وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم . إذ يقسم الله - سبحانه - بذاته العلية ، أنه لا يؤمن مؤمن ، حتى يحكم رسول الله [ ص ] في أمره كله . ثم يمضي راضيا بحكمه ، مسلما بقضائه . ليس في صدره حرج منه ، ولا في نفسه تلجلج في قبوله :
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، ويسلموا تسليمًا ) . .
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ، ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان ، وموقوف على طائفة من الناس ! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام ؛ جاءت في صورة قسم مؤكد ؛ مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله [ ص ] هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته [ ص ] وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبى بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله ، في حكم الزكاة ؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها ، بعد الوفاة !
وإذا كان يكفي لإثبات " الإسلام " أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في " الإيمان " هذا ، ما لم يصحبه الرضى النفسي ، والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان ، في اطمئنان !
هذا هو الإسلام . . وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام ؛ وأين هي من الإيمان ! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان !
قال الطبري : قوله : { فلا } رد على ما تقدم ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله ، { وربك لا يؤمنون } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقال غيره : إنما قدم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي ، و كان يصح إسقاط { لا } الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام{[4132]} ، و { شجر } معناه : اختلط والتف من أمورهم ، وهو من الشجر ، شبيه بالتفاف الأغصان ، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه{[4133]} ، وقرأ أبو السمال «شجْر » بإسكان الجيم .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه فر من توالي الحركات ، وليس بالقوي ، لخفة الفتحة ، و { يحكموك } نصب بحتى ، لأنها هاهنا غاية مجردة . و { يجدوا } عطف عليه ، والحرج : الضيق والتكلف والمشقة ، قال مجاهد : { حرجاً } ، شكاً{[4134]} ، وقوله : { تسليماً } مصدر مؤكد ، منبىء على التحقيق في التسليم ، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة ، كما قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً }{[4135]} [ النساء : 164 ] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع ، ومنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وعجت عجيجاً من جدام المطارف{[4136]} .
وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال آن كان ابن عمتك ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، » فنزلت الآية{[4137]} ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ( ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ){[4138]} ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله .
تفريع عن قوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } [ النساء : 60 ] وما بعده إذْ تضمّن ذلك أنّهم فعلوا ما فعلوا وهم يزعمون أنّهم مؤمنون ، فكان الزعم إشارة إلى انتفاء إيمانهم ، ثمّ أردف بما هو أصرح وهو أن أفعالهم تنافي كونهم مؤمنين بقوله : { لا يؤمنون } ، وأكدّه بالقسم وبالتوكيد اللفظي .
وأصل الكلام : فوربّك لا يؤمنون ، والعرب تأتي بحرف النفي قبل القسم إذا كان جواب القسم منفياً للتعجيل بإفادة أنّ ما بعد حرف العطف قسم على النفي لما تضمّنته الجملة المعطوف عليها ، فتقديم النفي للاهتمام بالنفي ، كقول قيس بن عاصم :
فَلا والله أشْرَبُها صَحيحاً *** ولاَ أشْفَى بها أبداً سقيماً
ويكثر أن يأتوا مع حرف النفي بعد العاطف بحرف نفي مثله في الجواب ليحصل مع الاهتمام التأكيدُ ، كما في هذه الآية ، وهو الاستعمال الأكثر ، ولم أر في كلام العرب تقديم ( لاَ ) على حرف العطف إبطالاً للكلام السابق ، ووقع في قول أبي تمّام :
لا والذي هو عالم أنَّ النوى *** صِبْر وأنَّ أبا الحُسين كريم
وليست ( لا ) هذه هي التي تَرِد مع فعل القسم مزيدة والكلام معها على الإثبات ، نحو { لاَ أقسم } [ القيامة : 1 ] وفي غير القسم نحو { لئلاّ يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، لأنّ تلك ليس الكلام معها على النفي ، وهذه الكلام معها نفي ، فهي تأكيد له على ما اختاره أكثر المحقّقين خِلافاً لصاحب « الكشّاف » ، ولا يلزم أن تكون مواقع الحرف الواحد متّحدة في المواقع المتقاربة .
وقد نُفي عن هؤلاء المنافقين أن يكونوا مؤمنين كما يزعمون في حال يظنّهم الناس مؤمنين ، ولا يشعر الناس بكفرهم ، فلذلك احتاج الخبر للتأكيد بالقسم وبالتوكيد اللفظي ، لأنّه كشْف لباطن حالهم . والمقسم عليه هو : الغاية ، وما عطف عليها بثمّ ، معاً ، فإنْ هم حكّموا غير الرسول فيما شجر بينهم فهم غير مؤمنين ، أي إذا كان انصرافهم عن تحكيم الرسول للخشية من جوره كما هو معلوم من السياق فافتضح كفرهم ، وأعْلَم الله الأمّة أنّ هؤلاء لا يكونون مؤمنين حتّى يحكّموا الرسول ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً مِن حكمه ، أي حرجاً يصرِفهم عن تحكيمه ، أو يسخطهم من حكمه بعد تحكيمه ، وقد علم من هذا أنّ المؤمنين لا ينصرفون عن تحكيم الرسول ولا يجدون في أنفسهم حرجاً من قضائه بحكم قياس الأحرى .
وليس المراد الحرجَ الذي يجده المحكوم عليه من كراهية ما يُلزم به إذَا لم يخامره شكّ في عدل الرسول وفي إصابته وجه الحقّ . وقد بيّن الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفراً ، سواء كان من منافق أم من مؤمن ، إذ قال في شأن المنافقين { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } ثمّ قال { إنّما كان قولَ المؤمنين إذَا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } ، لأنّ حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف إذ لا يشرع الله إلاّ الحقّ ، ولا يخالف الرسولُ في حكمه شَرْعَ الله تعالى .
ولهذا كانت هذه الآية خاصّة بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فأمّا الإعراض عن حكم غير الرسول فليس بكفر إذا جَوَّز المعرض على الحاكم عدمَ إصابته حكم الله تعالى ، أو عدم العدل في الحكم . وقدْ كَره العباس وعليُّ حكم أبي بكر وحُكم عمر في قضية ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدَكَ ، لأنّهما كانا يريان أنّ اجتهاد أبي بكر وعمر في ذلك ليس من الصواب . وقد قال عينية بن حصْن لعمر : « إنّك لا تقسم بالسوية ولا تعدِل في القضية » فلم يُعد طعنه في حكم عمرَ كفراً منه . ثم إنّ الإعراض عن التقاضي لدى قاضي يحكم بشريعة الإسلام قد يكون للطعن في الأحكام الإسلامية الثابت كونها حكم الله تعالى ، وذلك كفر لدخوله تحت قوله تعالى : { أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا } [ النور : 50 ] ؛ وقد يكون لمجرّد متابعة الهوى إذا كان الحكم المخالف للشرع ملائماً لهوى المحكوم له ، وهذا فسوق وضلال ، كشأن كلّ مخالفة يخالف بها المكلّف أحكام الشريعة لاتّباع الأعْراض الدنيوية ، وقد يكون للطعن في الحاكم وظنّ الجور به إذا كان غير معصوم ، وهذا فيه مراتب بحسب التمكّن من الانتصاف من الحاكم وتقوميه ، وسيجيء بيان هذا عند قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } في سورة العقود ( 44 ) .
ومعنى { شَجَر } تداخل واختلف ولم يتبيّن فيه الإنصاف ، وأصلُه من الشَجَر لأنّه يلتفّ بعضه ببعض وتلتفّ أغصانه . وقالوا : شجر أمرهم ، أي كان بينهم الشرّ . والحرج : الضيق الشديد { يَجْعَلْ صدره ضَيِّقاً حَرِجاً } [ الأنعام : 125 ] .
وتفريع قوله : { فلا وربّك لا يؤمنون } الآية على ما قبله يقتضي أنّ سبب نزول هذه الآية هو قضية الخصُومَة بين اليهودي والمنافق ، وتحاكم المنافق فيها للكاهن ، وهذا هو الذي يقتضيه نظم الكلام ، وعليه جمهور المفسّرين ، وقاله مجاهد ، وعطاء ، والشعبي .
وفي « البخاري » عن الزبير : أحسب هذه الآية نزلت في خصومة بيني وبين أحد الأنصار في شِرَاج من الحَرَّة ( أي مسيل مياه جمع شَرْج بفتح فسكون وهو مسيل الماء يأتي من حرّة المدينة إلى الحوائط التي بها ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله : " اسق يا زبيرُ ثم أرسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري : لأنْ كانَ ابنَ عمّتك . فتغيّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اسق يا زبير حتّى يبلغ الماء الجَدْرَ ثم أرسل إلى جارك واستَوْف حقَّك ( والجدَر هو ما يدار بالنخل من التراب كالجِدار ) فكان قضاؤه الأوّل صلحاً ، وكان قضاؤه الثاني أخذاً بالحقّ ، وكأنَّ هذا الأنصاري ظمّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد الصلح بينهم على وجه فيه توفير لحقّ الزبير جبراً لخاطره ، ولم ير في ذلك ما ينافي العصمة ، فقد كان الصحابة متفاوتين في العلم بحقائق صفات الرسول مدفوعين في سبر النفوس بما اعتادوه من الأميال والمصانعات ، فنّبههم الله تعالى على أنّ ذلك يجرّ إلى الطعن في العصمة .
وليس هذا الأنصاري بمنافق ولا شاكّ في الرسول ، فإنّهم وصفوه بالأنصاري وهو وصف لخيرة من المؤمنين ، وما وصفوه بالمنافق ، ولكنّه جهل وغفل فعفا عنه رسول الله ولم يستتبه . وهذه القضية ترجع إلى النظر في التكفير بلازم القول والفعل ، وفيها تفصيل حسن لابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب « الجنائز » وكتاب « المرتدّين » . خلاصته : أنّهُ لا بدّ من تنبيه من يصدر منه مثل هذا على ما يلزم قولَه من لازم الكُفر فإن التزمه ولم يرجع عُدَّ كافراً ، لأنّ المرء قد يغفل عن دلالة الالتزام ، ويؤخذ هذا على هذا الوجه في سبب النزول من أسلوب الآية لقوله : { لا يؤمنون } إلى قوله { تسليماً } فنبّه الأنصاري بأنّه قد التبس بحالة تنافي الإيمان في خفاء إن استمرّ عليها بعد التنبيه على عاقبتها لم يكن مؤمناً .
والأنصاري ، قيل : هو غير معروف ، وحبّذا إخفاؤه ، وقيل : هو ثعلبة بن حاطب ، ووقع في « الكشاف » أنه حَاطب بن أبي بلتعة ، وهو سهو من مؤلِفه ، وقيل : ثابت بن قيس بن شمَّاس ، وعلى هذه الرواية في سبب النزول يكون معنى قوله : { لا يؤمنون } أنّه لا يستمرّ إيمانهم . والظاهر عندي أنّ الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المُنَافق فظنّها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أقسم: {فلا وربك لا يؤمنون} {حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، يعني اختلفوا بينهم، يقول: لا يستحقون الإيمان حتى يرضوا بحكمك فيما اختلفوا فيه من شيء، {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت}، يقول: لا يجدون في قلوبهم شكا مما قضيت أنه الحق، {ويسلموا} لقضائك لهم وعليهم {تسليما}...
أعلم الله الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله فإنما سلموا لحكمه بفرض الله. وأنه أعلمهم أن حكمَه حكمُه، على معنى افتراضه حكمَه، وما سبق في علمه جل ثناؤه من إسعاده بعصمته وتوفيقه، وما شهد له به من هدايته واتباعه أمره...
فأحكم فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله وإعلامهم أنها طاعته. فجمع لهم أن أعلمهم أن الفرض عليهم اتباع أمره وأمر رسوله، وأن طاعة رسوله طاعته، ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله اتباع أمره جل ثناؤه. (الرسالة: 82-85. ون أحكام الشافعي: 1/30.)
وليس يخالف القرآن الحديث، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبين معنى ما أراد الله خاصا وعاما، وناسخا ومنسوخا، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله عز وجل قبل، لأن الله تعالى أبان عن ذلك في غير موضع من كتابه، قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فَيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} الآية، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ اِلذِينَ يُخَالِفُونَ عَنَ أمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخبرنا سفيان بن عيينة، عن سالم أبي النضر قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما أعرفن ما جاء أحدكم الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما هذا ما وجدنا في كتاب الله عز وجل أخذنا به». (الأم: 7/340-341. ون اختلاف الحديث ص: 483.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فلا}: فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دُعوا إليك يا محمد. واستأنف القسَمَ جلّ ذكره، فقال: {وَربّكَ} يا محمد {لا يُؤْمِنُونَ}: لا يصدّقون بي وبك، وبما أنزل إليك، {حَتّى يُحَكّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}: حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه، يقال: شَجَرَ يشجُر شُجُورا وشَجْرا، وتشاجر القوم: إذا اختلفوا في الكلام. {ثُم لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مما قَضَيْتَ}: لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت، وإنما معناه: ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت: أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه. عن الضحاك، في قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ} قال: إثما {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما} يقول: ويسلموا لقضائك وحكمك، إذعانا منهم بالطاعة، وإقرارا لك بالنبوّة تسليما.
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية وفيمن نزلت؛
فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العوّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ}. وهذا القول أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أولى بالصواب، لأن قوله {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} في سياق قصة الذين ابتدأ اللّه الخبر عنهم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}، ولا دلالة تدلّ على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أَوْلَى.
فإن ظنّ ظانّ أن في الذي رُوي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرّة، وقول من قال في خبرهما، فنزلت: {فَلا ورَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في حصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاريّ، إذ كانت الآية دالة على ذك. وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيعدل به عن معنى ما قبله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا وربك لا يؤمنون} قيل: قوله: {فلا} صلة في كل قسم أقسم به كقوله: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة: 1) ونحوه كل صلة. كأنه قال: أقسم {وربك لا يؤمنون} وقيل: قوله: {فلا وربك} ليس هو على الصلة. ولكن يقال ذلك على نفي ما تقدم من الكلام وإنكار كقول الرجل: لا والله هو ابتداء الكلام، ولكن على نفي ما تقدم من الكلام. فعلى ذلك هذا. وفيه تفضيل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من البشر، لأن الإضافة إذا خرجت إلى واحد تخرج مخرج التعظيم لذلك الواحد والتخصيص له. وإذا كانت إلى جماعة (تخرج) تعظيما له كقوله: {وأن المساجد لله} (الجن: 18) وقوله: {له ما في السماوات والأرض} (البقرة: 116و...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
المسألة الأولى: في أن الإيمان عقد، وقول، وعمل:
سمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيمانا، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، مع أن لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقينا أن الإيمان عمل، وعقد، وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول، ومع عدم الحرج من الصدر، وهو عقد، وهذا نص قولنا، ولله الحمد). المسألة الثانية: في حكم مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم:
ولا يجوز أن يكفر أحد إلا من بلغه أمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده، فاستجاز مخالفته أي شيء كان، لا نحاشي شيئا، من عقد، أو فتيا، أو خبر...
برهان ذلك: قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. فقطع تعالى أنه لا يؤمن إلا من هذه صفته، فمن خالفها فليس مؤمنا، وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر...
اعلم أن قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط: أولها: قوله تعالى: {حتى يحكموك فيما شجر بينهم} وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا...
الشرط الثاني: قوله: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت} قال الزجاج: لا تضيق صدورهم من أفضيتك. واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب.
واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر، فليس المراد من الآية ذلك، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق...
الشرط الثالث:... قوله تعالى: {ويسلموا تسليما} واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول، فبين تعالى أنه كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب. فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر، فقوله: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت} المراد به الانقياد في الباطن، وقوله: {ويسلموا تسليما} المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أفهم ذلك أن إباءهم لقبول حكمه والاعتراف بالذنب لديه سبب مانع لهم من الإيمان، قال -مؤكداً للكلام غاية التأكيد بالقسم المؤكد لإثبات مضمونه و "لا "النافية لنقيضه: {فلا وربك} أي المحسن إليك {لا يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف ويجددونه {حتى يحكموك} أي يجعلوك حكماً {فيما شجر} أي اختلط واختلف {بينهم} من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجر في التداخل والتضايق.
ولما كان الإذعان للحكم بما يخالف الهوى في غاية الشدة على النفس، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم لا يجدوا في نفسهم حرجاً} أي نوعاً من الضيق {مما قضيت} أي عليهم به، وأكد إسلامهم لأنفسهم بصيغة التفعيل فقال: {ويسلموا} أي يوقعوا التسليم البليغ لكل ما هو لهم من أنفسهم وغيرها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم خالصاً عن شوب كره؛ ثم زاده تأكيداً بقوله: {تسليماً} وفي الصحيح أن الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار، فلا التفات إلى من قال: إنه حاطب رضي الله عنه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} هذه الآية متصلة بما قبلها أشد الاتصال والسياق محكم متسق وإن ذكروا أسباب خاصة لنزولها، أقسم الله تعالى بربوبيته لرسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا له في ذلك خطاب التكريم، ومن المعهود في اللغة أن مثل هذا القسم يعد تكريما وقد كانت عائشة تقسم برب محمد صلى الله عليه وسلم فلما غضبت مرة أقسمت برب إبراهيم صلى الله عليه وسلم فكلمها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بعد رضاها فقالت: إنما أهجر اسمك. أقسم تعالى بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأمثالهم وهم من المنافقين الذين يزعمون الإيمان زعما كما تقدم لا يؤمنون إيمانا صحيحا حقيقيا وهو إيمان الإذعان النفسي إلا بثلاث.
الأولى: أن يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم أي في القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون فلم يتبين الحق فيها لهم، أو لم يعترف به كل منهم، بل يذهب كل مذهبا فيه، فمعنى شجر اختلف واختلط الأمر فيه. قيل إن الشجر (مصدر شجر) والتشاجر والاشتجار مأخوذ من الشجر الملتف المتداخل بعضه في بعض، وقال بعضهم بل سمي الشجر شجرا لاشتجار أغصانه وتداخلها وقيل من الشجار (ككتاب) وهو خشب الهودج لاشتباك بعضه في بعض، وقيل من الشجر (بالفتح) وهو مفتح الفم لكثرة الكلام في الأمور التي يقع النزاع فيها، وكل هذه المعاني مناسبة، وتحكيمه تفويض أمر الحكم إليه.
الثانية: قوله: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت} الحرج الضيق والقضاء الحكم وزعم بعض المستشرقين من الإفرنج أن لفظ القضاء لم يكن مستعملا في صدر الإسلام الأول بمعنى الحكم وهذا من دعاويهم التي يتجرؤون عليها من غير استقصاء ولا علم. والمعنى ثم تذعن نفوسهم لقضائك وحكمك فيما شجر بينهم بحيث لا يكون فيها ضيق ولا امتعاض من قبوله والعمل به. ولما كان الإنسان لا يملك نفسه أن يسبق إليها الألم والحرج إذا خسرت ما كانت ترجو من الفوز، والحكم لها بالحق المختصم فيه، عفا الله تعالى عن الحرج يفاجئ النفس عند الصدمة الأولى وجعل هذا الشرط على التراخي فعظمه بثم، والمؤمن الكامل الإيمان ينشرح صدره لحكم الرسول من أول وهلة لعلمه أنه الحق وأن الخير له فيه والسعادة في الإذعان له، فإذا كان في إيمانه ضعف ما ضاق صدره عند الصدمة الأولى، ثم يعود على نفسه بالذكرى وينحي عليها باللوم حتى تخشع وتنشرح بنور الإيمان وإيثار الحق الذي حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم على الهوى، وقيل المراد بنفي وجدان الحرج عدم الشك في حقية الحكم بأن يكون موقنا بأنه قضاء بمر الحق الذي لا شبهة فيه، قال هذا من قاله وهو خلاف المتبادر لأن وجدان القلب لا يتعلق به التكليف وقد علمت ما هو الصواب.
الثالثة: قوله تعالى: {ويسلموا تسليما} التسليم هنا الانقياد بالفعل وما كل من يعتقد حقية الحكم ولا يجد في نفسه ضيقا منه ينقاد له بالفعل وينفذه طوعا وإن لم يخش في ترك العمل به مؤاخذة في الدنيا.
واستدلوا بالآية على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ في الحكم وغيره، وذهب الرازي إلى عدم معارضة هذا بفتواه في أسرى بدر وما في معناه مما عاتبه الله تعالى عليه بقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43]، وقوله: {عبس وتولى} [عبس:1] الخ، وقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] وأحال على تأويله لهذه الآيات في مواضعها. ولا شك في عصمته صلى الله عليه وسلم في الحكم بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق بحسب صورة الدعوى ظاهرها لا بحسب الواقع في نفسه لأن الحكم في شريعته على الظاهر والله يتولى السرائر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها) رواه الجماعة كلهم مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أم سلمة. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم والنسائي عن رافع بن خديج. وفي معناه:"إنما أنا بشر وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله" رواه أحمد وابن ماجة عن طلحة وصححوه. ولأجل هذه الأحاديث كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأي هل هو عن وحي أو رأي، فإن كان عن وحي أطاعوا وسلموا تسليما، وإن كان رأيا ذكروا ما عندهم وربما رجع إلى رأيهم كما فعل يوم بدر. فيا لله ما أكمل هديه وما أجمل تواضعه صلى الله عليه وعلى آله وأولئك الصحب الكاملين.
واستدلوا بالآية أيضا على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس فمن بلغه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورده بمخالفة قياسه له فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان بنص الآية، ومخالفة نص القرآن بالقياس أعظم جرما وأضل سبيلا.
وتدل الآية بالأولى على بطلان التقليد فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يتقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ولرسوله كما أمر الله عز وجل، وإذا قلنا إن للعامي أن يتبع العلماء فليس المعنى أنه يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة، وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا في آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص. مثال ذلك أن بعض الفقهاء يقول إن حكم الحاكم على الظاهر والباطن، فإذا حكم لك بما تعلم أنه ليس لك صار حلالا لك أن تأكله، ونص الحديث المتفق عليه الذي أوردناه آنفا أن من قضي له بحق أحد بناء على ظاهر الدعوى وهو يعلم أنه ليس بصاحب هذا الحق فإنما هي قطعة من النار إذا أخذها. فمن بلغه الحديث واعتقد صحته ولم يعارضه عنده نص يرجح عليه أو ينسخه بالدليل لا بالاحتمال، وبقي مقلدا لقول ذلك الفقيه يستحل ما يحكم له به من حق غيره كان غير مطيع لله ولرسوله ولا متصفا بالخصال التي تتوقف عليها صحة الإيمان.
قوله تعالى "فلا وربك... "تفريع على ما سبقه وهو نفي وإبطال لظن الظانين أنهم بمجرد محافظتهم على أحكام الدين الظاهرة يكونون صحيحي الإيمان مستحقين للنجاة من عذاب الآخرة وللفوز بثوابها، لا وربك لا يكونون مؤمنين حتى يكونوا موقنين في قلوبهم مذعنين في بواطنهم، ولا يكونون كذلك حتى يحكموك فيما شجر واختلط بينهم من الحقوق، ثم بعد أن تحكم بينهم لا يجدوا في أنفسهم الضيق الذي يحصل للمحكوم عليه إذا لم يكن خاضعا للحكم في قلبه، فإن الحرج إنما يلازم قلب من لم يخضع. ذلك بأن المؤمن لا ينازع أحدا في شيء إلا بما عنده من شبهة الحق فإذا كان كل من الخصمين يرضى بالحق متى عرفه وزالت الشبهة عنه، كما هو شأن المؤمن فحكم الرسول يرضيهما ظاهرا وباطنا، لأنه أعدل من يحكم بالحق.
أقول: أما ما ذكروه في أسباب نزول الآية فقد أورد السيوطي منه في لباب النقول ما رواه الأئمة الستة (أي البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة) عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فقال الأنصاري: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجهه ثم قال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك)، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنها أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. وهذه عين الرواية الأولى مختصرة، وفيها جزم بأن الآية نزلت في هذه الواقعة. والصواب أن هذا اجتهاد من الرواة لانطباق الآية على الرواية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم. إذ يقسم الله -سبحانه- بذاته العلية، أنه لا يؤمن مؤمن، حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره كله. ثم يمضي راضيا بحكمه، مسلما بقضائه. ليس في صدره حرج منه، ولا في نفسه تلجلج في قبوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليمًا).. ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام. يقرره الله سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول. اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام.. وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا. فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام؛ جاءت في صورة قسم مؤكد؛ مطلقة من كل قيد.. وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تحكيم شخصه. إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه. وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبى بكر -رضي الله عنه- وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين. بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير. وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله، في حكم الزكاة؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها، بعد الوفاة! وإذا كان يكفي لإثبات "الإسلام "أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فانه لا يكفي في "الإيمان" هذا، ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام.. وهذا هو الإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان!...
إذن لابد أن نستقبل الإيمان بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله، فساعة حكم المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان، وعلى المؤمنين أن يتعظوا بذلك.
ونلحظ في قول الحق: {فلا وربك} وجود "لا "نافية، وأنه سبحانه أقسم بقوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك}، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها فيقول: لا. هذه لا تكون أبدا. إذن ف "لا" النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله؛ لأنهم حكموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو: لا يكون لهم أبدا شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال: {وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على من يشاء، يقسم بالمادة الجبلية:
{والذاريات ذروا 1} (سورة الذاريات).
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات:
{والتين والزيتون 1} (سورة التين).
ويقسم بالملائكة: {والصافات صفا 1} (سورة الصافات).
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بحياته فقال:
{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون72} (سورة الحجر).
و "لعمرك" يعني: وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال:
{فورب السماء والأرض إنه لحق} (من الآية 23 سورة الذاريات).
وساعة يقول: {فورب السماء والأرض}. فلابد أن يأتي بربوبيته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} (من الآية 57 سورة غافر).
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} وهذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا انه حين قال: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} أن محمدا قد دخل في الناس، إنه سبحانه يوضح: لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، {فوربك لنسألنهم}، ولماذا يقسم برب السماء والأرض؛ لأن الرب به قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير. لكن عندما يخلق محمدا فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له: فوربك الذي خلقك، والذي سواك والذي رباك، والذي أهلك لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول: لا نحكم محمدا ومنهجه في حياتنا؟. إذن فقوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} وحكم كل مادتها مثل "الحكم" و "التحكيم" و "الحكمة" و "التحكم" وكل هذا مأخوذ من الحكمة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يمينا ويسارا، فكذلك "الحكمة" تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة "شجر" مأخوذة من مادة (الشين والجيم والراء) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات لا تلتصق ببعضها، وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضها ببعض فتتشابك، كما نرى مثلا شجرا متشابكا قي بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول: إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول: إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
{وشجر بينهم} أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجارا من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعنيك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعا بينهم لكن طبيعة النفس الشح، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصمين أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟. فيفزعان ويقولان أهناك خير من العدل؟. يقول: نعم إنه الفضل فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أما إذا حدث الشجار فلابد من الفصل.
ومن الذي يفصل؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}.. فالإيمان ليس قولة تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول: لا إله إلا الله وتشهد أن محمدا رسول الله فلابد أن لهذا القول وظيفة، وأن تحكم حركة حياتك على ضوء هذا القول فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفر منه. {فلا وربك لا يؤمنون} بمنهج الإسلام {حتى يحكموك} فهذا هو التطبيق: {فيما شجر بينهم} ولا يصح أن يحكموك صوريا، بل لابد أن يحكموك برضا في التحكيم، {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا} أي ضيقا {مما قضيت}. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه، ولا تضيقوا به {ويسلموا تسليما} أي يذعنوا إذعانا.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، {فلا وربك لا يؤمنون} حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا} لأنه قد يجد حرجا ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة: الأولى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}، هذه واحدة، {فاستغفروا الله} هذه هي الثانية، {واستغفر لهم الرسول} هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضا: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} هذه هي الأولى، {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت} هذه هي الثانية، و {يسلموا تسليما} هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخول في حظيرة إيمان، وخروج من غل ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت: إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم، فما بال الذين لم يعاصروه؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول إنما جاء للناس جميعا، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص؟.
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جوابا، إلا أني قلت: لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور:
(حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم).
انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم).
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا {جاءوك} أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها فصلى الله عليه وسلم هو القائل:
(تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض).
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين: نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
وقوله سبحانه وتعالى: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} أي لا يجدوا حرجا عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في: افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلابد أن نسلم تسليما في الاثنين: في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي.