ، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره ، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين .

ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جُعل تكملة له تعرضاً للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين . والمقصود : توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب .