في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

ورزقا من حيث لا يقدر ولا ينتظر . وهو تقرير عام ، وحقيقة دائمة . ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عندما يتقي المتقون الله في هذا الشأن بصفة خاصة . وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير ، فالتلاعب فيه مجاله واسع ، لا يقف دونه إلا تقوى الله وحساسية الضمير .

( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ) . .

فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع ، ومسالكه كثيرة ، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد ! فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة ، والتوكل على الله ، وهو كاف لمن يتوكل عليه . فالله بالغ أمره . فما قدر وقع ، وما شاء كان ؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر ، وقوة القاهر . الفعال لما يريد . البالغ ما يشاء .

والنص عام . والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب ، بالنسبة لإرادة الله وقدره . . ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره .

( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .

فكل شيء مقدر بمقداره ، وبزمانه ، وبمكانه ، وبملابساته ، وبنتائجه وأسبابه . وليس شيء مصادفة ، وليس شيء جزافا . في هذا الكون كله ، وفي نفس الإنسان وحياته . . وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب

كبير من التصور الإيماني . [ وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )في سورة الفرقان . وعند قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . . في سورة القمر ] . ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته ، والعدة ووقتها ، والشهادة وإقامتها . ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة ، والناموس الكلي العام . ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

وقوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، الآيات كلها عظة لجميع الناس ، والحسب : الكافي المرضي ، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض ، وروي أن رجلاً قال لعمر : ولّني مما ولاك الله ، فقال له عمر : أتقرأ القرآن ؟ قال : لا . قال : فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن . فتعلم الرجل رجاء الولاية ، فلما حفظ كثيراً من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوماً فقال له عمر ما أبطا بك ؟ قال له تعلمت القرآن ، فأغناني الله تعالى عن عمر وعن بابه .

ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة . وقوله تعالى : { إن الله بالغ أمره } بيان وحض على التوكل ، أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق . فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة ، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك ، وأمره في الوجهين نافذ ، وقرأ داود بن أبي هند{[11161]} -ورويت عن أبي عمرو «بالغ أمرُه » برفع الأمر{[11162]} وحذف مفعول تقدير : بالغ أمره ما شاء ، وقرأ جمهور السبعة : «بالغ أمرَه » بنصب الأمر{[11163]} وقرأ حفص والمفضل عن عاصم : «بالغُ أمرِه » على الإضافة وترك التنوين في : «بالغُ » ، ورويت عن أبي عمرو ، والأعمش ، وهي قراءة طلحة بن مصرف ، وقرأ جمهور الناس : «قدْراً » بسكون الدال ، وقرأ بعض القراء : «قدَراً » بفتح الدال وهذا كله حض على التوكل .


[11161]:هو داود بن أبي هند القشيري، مولاهم، أبو بكر أو أبو محمد، البصري، ثقة متقن، كان يهم بآخرة، من الطبقة الخامسة، مات سنة أربعين، وقيل: مات قبلها، (تقريب التهذيب).
[11162]:مع تنوين[بالغ].
[11163]:مع التنوين في [بالغ] أيضا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

وقوله : { من حيث لا يحتسب } احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه ، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيىء له أسباباً غير مرتقبة .

فمعنى { من حيث لا يحتسب } : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه .

و { حيثُ } مستعملة مجازاً في الأحوال والوجوه تشبيهاً للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يَرِد منه الوارد ولذلك كانت { مِن } هنا للابتداء المجازي تبعاً لاستعارة { حيث } . ففي حرف { مِن } استعارة تبعية . وذكر الواحدي في « أسباب النزول » أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذْ أسَرَ المشركون ابنه سالماً فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتق الله واصبر » وأمره وزوجَه أن يكثرا قولاً : لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فَسَاقَ عنزاً كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية ، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن .

{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره } .

تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق ، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب .

وَحَسْب : وصف بمعنى كاففٍ . وأصله اسم مصدر أو مصدر .

وجملة { إن الله بالغ أمره } في موضع العلة لجملة { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه .

ولعل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشُكّوا في إنجاز وَعده فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة .

ومعنى { بالغ أمره } : واصلٌ إلى مراده . والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد . والأمر هنا بمعنى الشأن .

وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( أي بعضهم ) : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت { إن الله بالغ أمره } ، أي فيكم وعليكم اه .

وقرأ الجمهور { بالغٌ } بالتنوين و { أمرَه } بالنصب . وقرأه حفص عن عاصم { بالغُ أمرهِ } بإضافة { بالغ } إلى { أمره } .

{ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَىْءٍ قدرا } .

لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت . فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشىء عما اشتملت عليه جمل { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ، إلى قوله : { إن الله بالغ أمره } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله ، أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا ، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس .

فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً .

ولها موقع التعليل لجملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] فإن العِدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها عَلّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله ، فلا يسوغ التهاون فيه .

ولهذا موقع التذييل لجملة { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدراً لا يعدوه كما جعل الحدود .

ولها موقع التعليل لجملة { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ، لأن المعنى إذا بلغن القَدْر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] فالمعنى : فإن لم يُحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدة .

ولها موقع التعليل لجملة { وأقيموا الشهادة لله } فإن الله جعل الشهادة قدراً لرفع النزاع .

فهذه الجملة جُزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة .

ومعنى { لكل شيء } لكل موجود ، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتاً أو معنى من المعاني قال تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } [ القمر : 52 ] . فعموم قوله : { لكل شيء } صريح في أن ما وعد الله به يَجعل له حين تكوينه قَدْراً .

قال الراغب في « مفرداته » : وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملاً دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها . ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءَه بالصلاحية وقدَّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون .

وتقديره نطفة الإِنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر . فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحُكم منه أن يَكون كذا أو لا يكون ، كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإِمكان . وعلى ذلك قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } . والثاني بإعطاء القدرة عليه ، وعلى ذلك قوله : { فقدرنا فنعم القادرون } [ المرسلات : 23 ] أو يكون من قبيل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } اه .

والقَدْر : مصدر قَدَره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وَضع فيه بمقدار كمية ذاتيةً أو معنوية تُجعل على حسب ما يتحمله المفعول . فقَدر كلّ مفعولٍ لفعل قَدَرَ ما تتحمله طاقته واستطاعتُه من أعمال ، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وَعْيه لما يَكُدُّ به ذهنه من مدارك وأفهام . ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة [ البقرة : 286 ] . وقوله هنا : { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } [ الطلاق : 7 ] .

ومن جزئيات معنى القَدْر ما يسمى التقدير : مصدر قَدَّر المضاعف إذا جَعَل شيئاً أو أشياء على مقدار معين مناسب لما جُعل لأجله كقوله تعالى : { وقدر في السرد } في سورة [ سبأ : 11 ]

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ "يقول: ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم...

وقوله: "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" يقول تعالى ذكره: ومن يتق الله في أموره، ويفوّضها إليه فهو كافيه.

وقوله: "إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" منقطع عن قوله "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ". ومعنى ذلك: إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه... عن مسروق "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" توكل عليه أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفّرْ عنه سيئاته، ويُعْظِم له أجرا...

وقوله: "قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا" يقول تعالى ذكره: قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدّا وأجلاً وقدرا يُنتهى إليه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

جاز أن يكون المعنى من قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود، فلم يضيعه {يجعل له مخرجا} في ما لم يبين له وفي ما اشتبه من الحد، أو يجوز أن يكون المعنى من قوله تعالى: {ومن يتق الله} أي جاهد في ما أمره، ونهاه {يجعل له مخرجا} في أن يهديه، ويبين له السبيل...

أو يجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} يعني يتق عقابه {يجعل له مخرجا} من الشدة في الدنيا ومن سكرات الموت وغمراته ومن شدائد الآخرة وأهوالها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في مكاسبه {يجعل له مخرجا} من الشبه والحرمات، فيسلم منها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة، فحفظها في صحبة النساء على ما أمر به {يجعل له مخرجا} مما أهمه من ناحيتهن {ويرزقه من حيث لا يحتسب}. يجوز أن يكون هذا في ما بيّن له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال. ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاتبة والتجارات لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات وأنها إذا نفيت من تجارتهم تلك الشبه والحرمات رزقهم من حيث لم يحتسبوا...

{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} يجوز أن يكون معناه: أي من يعتمده في كل نائبة، ويفوض إليه كل نازلة. والوكيل، هو الموكول إليه الأمور. وقيل: الوكيل، هو الحافظ، فكأنه قال: ومن يعتمد على الله في ما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا. وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي في ما أخبر من حكمه ووعده ووعيده أن ينزل بهم...

.

{قد جعل الله لكل شيء قدرا} قال الحسن: {لكل شيء} من أعمال العباد {قدرا} ثوابا في الآخرة. والوجه عندنا {قد جعل الله لكل شيء} مما كان، ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة {قدرا}. ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان ومكان ونحو ذلك ليعلم أن الله تعالى، هو الذي قدّر ذلك المكان والزمان والفعل حتى خرج هذا العبد عن تقريره، الذي قدّره...

ثم ليس في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} له تخصيص، أي من لا يتّقه يرزقه من حيث لا يحتسب، لأنه قد نرى في الشاهد من يرزقه من حيث لا يحتسب، اتقاه، أو لم يتقه. فثبت أن فائدة التخصيص ليست تعني غير المقصود، ولكن فائدة تخصيص المتلقي بالذكر، هي أنه يرزقه من حيث يطيب له، ولا يلام عليه، وليس ذلك في غير المتقي...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

(ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من حيث لا يتوقعه ولا يظنه (ومن يتوكل على الله) أي من أسند أمره إلى الله ووثق بحكمه وسكن إلى رحمته (فهو حسبه) أي كافيه جميع ذلك (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد ويشاء من أمره وتدبيره (قد جعل الله لكل شيء قدرا) أي قدر الله لكل شيء مقدارا وأجلا، لا زيادة فيه ولا نقصان.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. لم يقل: ومَنْ يتوكل على الله فتوكُّلُه حَسْبُه، بل قال: {فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أي فاللَّهُ حَسْبُه أي كافيه. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير فلا محالةَ يكون، وبتَوَكُّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنَّ التوكَّل بنيانه على أنْ يكون العبدُ مُرَوَّحَ القلب غيرَ كارهٍ... وهذا من أَجَلِّ النِّعم...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وقوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي: يثق بالله ويفوض أمره إليه: ويقال: التوكل على الله هو الرضا بقضائه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَيَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله.

{قَدْراً} تقديراً وتوقيتاً. وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب: الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض، ....

... {إن الله بالغ أمره} بيان وحض على التوكل،... أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ،...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لطيفة: وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} وقريب من هذا قوله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره)...

.فالله بالغ أمره. فما قدر وقع، وما شاء كان؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر، وقوة القاهر. الفعال لما يريد. البالغ ما يشاء. والنص عام. والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب، بالنسبة لإرادة الله وقدره.. ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره. (قد جعل الله لكل شيء قدرا).. فكل شيء مقدر بمقداره، وبزمانه، وبمكانه، وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه. وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافا. في هذا الكون كله ....

...ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته، والعدة ووقتها، والشهادة وإقامتها. ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{من حيث لا يحتسب} احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسباباً غير مرتقبة...

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره}. تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب...

وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه...

{قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شيء قدرا}. لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}، إلى قوله: {إن الله بالغ أمره} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس. فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً...

.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فإذا ضاق به رزقه، وأغلقت عنه مداخله ومخارجه من خلال الوسائل التي يملكها في ساحته العملية، فإن عليه أن لا يستغرق في حدود هذه الوسائل، بل يفكر بطريقةٍ إيمانيةٍ...

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لأنه الذي يملك الأمر كله، فهو يملك الناس كلهم، والحياة كلها، ويملك ما يملكه الآخرون...

فلا يمنعه من تنفيذ إرادته مانع في الأرض ولا في السماء، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]...

وقد نلاحظ في وقفةٍ تأمليةٍ أمام هذه الآية أنها تؤكد للإنسان المؤمن عدة نقاطٍ في حركة حياته:

الشعور الدائم بأنّ الله لا يخذله في ما يواجهه من صعوبات الحياة...

.

أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى مسألة الرزق على أساس أن أمره بيد الله، فإذا أغلق عنه باب، فهناك أكثر من باب مفتوح في علم الله...

.

الثقة بالله في وعده، من خلال الإيمان بأنه بالغ أمره، وبأنه الكافي لمن توكّل عليه، ولا كافي غيره...

الإحساس بأن الحياة في انتصاراتها وهزائمها وفي أفراحها وأحزانها لا تتحرك في أجواء الفوضى، بل تخضع لنظامٍ كونيٍّ متوازنٍ، يضع كل شيءٍ في موضعه، ويقدر لكل حدثٍ قدره...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ويرزقه من حيث لا يحتسب) ولا يتصوّر تحصيله. (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) وسيكفيه ما يهمّه من أموره. (إنّ الله بالغ أمره) لأنّ الله عزّ وجلّ قادر مطلق، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته... ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم، ويجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد. ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم. وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول تعالى: (قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء. وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم وليس فقط في مسألة الطلاق بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم...