في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ} (255)

253

وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال ، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان . . بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني ، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته ، وأوضح سماته . وهي آية جليلة الشأن ، عميقة الدلالة ، واسعة المجال :

( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم . له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم ) . .

وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور ، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام . الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله ، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس ، ويتضح ، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس ، ترتكن إلى الوضوح واليقين .

ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال ، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني . بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة ، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة . . حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء ، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل ، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !

وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع ، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح .

( الله لا إله إلا هو ) . .

فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد ، ولكنها تلبسه بالأساطير ، كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله ، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس ! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له !

هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي ؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها . فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبدا إلا لله ، ولا يتجه بالعبادة إلا لله ، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله ، وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة : الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ؛ ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله ؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله ، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء .

( الحي القيوم ) . .

والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية ، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء ، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر . . وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر !

أما صفة( القيوم ) . . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته ، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي . يقوم على أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء ، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد ؛ الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله ، وفق حكمة وتدبير ، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ؛ ويستمد منه قيمه وموازينه ، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين .

( لا تأخذه سنة ولا نوم ) . .

وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء ، وقيام كل شيء به . ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم . في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء . . ( ليس كمثله شيء ) . . وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق ، وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا . .

وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة . . حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها ، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ؛ ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها ؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره . . إنه أمر . . أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني . وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس . ويحير العقول ، وتطمئن به القلوب . .

( له ما في السماوات وما في الأرض ) . .

فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد ، القيوم الواحد ، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله ، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها ؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف ، ووقعت تصرفاتهم باطلة ، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض . . وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي ، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه . وحين يقول الله في القرآن الكريم : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية ؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك .

على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير . . مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض . . مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال : إنه يملكه ؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض . . مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود ، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم . . مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع ، وحدة الشح والحرص ، وحدة التكالب المسعور . وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ؛ والسماحة والجود بالموجود ؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء ؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ؛ ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب !

( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ ) . .

وهذه صفة أخرى من صفات الله ؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه ، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه ؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده ، إلا بعد أن يؤذن له ، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم ، ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد . .

إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية . يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية ؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون ؛ وأنه مستنكر أن يكون . فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور ، أو زعموا له - سبحانه - اندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما . أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له . . في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ؛ ولا تجول في الخاطر ، ولا تلوح بظلها في خيال !

وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي ؛ فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم ، أو اهتزاز في الرؤية ! الألوهية الوهية . والعبودية عبودية . ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء . والرب رب ، والعبد عبد . ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء .

فأما صلة العبد بالرب ، ورحمة الرب للعبد ، والقربى والود والمدد . . فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا ؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا ؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة . دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية . ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة !

( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .

وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه ، وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .

وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .

وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة .

( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .

إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا . وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه ؛ تصديقا لوعده الحق : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . . ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه . سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه ؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين . . يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك ؛ فينسون الإإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم . فلا يذكرون ولا يشكرون . بل يتبجحون وقد يكفرون .

إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه . ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق . وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم ، وجيلا بعد جيل ، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا ، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض ، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة .

وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه ، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة . . زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا ، وما يزال عصيا ، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل ! وزوى عنه سر اللحظة القادمة . فهي غيب لا سبيل إليه . والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه . . وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون ؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه !

وزوى عنه أسرارا كثيرة . . زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض . . والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة . .

ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم ، الذي أحاط به بعد الأذن . يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها ! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها ! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضعوالتطامن . فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا !

( وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما ) . .

وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري ، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا . فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك . فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه . وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية . ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن . وكذلك التعبير بقوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة . صورة انعدام الجهد والكلال . لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس ، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس .

ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .

ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن . ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان .

( وهو العلي العظيم ) . .

وهذه خاتمة الصفات في الآية ، تقرر حقيقة ، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو ، وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم ، ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال : ( العلي العظيم ) ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !

إنه المتفرد بالعلو ، المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك : إنه كان عاليا . .

ويعلو الإنسان ما يعلو ، ويعظم الإنسان ما يعظم ، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان ، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته ؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته ؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ} (255)

لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعلى وذكر صفاته إبطالاً لكفر الكافرين وقطعاً لرجائهم ، لأنّ فيها { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ، وجعلت هذه الآية ابتداءً لآيات تقرير الوحدانية والبعث ، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاّحقة .

وجيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم ، فإنّ العَلَم أعْرَفُ المَعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو مَعُونة لولا احتمالُ تعدد التسمية ، فلما انتفى هذا الاحتمالُ في اسم الجلالة كان أعرفَ المعارف لا مَحالةً لاستغنائه عن القرائن والمعونات ، فالقرائنُ كالتكلّم والخطاب ، والمعونات كالمَعاد والإشارةِ باليدِ والصلةِ وسبقِ العهد والإضافة .

وجملة « لا إله إلاَّ هو » خبر أول عن اسم الجلالة ، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلاّ هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد إلاّ هو } [ البقرة : 163 ] .

وقوله : { الحي } خبر لمبتدأ محذوف ، و { القيّوم } خبر ثان لذلك المبتدإ المحذوف ، والمقصودُ إثبات الحياة وإبطالُ استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة ، عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام { يا أبت لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] وفُصِلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع ، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة { الله لا إله إلا هو } من أنّه القائم بتدبير الخلق ، أي لأنّ اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبّر غيره ، فلذلك فصلت خلافاً لما قرر به التفتازاني كلامَه فإنّه غير ملائم لعبارته .

والحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة ، وهي صفة بها الإدراكُ والتصرّفُ ، أعني كمال الوجود المتعارف ، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين ، وبالنسبة إلى الخالق ما يقاربُ أثَر صفة الحياة فينا ، أعني انتفاء الجَمَادِيَّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات . وفسّرها المتكلّمون بأنها « صفة تصحّح لمن قامت به الإدراكَ والفعل » .

وفسّر صاحب « الكشاف » الحيّ بالباقي ، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم ، فيكون مستعملاً كناية في لازم معناه لأنّ إثباتَ الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلاَّ مجازاً أو كناية . وقال الفخر : « الذي عندي أنّ الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن صحة العلم والقدرة . بل عبار عن كمال الشيء في جنسه ، قال تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] ، وحياة الأشجار إيراقها . فالصفة المسمّاة في عرف المتكلّمين بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بها ، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته » .

والمقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات ، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جماداً .

والحيّ صفة مشبهة من حيِيَ ، أصله حَيِيٌ كحَذِرٍ أدغمت الياءان ، وهو يائي باتفاق أئمة اللّغة ، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس ، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنّهم يقولون حيوة أي حياة ، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة .

والقيّوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة ، وأصله قَيْوُوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا ، والمراد به المبالغة في القيام المستعملِ مجازاً مشهوراً في تدبير شؤون الناس ، قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبتْ } [ الرعد : 33 ] . والمقصود إثبات عموم العلم له وكمالِ الحياة وإبطالُ إلاهية أصنام المشركين ، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى ، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل . والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعاً من المخلوقات يتصرّف فيها وأمماً من البشر تنتمي إليه ويَحنأ عليها .

وجملة { لا تأخذه سِنة ولا نوم } مُقرّرة لمضمون جملة « الله الحيّ القيوم » ولرفع احتمال المبالغة فيها ، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها .

والسِّنة فِعْلة من الوسن ، وهو أول النوم ، والظاهر أنّ أصلها اسم هيأة كسائر ما جاء على وزن فِعله من الواوي لفاء ، وقد قالوا وَسنة بفتح الواو على صيغة المرة . والسنة أول النوم ، قال عدي بن الرقاع :

وسنانُ أقْصَدَه النُّعَاس فَرنَّقَتْ *** في عينه سِنَة وليسَ بنائم

والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصَاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعملِ العصبي ، فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيء الظُلمة فيطلب الدمَاغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدمَاغ استراحةً طبيعية فيغيب الحِسّ شيئاً فشيئاً وتثقل حركة الأعضاء ، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة .

ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير ، وإثبات لكمال العلم ؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت ، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة ، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس .

ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقاً ، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة ، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر ، قال أبو كبير :

فأتَتْ به حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّناً *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجَلِ

والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجباً ضعيفاً ولا طويلاً ولا غلبة ولا اكتساباً ، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود ، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس .

وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال :

وليلٍ دَجُوجِي تَنَامُ بناتُه *** وأبناؤه من طُوله{[193]} ورَبَائِبه

فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة ، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهراً لليلِ لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت .

وجملة { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها .

واللامُ للمِلك . والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات ، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته ، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر ، ولكنّه زاده تأكيداً بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين ، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة . فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها ، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر ، وهذا بلاغة معجِزة .

وجملة { من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه } مقرّرة لمضمون جملة { له ما في السموات وما في الأرض } لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض ، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب ، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى ، بالمطابقة . وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام ، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب ، والشفاعة إدلال . وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة ، بل قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى } [ الزمر : 3 ] ، فأكّد هذا المدلول بالصريح ، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها .

وَ { ذا } مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيَّن ، والعرب تزيد ( ذا ) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام ، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّةَ متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم ، وتقدم القول في ( من ذا ) عند قوله تعالى : { مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] . والاستفهام في قوله : { من ذا الذي يشفع عنده } مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء مِنه بقوله { إلا بإذنه } .

والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } [ البقرة : 54 ] .

والمعنى أنّه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأنّ المخلوقات كلها ملكُه ، ولكن يشفع عنده من أراد هُو أن يُظهر كرامته عنده فيأذَنَه بأن يشفع فيمن أراد هو العفوَ عنه ، كما يُسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الامتحان ، ولذلك جاء في حديث الشفاعة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس ليكلّم ربّه فيخفّف عنهم هَوْل موقف الحساب ، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلّمه الله تعالى إياها ، فيقال يا محمدُ ارفع رأسك ، سَل تعطَه ، واشفَع تشفَّع ، فسجوده استيذان في الكلام ، ولا يشفع حتى يقال اشفع ، وتعليمُه الكلمات مقدّمة للإذن .

وجملة { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } تقرير وتكميل لما تضمنّه مجموع جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ولما تضمنّته جملة { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } ، فإنّ جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } دلتا على عموم علمه بما حدث ووُجد من الأكوان ولم تَدُلاّ على علمه بما سيكون فأُكد وكمل بقوله يعلمُ الآية ، وهي أيضاً تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حُرموا الشفاعة إلاّ بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر ، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها .

والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها ، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم . وأما علمه بما في زمانهم فأحرى . وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هوالخَلف ، وقيل عكس ذلك ، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف ، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامَه ، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ، وما خلفه هو ما وراء ظهره ، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده ، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وهوفرع من الماضي والمستقبل ، وقيل المحسوسات والمعقولات . وأياماً كان فاللفظ مجاز ، والمقصود عموم العلم بسائرِ الكائنات .

وضمير { أيديهم } و { خلفهم } عائد إلى { ما في السماوات وما في الأرض } بِتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء ، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر وهو البعض ، لضمير ولا يحيطون لأنّ العلم من أحوال العقلاء .

وعطفت جملة { ولا يحيطون بشيء من علمه } على جملة { يعلم ما بين أيديهم } لأنّها تكملة لمعناها كقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [ البقرة : 216 ] .

ومعنى يحيطون يعلمون علماً تاماً ، وهومجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره ، فالمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئاً من معلوماته ، وأمَّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب .

فالعلمُ في قوله : { من علمه } بمعنى المعلوم ، كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدُنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية . ولذلك فقوله : { إلا بما شاء } تنبيه على أنّه سبحانه قد يُطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] .

وقوله : { وسّع كرسيّه السموات والأرض } تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمِه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه ، أو لبيان سعة ملكه كذلك كما سنبيّنه ، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة .

والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية ، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه ، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش . وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز ، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته .

والجمهور قالوا : إنّ الكرسي مخلوق عظيم ، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته ، فقيل هو العرش ، وهو قول الحسَن . وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش ، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين ، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى : { قل من رب السموات السبع وربُ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] ، وقيل الكرسي غير العرش ، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح . وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك : الكرسي موضع القدمين من العرش ، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع ، وروي هذا عن ابن عباس . وقيل الكرسي مثلَ لعلم الله ، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس . وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق ، قال البيضاوي : « ولعلّه الفلَك المسمّى عندهم بفَلك البروج » . قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبيّن مسمّاها في قوله ( سورة نوح ) : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } [ نوح : 15 ، 16 ] ، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملاّها من العناصر ، وهي مسبح الكواكب ، ولقد قال تعالى ( سورة الملك ) : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح }

[ الملك : 5 ] ، ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمس وهي : فُلكان ، وعطارد ، والزهرة ، وهذه تحت الشمس إلى الأرض ، والمريخُ ، والمشتري ، وزحلُ ، وأورانوس ، ونبتون ، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد ، إلاّ أنّها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري ، ثم زحل ، ثم نبتون ، ثم أورانوس ، ثم المريخ ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري ، والكرسي دونه فهو زُحل ، والسبع الباقية هي المذكورة ، ويضم إليها القمر ، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدّ القمر ، وهذا هو الظاهرُ ، والشمس من جملة الكواكب ، وقوله تعالى : { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنّها نور للأرض ، إلاّ أنّ الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير . وإذا كانت السماوات أفلاكاً سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فَلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز وسبحان من لا تحيط بعظمةِ قدرتِه الأفهامُ فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل على ذلك مع موافقته لما في نفس الأمر ، ولكنّه لم يفصّل لنا ذلك لأنّ تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته ، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتمّ إلى الآن ، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين .

وجُملة { ولا يؤوده حفظهما } عطفت على جملة { وَسِع كرسيهُ } لأنّها من تكملتها وفيها ضمير معادُه في التي قبلها ، أي إنّ الذي أوجد هاته العوالمَ لا يعجز عن حفظها .

وآده جعله ذا أود . والأوَدُ بالتحريك العِوَج ، ومعنى آده أثقله لأن المثقَّل ينحني فيصير ذا أوَد .

وعطف عليه { وهو العلي العظيم } لأنّه من تمامه ، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة .

ولهذه الآية فضل كبيرٌ لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى ، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة . في « الصحيحين » عن أبي هريرة " أنّ آتياً أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " صدقك وذلك شيطان " وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت اللَّهُ لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم ، فضرب في صدري وقال : واللَّهِ لِيَهْنِك العلمُ أبا المُنذر " . وروى النسائي : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلاّ الموت " وفيها فضائل كثيرة مجرّبة للتأمين على النفس والبيت .


[193]:- كتب في نسخة ديوان بشار > بهاء في أوله وطبع كذلك وبدا لي بعد ذلك أنه تحريف وأن الصواب > بطاء عوض الهاء لأنه المناسب لقوله: >.