في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

178

ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات ، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر . ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يقيموا ، تحقيقا وتيسيرا :

( أياما معدودات . فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .

وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد . فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم . وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر . فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقا ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر . ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر ؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر ؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري . . وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها ؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها . فوراءها قطعا حكمة . وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها .

يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص ، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب . مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون . ولكن هذا - في اعتقادي - لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص . فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات ، إنما يقودهم بالتقوى . وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى . والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء ، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق . وهذا الدين دين الله لا دين الناس . والله أعلم بتكامل هذا الدين ، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد ؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها . بل لا بد أن يكون الأمر كذلك . ومن ثم أمر رسول الله [ ص ] أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم . وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام ؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم . وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع ، وسد للذرائع ، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف ، إذ هي حساب بين العبد والرب ، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقا مباشرا كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر . والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب . وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت ، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه ، ويراها هي الأولى ، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها . أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص ، فقد ينشيء حرجا لبعض المتحرجين . في الوقت الذي لا يجدي كثيرا في تقويم المتفلتين . . والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين . فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة . . وهذا هو جماع القول في هذا المجال .

بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر ، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام . . وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر ، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين . وصورة سلوك أولئك السلف - رضوان الله عليهم - املأ بالحيوية ، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته ، من البحوث الفقهية ؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشيء في القلب مذاقا حيا لهذه العقيدة وخصائصها :

1 - عن جابر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله [ ص ] عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ " كراع الغميم " فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : " أولئك العصاة . أولئك العصاة " . . [ أخرجه مسلم والترمذي ] .

2 - وعن أنس رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر . فنزلنا منزلا في يوم حار ، أكثرنا ظلا صاحب الكساء ، ومنا من يتقي الشمس بيده . فسقط الصوام وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الركاب ، فقال النبي [ ص ] " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " . . [ أخرجه الشيخان والنسائي ] .

3 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : كان النبي [ ص ] في سفر ، فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس ، وقد ظلل عليه . فقال : ما له ؟ فقالوا : رجل صائم . فقال رسول الله [ ص ] : " ليس من البر الصوم في السفر " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي ] .

4 - وعن عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - قال : قدمت على رسول الله [ ص ] من سفر . فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية . قلت : يا رسول الله إني صائم . قال : " إذا أخبرك عن المسافر . إنالله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة " . [ أخرجه النسائي ] . .

5 - وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك . قال : قال رسول الله [ ص ] " إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما " . [ أخرجه أصحاب السنن ] .

6 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سأل حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - رسول الله [ ص ] عن الصوم في السفر . [ وكان كثير الصيام ] فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ] وفي رواية أخرى وكان جلدا على الصوم .

7 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] فمنا الصائم ومنا المفطر . فلا الصائم يعيب على المفطر ، ولا المفطر يعيب على الصائم " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود ] .

8 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله [ ص ] في رمضان في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ؛ وما فينا صائم إلا رسول الله [ ص ] وابن رواحة رضي الله عنه . . [ أخرجه الشيخان وأبو داود ] .

9 - وعن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك - رضي الله عنه - في رمضان وهو يريد سفرا . وقد رحلت له راحلته ، ولبس ثياب سفره ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة ؟ قال : نعم . ثم ركب . . [ أخرجه الترمذي ] .

10 - وعن عبيد بن جبير قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري - صاحب رسول الله [ ص ] - رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان . فدفع فقرب غداؤه ، فقال : اقترب . قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله [ ص ] ؟ فأكل وأكلت . . [ أخرجه أبو داود ]

11 - وعن منصور الكلبي : أن دحية بن خليفة - رضي الله عنه - خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط ، وذلك ثلاثة أميال ، في رمضان . فأفطر وأفطر معه ناس كثير . وكره آخرون أن يفطروا . فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه . إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله [ ص ] وأصحابه . اللهم أقبضني إليك . . [ أخرجه أبو داود ] . .

فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر . وترجح الأخذ بها . ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص ، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله [ ص ] وحده ظل مرة صائما مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة ، فقد كانت له [ ص ] خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه . كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحيانا . أي يصل اليوم باليوم بلا فطر . فلما قالوا له في هذا ، قال : " إني لست مثلكم ، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " . . [ أخرجه الشيخان ] وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا : أولئك العصاة . أولئك العصاة . وهذا الحديث متأخر - في سنة الفتح - فهو أحدث من الأحاديث الأخرى . وأكثر دلالة على الاتجاه المختار . .

والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات . . إنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية ، تقتضي توجيها معينا - كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد ، ونجد فيها توجيهات متنوعة -

فالرسول [ ص ] كان يربي وكان يواجه حالات حية . ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة !

ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر ، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل . . أما المرض فلم أجد فيه شيئا إلا أقوال الفقهاء ، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض ، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته ، على وجوب القضاء يوما بيوم في المرض والسفر ، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح .

وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية ؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية ، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها . وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد ؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره ، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة . . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين - كما أراده الله - بتكاليفه كلها ، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه ، متكاملا متناسقا ، في طمأنينة إلى الله ، ويقين بحكمته ، وشعور بتقواه .

ثم نعود إلى استكمال السياق :

( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، فمن تطوع خيرا فهو خير له ، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .

وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقا على المسلمين - وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد - فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد - وهو مدلول يطيقونه - فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد - جعل الله هذه الرخصة ، وهي الفطر مع إطعام مسكين . . ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقا ، إما تطوعا بغير الفدية ، وإما بالإكثار عن حد الفدية ، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان : ( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) . . ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة - في غير سفر ولا مرض - : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . . لما في الصوم من خير في هذه الحالة . يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة . وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية . كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية - لغير المريض - حتى ولو أحس الصائم بالجهد .

وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيدا لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقا . كما جاء فيما بعد . وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادرا على القضاء . . فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي . . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . . وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر . فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }( 184 )

و { أياماً } مفعول ثان ب { كتبَ } ، قاله الفراء ، وقيل : هي نصب على الظرف ، وقيل : نصبها ب { الصيام } ، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من { كما } على قول من قدر : صوما كما ، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره ، وذلك إذا كان العامل في الكاف { كتب } ، وجوز بعضهم أن يكون { أياماً } ظرفاً يعمل فيه { الصيام } ، و { معدودات }( {[1668]} ) ، قيل : رمضان : وقيل : الثلاثة الأيام( {[1669]} ) .

وقوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر } ، التقدير : فأفطر { فعدة من أيام أخر } ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب( {[1670]} ) .

واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر : فقال قوم : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياساً على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة ، قاله ابن سيرين .

وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح( {[1671]} ) له الفطر ، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله ، وبه يناظرون ، وأما لفظ مالك فهو : المرض الذي يشق على المرء ويتبلغ( {[1672]} ) به .

وقال الحسن : «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر » .

وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر ، وهذا قول الشافعي رحمه الله .

واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه : الصوم أفضل لمن قوي ، وجل مذهب مالك التخيير .

وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما : الفطر أفضل .

وقال مجاهد وعمر بن العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما ، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر .

وقال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر ، وهو مذهب عمر رضي الله عنه( {[1673]} ) ، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه . وتقصير الصلاة حسن ، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام ، والصواب المبادرة بالأعمال( {[1674]} ) . وقال ابن عباس رضي الله عنه : «الفطر في السفر عزمة » ، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، ونغدو إلى جوع ، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع ، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح ، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة ، واختلف في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة( {[1675]} ) ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً ، وروي عنه : يومان ، وروي عنه في العتبية : خمسة وأربعون ميلاً ، وفي المبسوط : أربعون ميلاً ، وفي المذهب : ستة وثلاثون ميلاً ، وفيه : ثلاثون .

وقال ابن عمر وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، وفي غير المذهب : يقصر في ثلاثة أميال فصاعداً .

وقوله تعالى : { فعدة } مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له ، ويصح فعليه عدة ، واختلف في وجوب تتابعها على قولين( {[1676]} ) ، و { أخر } لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة ، وجاء في الآية { أخر } ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة ، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة( {[1677]} ) ومنه قوله تعالى :{ يا جبال أوبي معه }( {[1678]} ) [ سبأ : 10 ] ، إلى غير ذلك .

وقرأ جمهور الناس «يطيقونه » بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه » نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ حميد «يطوقونه » وذلك على الأصل ، والقياس الإعلال .

وقرأ ابن عباس «يطوقونه » بمعنى يكلفونه .

وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يَطَّوقونه » بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة .

وقرأت فرقة «يُطَيَّقونه » بضم الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه ، وحكاها النقاش( {[1679]} ) عن عكرمة ، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف( {[1680]} ) .

وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فديةُ طعام مساكين » بإضافة الفدية .

وقرأ هاشم عن ابن عامر «فديةٌ طعام مساكين » بتنوين الفدية .

وقرأ الباقون «فديةٌ » بالتنوين «طعام مسكين » بالإفراد ، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم ، وجمع( {[1681]} ) المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية .

قال أبو علي : «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين ، فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون ؟ ، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل مسكيناً( {[1682]} ) ، ونظير هذا قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }( {[1683]} ) [ النور : 4 ] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون .

واختلف المتأولون في المراد بالآية( {[1684]} ) فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب : كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً وأفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] .

وقالت فرقة : و { على الذين يطيقونه }( {[1685]} ) أي على الشيوخ والعجّز ، الذين يطيقون ، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر ، وهي محكمة عند قائلي هذا القول . وعلى هذا التأويل تجيء قراءة { يطوقونه } و " يطوقونه " .

وقال ابن عباس : نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم .

وقال السدي : { وعلى الذين يطيقونه } أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشَّيَخ فلا يستطيعون الصوم . وهي عنده محكمة ، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا ، ونحوه عن ابن عباس .

وقال مالك : «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، وتستحب لمن قدر عليها » ، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتكره فعليه الفدية( {[1686]} ) .

وقال الشافعي وأبو حنيفة : على الشيخ العاجز الإطعام .

وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يَطَّيَّقونه » فأفطر ، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين .

وقال قوم : قوت يوم : وقال قوم : عشاء وسحور .

وقال سفيان الثوري : نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب ، والضمير في { يطيقونه }( {[1687]} ) عائد على { الصيام } ، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف .

واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس : تفدي وتفطر ولا قضاء عليها .

وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك : تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها .

وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد : تقضي وتفدي إذا أفطرت ، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي ، هذا هو المشهور عنه ، وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع .

وقوله تعالى : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } الآية ، قال ابن عباس وطاوس عطاء والسدي : المراد من أطعم مسكينين فصاعداً( {[1688]} ) .

وقال ابن شهاب : «من زاد الإطعام على الصوم » وقال مجاهد : «من زاد في الإطعام على المد » ، و { خير } الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث ، و { خير } الأول قد نزل منزلة مالاً أو نفعاً ، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم » بدل { وأن تصوموا } .

وقوله تعالى : { إن كنتم تعلمون } يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا .


[1668]:- في قوله تعالى: [كما كتب على الذين من قبلكم] وفي قوله: [أياما معدودات] تسهيل على المكلفين بالصيام وتطييب نفوسهم فإن العمل الشاق إذا عم وشمل المتقدمين والمتأخرين وكانت أيامه معدودة سهل قبوله وتلقّيه، ومن ثم وقع النهي عن سرد الصيام ووصله.
[1669]:- أي من كل شهر، وسبق أن ذلك نسخ بشهر رمضان.
[1670]:- وهو ما يفهم من الكلام قطعا، ومثل هذه الآية قوله تعالى: [فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية] الخ – أي: فَحَلَقَ لإزالة الأذى ففدية، وهذا هو ما يسمى بفحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين.
[1671]:- أي: جاز له الفطر.
[1672]:- أي يشتد عليه وفي بعض النسخ (ويبلغ به) والمراد يجهد به وقد لخص شيخ المالكية المذهب في مختصره بقوله: وبمرض، أي وجاز فطر بمرض خاف زيادته أو تماديه، ووجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى. فإذا خاف الزيادة من المرض أو تماديه جاز له الفطر، وإذا خاف الهلاك والأذى وجب عليه الفطر.
[1673]:- على مذهب عمر وابنه جاء قول القائل: إن الصيام لا يجوز في السفر ومَنْ يصم فيه قضى مَهْمَـا حَضَـر حُجَّتُنَـا حديث أفضل البَشَـر (ليْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَــرْ)
[1674]:- يعني أن مذهب مالك في تفضيل الصوم على الفطر وتفضيل القصر على الإتمام حسن، لأن الذمة تبرأ بقصر الصلاة وتبقى مشغولة بالفطر، والمطلوب هو المسابقة إلى الخير وأعمال البر، وهذا ثناء من ابن عطية رحمه الله على نظرية المذهب المالكي.
[1675]:- المراد أنها أربع وعشرون ساعة، والمشهور عند المالكية أنها أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا وتقدر بـ 85 كيلومترا تقريبا.
[1676]:- ليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء.
[1677]:- وإنما لم يجر هنا كذلك خوفا من الإلباس وإيهام أنها صفة للعدة لا للأيام، والقاعدة أن جمع مالا يعقل يجوز وصفه بوصف الواحدة المؤنثة، ووصفه بجمعها، فمن الأول: إلا أياما معدودة، ومن الثاني: إلا أياما معدودات.
[1678]:- من الآية (10) من سورة (سبأ).
[1679]:- وفي بعض النسخ: وحكاها النقاش، وأبو عمرو الداني عن عكرمة.
[1680]:- ذكر أربع قراءات: اثنتان بالواو المشددة، واثنتان بالياء المشددة، وقراءة الجمهور، وقراءة حميد، فالمجموع ست قراءات، وحكم ابن عطية على قراءة الياء المشددة بالضعف، قال (ح): وإنما ضعفوا ذلك لأنهم فهموا أن الفعل على وزن تفعل فأشكل ذلك عليهم، وليس كما فهموا، وإنما هو على وزن (تفعيل) من الطوق فأصله تطيْوِقون اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فقيل: (تطيقون) فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه واضح. البحر المحيط 2-35.
[1681]:- يعني أنه لا يعرف على قراءة الجمع مقدار المساكين في اليوم من نفس الآية، وإنما يعرف ذلك من السنة.
[1682]:- حاصلة أن قراءة (مساكين) فيها مقابلة الجمع بالجمع، وقراءة (مِسْكِين) روعي فيها إفراد العموم.
[1683]:- من الآية (4) من سورة (النور).
[1684]:- كان الحكم عندما فرض الصيام في أول الإسلام أن من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يطعم أطعم، ثم وقع النسخ بقوله تعالى: [فمن شهد منكم الشهر فليصمه] وهذا هو القول الأول من الأقوال المعروضة في معنى الآية، وقيل: إنها محكمة وهي في الشيوخ والعجز الذين يطيقون الصوم بتكلف، وقيل: إنها في الشيوخ والعجز الذين يطيقون وأفطروا ثم نسخت، وقيل: إنها في الذين لا يستطيعون الصيام من الشيوخ والعجائز فهي إذا محكمة إلا أن الفدية تجب عليهم، وقيل: لا تجب بل تستحب، وقيل: إنها فيمن يدركه رمضان وعليه رمضان سابق فقد كان يطيق الصوم في تلك المدة وتركه فعليه الفدية لتفريطه. فهذه جملة الأقوال، وملخصها يرجع إلى قولنا أهي منسوخة كما قال الجمهور أم محكمة في الشيوخ والعجائز، ويلتحق بذلك الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما ؟ وهذا أحسن من تقدير (لا). قبل (يطيقونه) لأن حذف (لا)، خاص بمواقع القسم، ولموافقة الإثبات لسنة التشريع في الأمور الشاقة على النفوس مثل: الخمر، والربا، والقتال، فكان التخيير بين الصوم والإطعام ثم أفضلية الصوم مع التخيير، ثم تحتيم الصوم بقوله تعالى: [فمن شهد منكم الشهر فليصمه].
[1685]:- الإطاقة: هي القدرة على الفعل بمشقة فادحة، فقوله تعالى: [وعلى الذين يطيقونه] ليس ظاهره مرادا، فقد صرحت الآثار عن الصحابة والتابعين أن موضوع الآية على أنها محكمة فيمن لا يستطيعون الصوم أصلا، لا في الحاضر ولا في المستقبل، وهم الذين عليهم فدية إطعام مسكين عن كل يوم إذا قدروا على الفدية – وأما المرضى الذين يقدرون على قضائه مستقبلا فلا فدية عليهم – والمراد بالمشقة المشقة الجسيمة لا الفكرية والعقلية إذ لم يؤثر عن أحد ممن سلف ما سمي بالمشقة الفكرية، فمن قال: إن من قام بعمل فكري شاق كامتحان له أن يفطر ليس بمصيب، بل الحقيقة هي أن الصوم لا يعوق التفكير ولا يبطئ الفهم، بل يصفي القلب ويدفع بصاحبه إلى التفكير المستقيم، فإن استقامة الفكر في استقامة القلب، وسلامة التفكير في طهارة القلب وسمو الروح – ومن ثَمَّ كان السلف الصالح يلجؤون إلى الصوم لتصفية مرآتهم، واستنارة قلوبهم، وارتقاء مداركهم، فالصوم إنما يضعف صاحبه عن علاقات الجسم، وأما الروح فإنه يقوي مداركها، ويصقل مرآتها – ففي الإنسان عنصران: جسمي وروحي، فالصوم يغلب الروح على الجسم، وإذا غلبت كان إدراكها خيرا من إدراك الممتلئ طعاما وشرابا، والله أعلم.
[1686]:- هذا هو رأي الإمام مالك رحمه الله في الآية، وما أشار إليه ابن عطية رحمه الله من قول الإمام مالك هو قول شيخ المالكية في مختصره: "ووجب إطعام مُدِّه عليه الصلاة والسلام لمفرط في قضاء رمضان لمثله عن كل يوم مسكين" ا هـ.
[1687]:- لتأخر معاد الضمير، وليس المحل لذلك.
[1688]:- أي: بالتطوع، ويعني أنه زاد على ما وجب في المساكين، أو في الطعام تطوعا، بأن أطعم عن كل يوم أكثر من واحد، أو أعطى أكثر من مد لكل مسكين، أو جمع بين الصوم والإطعام، أو جمع بين الخبز واللحم والإدام.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

قوله تعالى : { أياماً معدودات } ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة ، ولا يضر وقوع الفصل بين { الصيام } وبين { أياماً } وهو قوله : { كما كتب } إلى { تتقون } لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق ، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من ( لعلَّ ) كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام ، ومن تمام العاملِ في ذلك العامل وهو { كُتب } فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفاً ، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي ، ومَرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف ، تجنباً للتعقيد المخل بالفصاحة .

والغالبُ على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القُوى الجسمانيةَ والدموية في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية . وتطغَيَان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجتُه تعديلَها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرَى .

والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو تركِ بعض المأكل : أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما رُوحانية مُنبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعةً تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المُحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقَتِّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولَها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حَظَّ له في الحيوانية إلاّ حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادِها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافاً مناسباً للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفيَّة التي جاء بها الإسلام .

قيل في « هياكل النور » « النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القُوى البدنيةُ ومشاغلتها ، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقّى منه المعارف » ، فمِنَ الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان ، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياماً متوالية ، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجاً لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يَزِن الحكيم شبعهُ من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيَزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زِنّتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يُبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم .

وفي « حكمة الإشراق » للسهروردي « وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوماً تاركاً للحوم الحيوانات مقللاً للطعام منقطعاً إلى التأمل لنور الله اهـ » .

وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مُسْتَوْدَعُ حياةٍ حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته ، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللاّزم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان ، لذلك كان الصوم أهم مقدمات هذا الغرض ، لأن فيه خصلتين عظيمتين ؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها ، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذراً كما علمت ، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإِقلال منه ، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء ، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأَديان وهو أبلغ إلى القصد وأظْهر في ملكة الصبر ، وبذلك يحصل للإِنسان دُربة على ترك شهواته ، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته :

إذَا المرء لم يَتْرُك طعاماً يُحِبُّه *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما

فيُوشك أن تلقَى له الدهرَ سُبَّةً *** إذا ذُكِرتْ أمثالُها تَمْلأُ الفمـا

فإن قلت : إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياضَ النفس على ترك الشهوات وإثارةَ الشعور بما يلاقيه أهلُ الخصاصة من ألم الجوع ، واستشعارَ المساواة بين أهل الجِدة والرفاهية وأهللِ الشظف في أصول الملذات بني الفريقين من الطعام والشراب واللهو ، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة ، ولم تَكِل ذلك إلى المسلم يتخذ لإِراضة نفسه ما يراه لائقاً به في تحصيل المقاصد المرادة ؟ .

قلت : شأن التعليم الصالح أن يَضبط للمتعلم قواعدَ وأساليبَ تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن مُعَلم الرياضة البدنية يضبط للتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصاباً وركوعاً وقرْفصاء ، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه ، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأَدْنَوْا بها حصول الثمرة المطلوبة ، ولو وُكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] .

والمراد بالأيام من قوله : { أياماً معدودات } شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضاً ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر .

قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده : { من أيام أخر } [ البقرة : 185 ] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى : { إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو : { أياماً معدودات } فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقاً وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثاً مفرداً ، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى : { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] لأنهم يقللونها غروراً أو تغريراً ، وقال هنا { معدودات } لأنها ثلاثون يوماً ، وقال في الآية الآتية :

{ الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] وهذا مثل قوله في جمع جمل { جمالات } [ المرسلات : 33 ] على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال ، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرن اه وهو غير ظاهر .

وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله : { أياماً معدودات } ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلاّ صوم يوم عاشوراء كما في « الصحيح » وهو مفروض بالسنة ، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية ، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظاً ولا أثراً ، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال : " لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق " .

تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة ، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع ، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .

والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل .

وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر ، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر ، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين ، بحيث يسبب له أوجاعاً أو ضعفاً منهكاً أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه . وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير ، وأعدل العبارات ما نقل عن مالك ؛ لأن الله أطلق المرض ولم يقيده ، وقد علمنا أنه ما أباح للمريض الفطر إلاّ لأن لذلك المرض تأثيراً في الصائم ، ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر إذ قال : « إن المشاق قسمان : قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم ، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد ، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع : نوع لا تأثير له في العبادة كوجع أصبع ، فإن الصوم لا يزيد وجع الأصبع وهذا لا التفات إليه ، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة ، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه » .

وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثراً فيه شدة أو زيادة ؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر ، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالباً ، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال : إنه وجعتني أصبعي هذه فأفطرت ، وعن البخاري قال : اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله قلت : نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من أي المرض أفطر ؟ قال : من أي مرض كان كما قال الله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً } وقيل : إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائماً أفطر ، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالاً ولا تكون شرطاً ، وعزي إلى الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه ؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام ، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم ، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض .

وقوله : { أو على سفر } أي أو كان بحالة السفر وأصل ( على ) الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازاً في التمكن كما تقدم في قوله تعالى : { على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصاً في التلبس ، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول . . . . . . :

ماذَا على البدر المحجَّبِ لو سَفَر *** إِن المعذَّب في هواه على سفر

أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية ، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل ، على أن المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية ، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرُحِّلتْ دابتُه وَلِبسَ ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم رَكِب وقال : هذه السنة ، رواه الدارقطني ، وهو قول الحسن البصري ، وقال جماعة : إذا أصبح مقيماً ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك وهو قول الزهري ، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور ، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة ، وبالغ بعض المالكية فقال : عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب ، ولقد أجاد أبو عمر ، وقال أحمد وإسحاق والشَّعْبي : يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في « صحيحي البخاري ومسلم » : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فصام حتى بلغ عُسْفَانَ ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليُرِيَه فأَفْطَرَ حتى قدِم مكة » قال القرطبي : وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه .

وإنما قال تعالى : { فعدة من أيام أُخر } ولم يقل : فصيام أيام أخر ، تنصيصاً على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر ؛ إذ العدد لا يكون إلاّ على مقدار مماثل . فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعم من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة ، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله : { بخمسة ألف من الملائكة } [ آل عمران : 125 ] .

ووصف الأيام بأُخر وهو جمع الأُخرى اعتباراً بتأنيث الجمع ؛ إذ كل جمع مؤنث ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفاً { أياماً معدودات } قال أبو حيَّان : واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة ، وفيه نظر ؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لَبس ؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع مثل هذا الظن ، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ .

ولفظ ( أخر ) ممنوع من الصرف في كلام العرب . وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل ، أما الوصفية ظاهرة وأما العدل فقالوا : لما كان جمع آخَر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرَّف باللام كان حقه أن يلزم الإفرادَ والتذكير جريا على سَنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أَنه يَلزَمُ الإفرادَ والتذكير فلما نطقَ به العرب مطابقاً لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله ( والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان ؛ لأنه غير معتاد الاستعمال ) فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما ، وفيه ما فيه .

ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان ، فأطلقت ( عدة من أيام أخر ) ، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها ؟ ولا وجوبَ المبادرة بها أو جوازَ تأخيرها ، ولا وجوبَ الكفارة على الفطر متعمداً في بعض أيام القضاء ، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليلُ التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص ، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية .

فأما حكم تتابع أيام القضاء ، فروى الدارقطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت { فعدة من أيام أُخر متتابعات } متتابعات فسقطت متتابعات ، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أبو هريرة ، وأبو عبيدة ، ومعاذ بن جبل ، وابن عباس ، وتلك رخصة من الله ، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله : { من أيام أُخر } ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ .

فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قُيِّدَت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ . وفي « الموطأ » عن ابن عمر أنه يقول : يصوم قضاء رمضان متتابعاً من أفطره من مرض أو سفر ، قال الباجي في « المنتقى » : يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب .

وأما المبادرة بالقضاء ، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها ، وقوله هنا : { فعدة من أيام أُخر } مراد به الأمر بالقضاء ، وأصل الأمر لا يقتضي الفور ، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور بل هو موسَّع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه ، وفي « الصحيح » عن عائشة قالت : يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان . وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور ، وبذلك قال جمهور العلماء وشذ داود الظاهري فقال : يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم من شوال المعاقب له .

وأما من أفطر متعمداً في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه ؛ لأن الكفارة شرعت حفظاً لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة : تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله .

عطف على قوله : { عليكم الصيام } والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية ؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله : { كتب عليكم الصيام } .

والمطيق هو الذي أطاق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله ، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز ، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة : هذا ما لا يطاق ، وفسرها الفراء بالجَهد بفتح الجيم وهو المشقة ، وفي بعض روايات « صحيح البخاري » عن ابن عباس قرأ : ( وعلى الذين يُطَوَّقونه فلا يطيقونه ) . وهي تفسير فيما أحسب ، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة ، وقيل الطاقة القدرة مطلقاً .

فعلى تفسير الإطاقة بالجَهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفِدْية .

وقد سمَّوا من هؤلاء الشيخَ الهرم والمرأةَ المرضعَ والحاملَ فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي ، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم ، ووافق أبو حنيفة في الفطر ؛ إلاّ أنّه لم ير الفدية إلاّ على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع ، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية } هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء ؟ والآية تحتملهما إلاّ أنها في الأول أظهر ، ويؤيد ذلك فعل السلف ، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عَشْراً بعد المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً .

وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام ، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه : إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه ، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلَمةَ بن الأكْوَع نسختْها آية { شهر رمضان } [ البقرة : 185 ] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً تركَ الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسَختها : { وأن تصوموا خير لكم } ، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر .

ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كلَّ من تلحقه مشقة أو توقُّع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حَر ، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحدَّاد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحَمْل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظِّئْرِ .

وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبيَّن إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر : ( فديةُ طعام مساكين ) ، بإضافة فدية إلى طعام ، وقرأه الباقون بتنوين ( فدية ) وإبدال ( طعام ) من ( فدية ) .

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( مساكين ) بصيغة الجمع جمع مسكين ، وقرأه الباقون بصيغة المفرد ، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين ، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جَمْع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم ، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين .

والإطعام هو ما يشبع عادةً من الطعام المتغذى به في البلد ، وقدره فقهاء المدينة مُدّاً بمد النبي صلى الله عليه وسلم من بُرّ أو شعير أو تمر .

تفريع على قوله : { وعلى الذين يطيقونه فدية } الخ ، والتطوع : السعي في أن يكون طائعاً غير مكره أي طاع طوعاً من تلقاء نفسه . والخير مصدر خار إذا حَسُن وشَرُف وهو منصوب لتضمين { تطوَّعَ } معنى أَتى ، أو يكون { خيراً } صفةً لمصدر محذوف أي تطوعاً خيراً .

ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة ، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد : فمن زاد على إطعام مسكينٍ واحد فهو خير ، وهذا قول ابن عباس ، أو أن يكون : مَن أراد الإطعام مع الصيام ، قاله ابن شهاب ، وعن مجاهد : مَن زاد في الإطعام على المُدّ وهو بعيد ؛ إذ ليس المُدّ مصرحاً به في الآية ، وقد أطعم أنس بن مالك خبزاً ولحماً عن كل يوم أفطره حين شاخ .

و { خير } الثاني في قوله : { فهو خير له } يجوز أن يكون مصدراً كالأول ويكون المراد به خيراً آخر أي خير الآخرة . ويجوز أن يكون خير الثاني تفضيلاً أي فالتطوع بالزيادة أفضل من تركها وحذف المفضل عليه لظهوره .

الظاهر رجوعه لقوله : { وعلى الذين يطيقونه فدية } فإن كان قوله ذلك نازلاً في إباحة الفطر للقادر فقوله : { وأن تصوموا } ترغيب في الصوم وتأنيس به ، وإن كان نازلاً في إباحته لصاحب المشقة كالهَرِم فكذلك ، ويحتمل أن يرجع إلى قوله : { ومن كان مريضاً } وما بعده ، فيكون تفضيلاً للصوم على الفطر إلاّ أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة ، ومذهب مالك رحمه الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض .

وقوله : { إن كنتم تعلمون } تذييل أي تَعْلَمون فوائدَ الصوم على رجوعه لقوله : { وعلى الذين يطيقونه } إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابَه أُخرى ، أو إن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر . وجيء في الشرط بكلمة ( إنْ ) لأن علمهم بالأمرين من شأنه ألاّ يكون محققاً ؛ لخفاء الفائدتين .