وهكذا تختم السورة التي بدأت بعلاقات الأسرة ، وتكافلها الاجتماعي ؛ وتضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها . . تختم بتكملة أحكام الكلالة - وهي على قول أبى بكر رضي الله عنه وهو قول الجماعة : ما ليس فيها ولد ولا والد .
وقد ورد شطر هذه الأحكام في أول السورة . وهو الشطر المتعلق بوراثة الكلالة من جهة الرحم حين لا توجد عصبة . وقد كان نصه هناك : ( وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة - وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - وصية من الله ، والله عليم حليم ) . .
فالآن يستكمل الشطر الآخر في وراثة الكلالة . . فإن كانت للمتوفى ، الذي لا ولد له ولا والد ، أخت شقيقة أو لأب ، فلها نصف ما ترك أخوها . وهو يرث تركتها - بعد أصحاب الفروض - إن لم يكن لها ولد ولا والد كذلك . فإن كانتا أختين شقيقتين أو لأب فلهما الثلثان مما ترك . وإن تعدد الإخوة والأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين - حسب القاعدة العامة في الميراث - والإخوة والأخوات الأشقاء يحجبون الإخوة والأخوات لأب حين يجتمعون .
وتختم آية الميراث ، وتختم معها السورة ، بذلك التعقيب القرآني الذي يرد الأمور كلها لله ، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات ، والأموال وغير الأموال بشريعة الله :
( يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ) . .
صيغة جامعة شاملة ( بكل شيء ) من الميراث وغير الميراث . من علاقات الأسر وعلاقات الجماعات . من الأحكام والتشريعات . . فإما اتباع بيان الله في كل شيء ، وإما الضلال . . طريقان اثنان لحياة الناس لا ثالث لهما : طريق بيان الله فهو الهدى . وطريق من عداه فهو الضلال .
تقدم القول في تفسير { الكلالة } في صدر السورة ، وان المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل ، وبقي فيها من يتكلل ، أي : يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل ، وكان أَمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلاً فقال : ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة ، ولوددت أن رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر : ثلاث لو بينها رسول الله كان أحب إليَّ من الدنيا : الجد والكلالة ، والخلافة ، وأبواب من الربا{[4392]} ، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتاباً فمكث يستخير الله فيه ويقول : اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه ، فلما طعن دعا بالكتابة فمحي ، فلم يدر أحد ما كان فيه{[4393]} ، وروى الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال : ذكروا أن عمر رضي الله عنه قال : لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليَّ من جزية قصور الشام{[4394]} . وقال طارق بن شهاب : أخذ عمر بن الخطاب كتفاً وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا ، فقال عمر : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه{[4395]} ، وقال معدان بن أبي طلحة : خطب عمر بالناس يوم الجمعة فقال : إني والله ما أدع بعدي شيئاً هو أهم إليَّ من أمر الكلالة وقد سألت عنها رسول الله ، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف معها اثنان ممن يقرأ القرآن{[4396]} . وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة فقال : ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة ؟ وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة{[4397]} .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية الصيف هي هذه ، وروى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف { وإن كان رجل يورث كلالة }إلى آخر الآية{[4398]} .
قال القاضي رحمه الله : هذا هو الظاهر ، لأن البراء بن عازب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وقال كثير من الصحابة : هي من آخر ما نزل{[4399]} ، وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسببي ، عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت يا رسول الله : كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم يكن لي والد ولا ولد ؟ فنزلت الآية{[4400]} .
قال القاضي أبو محمد : وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكفيك منها آية الصيف ، بيان فيه كفاية وجلاء ، ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه ؟ إلا أن تكون دلالة اللفظ ولذلك قال بعضهم : { الكلالة } الميت نفسه{[4401]} ، وقال آخرون { الكلالة } المال ، إلى غير ذلك من الخلاف ، وإذا لم يكن في الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختاً ، فلها النصف فرضاً مسمى بهذه الآية ، فإن ترك الميت بنتاً وأختاً ، فللبنت النصف ، وللأخت النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى ، ولعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس ، وذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته : ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال ، أنزلها الله في أولي الأرحام{[4402]} .
وقرأ ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ » وقوله تعالى { أن تضلوا } معناه : كراهية أن تضلوا ، وحذر أن تضلوا فالتقدير . لئلا تضلوا ، ومنه قول القطامي في صفة ناقة : [ الوافُر ]
رَأَيْنا مَا يَرَى البُصَرَاءُ مِنْهَا *** فآلينا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعا{[4403]}
وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ { يبين الله لكم أن تضلوا } قال : اللهم من بَّينت له الكلالة فلم تتبّين لي{[4404]} .