وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى التي تدور عليها السورة . حقيقة الوحي والرسالة . يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده ، وفي أية صورة يكون . ويؤكد أنه قد وقع فعلا إلى الرسول الأخير[ صلى الله عليه وسلم ] لغاية يريدها الله سبحانه . ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم :
( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور ) . .
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة . وقد روي عن عائشة رضى الله عنها : " من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية " إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : ( وحيا )يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، ( أو من وراء حجاب ) . . كما كلم الله موسى - عليه السلام - وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل ( وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) . . ( أو يرسل رسولاً )وهو الملك ( فيوحي بإذنه ما يشاء )بالطرق التي وردت عن رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .
الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " . . والثانية : أنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول . والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .
هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . ( إنه علي حكيم ) . . يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار . .
وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف ? كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء ? ! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات ?
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود ? ولا شكل له معهود ?
ولكني أعود فأقول : وما لك تسأل عن كيف ? وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية ? ! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول ! إن النبوة هذه أمر عظيم حقاً . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً . تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور ? ! أأنت معي تحاول أن تتصور ? ! هذا الوحي الصادر من هناك . أأقول : هناك ? ! كلا . إنه ليس هناك " هناك " ! الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . . إنسان مهما يكن نبياً رسولاً ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . . هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله ? إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات . وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : " قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام " قلت : وعليه السلام ورحمة الله . قالت : وهو يرى ما لا نرى " . وهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه . وهؤلاء هم الصحابة - رضوان الله عليهم - في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه . . . .
ثم . . أية طبيعة . طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم ? أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه ?
إنها هي الأخرى مسألة ! إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه .
روح هذا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي ? كيف كانت تتفتح ? كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض ? كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود ؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله ?
ثم . . أية رعاية ? وأية رحمة ? وأية مكرمة ? . . والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان . فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض ? .
إنها حقيقة . ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء :
قوله عز وجل :{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه ، إن كنت نبياً ، كما كلمه موسى ونظر إليه ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله عز وجل ، فأنزل الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } يوحي إليه في المنام أو بالإلهام ، { أو من وراء حجاب } يسمعه كلامه ولا يراه ، كما كلمه موسى عليه الصلاة والسلام ، { أو يرسل رسولاً } إما جبريل أو غيره من الملائكة ، { فيوحي بإذنه ما يشاء } بنصب اللام والياء عطفاً على محل الوحي لأن معناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل رسولاً . { إنه علي حكيم }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه إلا وحيا يوحي الله إليه كيف شاء، أو إلهاما، وإما غيره، "أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ "يقول: أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى نبيه صلى الله عليه وسلم، "أوْ يُرْسِلَ رَسُولاً" يقول: أو يرسل الله من ملائكته رسولاً، إما جبرائيل، وإما غيره، "فَيُوحِيَ بإذْنِهِ ما يَشاءُ" يقول: فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء، يعني: ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي، وغير ذلك من الرسالة والوحي... وقوله: "إنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ" يقول تعالى ذكره إنه يعني نفسه جلّ ثناؤه: ذو علوّ على كل شيء وارتفاع عليه، واقتدار. "حكيم": يقول: ذو حكمة في تدبيره خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كان هذا إنما ذَكر، وأخبر عن نازلة أو سؤال كان عن كيفية الرسالة؟ وهل الرسل عليهم السلام يرون ربهم، ويشاهدونه، ويشافهونه؟ فأخبر أنه ليس من البشر من يكلّمه إلا بالطرق الثلاثة التي ذكرها، والسؤال وقع عن الرؤية في الدنيا. فيكون الجواب بناء على السؤال، والله أعلم.
{إلا وحيا} قال بعضهم {إلا وحيا} ما يُرى في المنام. ورؤيا الأنبياء عليهم السلام حقيقة.
{أو من وراء حجاب} نحو ما كلّم موسى عليه السلام...
ثم اختُلف في قوله: {أو من وراء حجاب} قال بعضهم: الحُجُب نفسها هي حقيقة الحُجُب.
وقال بعضهم: الحجاب هو عجزهم عن احتمال رؤيته؛ لأن الله أنشأهم على بنية وخِلقة، لا تقوم أنفسهم القيام، لذلك على ما أخبر عز وجل حين قال لموسى عليه السلام: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} [الأعراف: 143] [أي].
ويحتمل أن يكون سبب نزول قوله: {وما كان لبشر أن يُكلّمه الله إلا وحيا} الآية قول أولئك الكفرة حين أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلّمنا الله أو تأتينا آية} [البقرة: 118] وقوله لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] سألوا أن يروا ربهم جهارا، فقد حُجبوا عن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة حين قال: {كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15]. وسألوا أن يخبرهم شِفاها، فأخبر أنه لا يكلّم أحدا شفاها، ولكن يُكلّم بما ذكر من الأوجه الثلاثة حين قال: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} ردًّا عليهم. فأخبر الله تعالى أن طريق تكليمه الخلق في الدنيا هذه الوجوه التي ذكرنا، وقد كلّم البشر من هذه [السُّبُل والطرق] التي ذكر حين قال: {اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3] أخبر أنه أنزل إليهم ما ذكر كما أنزل على الرسول، وحين قال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمع كلام الله} الآية [التوبة: 6] وغير ذلك من الآيات مما يكون كأنه قد كلّمهم بما ذكر كما كلّم الرسل من الوجوه التي ذكر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إنه علي حكيم" معناه إن كلامه المسموع منه لا يكون مخاطبة يظهر فيها المتكلم بالرؤية، لأنه العلي عن الإدراك بالأبصار وهو الحكيم في جميع أفعاله وفي كيفية خطابه لخلقه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لله بحقِّ مُلْكِه أن يفعل ما يشاء، ويعطي مَنْ يشاء مِنْ عباده ما يشاء، ولكن أجرى العادة وحَكَم بأنه لا يفعل إلا ما وَرَدَ في هذه الآية؛ فلم يُكَلِّم أحداً إلا بالوحي أو من وراء حجاب؛ يعني وهو لا يرى الحقَّ، فالمحجوبُ هو العبد لا الرب، والحجابُ أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية.. تعالى اللَّهُ عن أن يكونَ من وراء حجاب؛ لأن ذلك صفةُ الأجسام المحدودة التي يُسْبَلُ عليها ستر.
اعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة وحي، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي؛ لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى، فهذا هو الكلام في تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث؛ لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي.. كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان، المحيطة بكل شيء، والتي ليس كمثلها شيء. كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان، محدودة بحدود المخلوقات، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟ وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟ وكيف وكيف؟.. ولكني أعود فأقول: وما لك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة. وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود. ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقاً. وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً. تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية.. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟! هذا الوحي الصادر من هناك. أأقول: هناك؟! كلا. إنه ليس هناك "هناك "! الصادر من غير مكان ولا زمان، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف. الصادر من المطلق النهائي، الأزلي الأبدي، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان.. إنسان مهما يكن نبياً رسولاً، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود.. هذا الوحي. هذا الاتصال العجيب. المعجز. الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق.. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات. هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته، والخارق في صورته، الذي حدث مرات ومرات. وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين، على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول: "قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "يا عائشة. هذا جبريل يقرئك السلام" قلت: وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا نرى "وهذا زيد بن ثابت -رضي الله عنه- يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على فخذه، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه وهؤلاء هم الصحابة -رضوان الله عليهم- في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول [صلى الله عليه وسلم] فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه، فيعود إليهم ويعودون إليه...
ثم.. أية طبيعة. طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي، ويختلط بذلك العنصر، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟ إنها هي الأخرى مسألة! إنها حقيقة. ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد، لا تكاد المدارك تتملاه. روح هذا النبي [صلى الله عليه وسلم] روح هذا الإنسان. كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟ ثم.. أية رعاية؟ وأية رحمة وأية مكرمة؟.. والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان. فيوحي إليها لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، ورد شاردها.. وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟. إنها حقيقة. ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذ قد كان أهم غرض هذه السورة إثبات كون القرآن وحيا من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحي من قبله للرسل كان العود إلى ذلك من قبيل ردّ العجز على الصدر. فبيَّن الله للمكذبين أن سنة الله في خطاب رسله لا تعدو ثلاثة أنحاء من الخطاب، منها ما جاء به القرآن فلم يكن ذلك بدعاً مما جاءت به الرسل الأولون وما كان الله ليخاطب رسله على الأنحاء التي اقترحها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم فجيء بصيغة حصر مفتتحة بصيغة الجحود المفيدة مبالغة النفي وهي {وما كان لبشر أن يكلمه الله} أي لم يتهيّأ لأحد من الرسل أن يأتيه خطاب من الله بنوع من هذه الثلاثة.
ودل ذلك على انتفاء أن يكون إبلاغ مراد الله تعالى لأمم الرسل بغير أحد هذه الأنواع الثلاثة أعني خصوص نوع إرسال رسول، بدلالة فحوى الخطاب فإنه إذا كان الرسل لا يخاطبهم الله إلاّ بأحد هذه الأنحاء الثلاثة فالأمم أولى بأن لا يخاطبوا بغير ذلك من نحو ما سأله المشركون من رؤية الله يخاطبهم، أو مجيء الملائكة إليهم بل لا يتوجه إليهم خطاب الله إلاّ بواسطة رسول منهم يتلقى كلام الله بنحو من الأنحاء الثلاثة وهو مما يدخل في قوله: {أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} فإن الرسول يكون مَلَكاً وهو الذي يبلّغ الوحي إلى الرسُل والأنبياء.
والاستثناء في قوله: {إلا وحياً} استثناء من عموم أنواع المتكلم التي دلّ عليها الفعل الواقع في سياق النفي وهو {ما كان لبشر أن يكلمه الله}.
فانتصاب {وحياً} على الصفة لمصدر محذوف دل عليه الاستثناء، والتقدير: إلا كلاماً وحياً أي موحًى به كما تقول: لا أكلمه إلاّ جهراً، أو إلا إخفاتاً، لأن الجهر والإخفات صفتان للكلام.
والمراد بالتكلم بلوغ مراد الله إلى النبي سواء كان ذلك البلوغ بكلام يسمعه ولا يَرى مصدره أو بكلام يبلغه إليه المَلَكُ عن الله تعالى، أو بعلم يُلقى في نفس النبي يوقن بأنه مراد الله بعلم ضروري يجعله الله في نفسه.
وإطلاق الكلام على هذه الثلاثة الأنواع: بعضُه حقيقة مثل ما يسمعه النبي كما سمع موسى، وبعضه مجاز قريب من الحقيقة وهو ما يبلغه إلى النبي فإنه رسالة بكلام، وبعضه مجاز محض وهو ما يلقى في قلب النبي مع العلم، فإطلاق فعل {يكلمه} على جميعها من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه على طريقة استعمال المشترك في معانيه.
وإسناد فعل {يكلمه} إلى الله إسناد مجازي عقلي. وبهذا الاعتبار صار استثناء الكلام الموصوف بأنه وحي استثناء متصلاً.
وأصل الوحي: الإشارة الخفيّة، ومنه {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرةً وعشياً} [مريم: 11]. ويطلق على ما يجده المرء في نفسه دفعة كحصول معنى الكلام في نفس السامع.
وهذا الإطلاق هو المراد هنا بقرينة المقابلة بالنوعين الآخرين. ومِن هنا أطلق الوحي على ما فطر الله عليه الحيوان من الإلهام المتقن الدقيق كقوله: {وأوحى ربُّك إلى النحل} [النحل: 68]. فالوحي بهذا المعنى نوع من أنواع إلقاء كلام الله إلى الأنبياء وهو النوع الأول في العدّ، فأطلق الوحي على الكلام الذي يسمعه النبي بكيفية غير معتادة وهذا الإطلاق من مصطلح القرآن وهو الغالب في إطلاقات الكتاب والسنة ومنه قول زيد بن ثابت « فعَلمْتُ أنه يُوحَى إليه ثم سُرِّي عنه» فقرأ {غير أولي الضرر} [النساء: 95]، ولم يقل فنزل إليه جبريل.
والوحي بهذا المعنى غير الوحي الذي سيجيئ في قوله: {أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء}. والمراد بالوحي هنا: إيقاع مراد الله في نفس النبي يحصل له به العلم بأنه من عند الله فهو حجة للنبيء لمكان العلم الضروري، وحجة للأمة لمكان العِصمة من وسوسة الشيطان، وقد يحصل لغير الأنبياء ولكنه غير مطرد ولا منضبط مع أنه واقع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعُمرُ بن الخطاب "قال ابن وهب محدَّثون: مُلْهَمُون.
والنوع الثاني: أن يكون الكلام من وراء حجاب يسمعه سامعه ولا يرى مصدره بأن يخلق الله كلاماً في شيء محجوب عن سامعه وهو ما وصف الله هنا بقوله: {أو من وراء حجاب}.
والمعنى: أو محجوباً المخاطَب بالفتح عن رؤية مصدر الكلام، فالكلام كأنه من وراء حجاب، وهذا مثل تكليم الله تعالى موسى في البقعة المباركة من الشجرة، ويحصل علم المخاطب بأن ذلك الكلام من عند الله أول مرة بآية يريه الله إياها يعلم أنها لا تكون إلا بتسخير الله كما علم موسى ذلك بانقلاب عصاهُ حيّة ثم عَوْدِها إلى حالتها الأولى، وبخروج يده من جَيْبه بيضاء، كما قال تعالى: {آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى اذهَبْ إلى فرعون إنه طغى} [طه: 22، 24]. ثم يصير بعد ذلك عادة يعرف بها كلام الله.
واختص بهذا النوع من الكلام في الرسل السابقين موسى عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى:
{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} [الأعراف: 144] وليس الوحي إلى موسى منحصراً في هذا النوع فإنه كان يوحى إليه الوحي الغالب لجميع الأنبياء والرسل وقد حصل هذا النوع من الكلام لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فقد جاء في حديث الإسراء: أن الله فرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة ثم خفّف الله منها حتى بلغت خمس صلوات وأنه سمع قوله تعالى: « أتممتُ فريضتي وخففت عن عبادي».
والقول بأنه سمع كلام الله ليلة أسري به إلى السماء مرويّ عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد الصادق والأشعري والواسطي، وهو الظاهر لأن فضل محمد على جميع المرسلين يستلزم أن يعطيه الله من أفضل ما أعطاه رسله عليهم السلام جميعاً.
النوع الثالث: أن يرسل الله الملَك إلى النبي فيبلغ إليه كلاماً يسمعه النبي ويعيه، وهذا هو غالب ما يوجه إلى الأنبياء من كلام الله تعالى، قال تعالى في ذكر زكرياء {فنادته الملائكة وهو قائم يصلِّي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى} [آل عمران: 39].
ومن لطائف نسج هذه الآية ترتيب ما دل على تكليم الله الرسل بدلالات؛ فجيء بالمصدر أولاً في قوله: {إلا وحياً} وجيء بما يشبه الجملة ثانياً وهو قوله: {من وراء الحجاب}، وجيء بالجملة الفعلية ثالثاً بقوله: {يرسل رسولاً}. وقرأ نافع {أو يرسلُ} برفع {يرسلُ} على الخبرية، والتقدير أو هو مرسل رسولاً. وقرأ {فيوحي} بسكون الياء بعد كسرة الحاء. وقرأ الباقون {أو يرسل} بنصب الفعل على تقدير (أنْ) محذوفة دل عليها العطف على المصدر فصار الفعل المعطوف في معنى المصدر، فاحتاج إلى تقدير حرف السبك. وقرأوا {فيوحي} بفتحة على الياء عطفاً على {يرسل}.
ومَا صْدَقُ {ما يشاء} كلام، أي فيوحي كلاماً يشاؤه الله فكانت هذه الجملة في معنى الصفة ل
(كلاماً) المستثنى المحذوف، والرابط هو {ما يشاء} لأنه في معنى: كلاماً، فهو كربط الجملة بإعادة لفظ ما هي له أو بمرادفه نحو {الحاقة ما الحاقّة} [الحاقة: 1، 2]. والتقدير: أوْ إلاَّ كلاماً موصوفاً بأن الله يرسل رسولاً فيوحي بإذنه كلاماً يشاؤه فإن الإرسال نوع من الكلام المراد في هذه الآية.
وخلاصة معنى الآية أن الله قد يخلق في نفس جبريل أو غيره من الملائكة علماً بمراد الله على كيفية لا نعلمها، وعلماً بأن الله سخره إبلاغ مراده إلى النبي، والمَلكُ يبلغ إلى النبي ما أُمر بتبليغه امتثالاً للأمر التسخيري، بألفاظ معينة ألقاها الله في نفس الملك مثل ألفاظ القرآن، أو بألفاظ من صنعة الملك كالتي حكى الله عن زكرياء بقوله: {فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلِّي في المحراب أنَّ الله يبشرك بيحيى} [آل عمران: 39]. أو يخلقُ في سمع النبي كلاماً يعلم علم اليقين أنه غير صادر إليه من متكلم، فيوقن أنه من عند الله بدلالة المعجزة أول مرة وبدلالة تعوّده بعد ذلك. وهذا مثل الكلام الذي كلم الله به موسى ألا ترى إلى قوله تعالى: {أنْ يا موسى إنني أنا الله ربّ العالمين وأنْ ألْقِ عصاك} [القصص: 30، 31] الآية، فقرن خطابه الخارق للعادة بالمعجزة الخارقة للعادة ليُوقن موسى أن ذلك كلام من عند الله. أو يخلقُ في نفس النبي علماً قطعياً بأن الله أراد منه كذا كما يخلق في نفس المَلك في الحالة المذكورة أولاً.
فعلى هذه الكيفيات يأتي الوحي للأنبياء ويَختص القرآن بمزية أن الله تعالى يخلق كلاماً يَعِيه المَلك ويؤمر بإبلاغه بنصه دون تغير إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
طرق ارتباط الانبياء بالخالق: هذه السورة، كما قلنا في بدايتها، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة، فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به، لأن الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي). وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهم نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية، ألا وهي قضية الوحي والارتباط بين الأنبياء والخالق.
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } الآية : بين الله تعالى فيها كلامه لعباده وجعله على ثلاثة أوجه :
أحدها : الوحي المذكور أولا وهو الذي يكون بالهام أو منام .
والآخر : أن يسمعه كلامه من وراء حجاب .
الثالث : الوحي بواسطة الملك وهو قوله : { أو يرسل رسولا } يعني : ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي وهذا خاص بالأنبياء .
والثاني : خاص بموسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم إذ كلمه الله ليلة الإسراء .
وأما الأول : فيكون للأنبياء والأولياء كثيرا وقد يكون لسائر الخلق ومنه : { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] ومنه منامات الناس .
{ أو يرسل رسولا } قرئ يرسل ، ويوحي بالرفع على تقدير أو هو يرسل وبالنصب عطفا على وحيا لأن تقديره : أن يوحي عطف على أن المقدرة .
ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة ، والقدرة فيه أظهر وفاقاً لما ختمت به الآية ، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعاً من غير توسط سبب ، وقد يكون بتوسيط سبب ، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر العلم ، وقسمه أيضاً إلى ما هو بواسطة وإلى ما هو بغير واسطة ، ولكن سر التقدير في القسم الأول الكلام وهو الذي شرف به ، وكان لا يمكن أحداً أن يتكلم إلا بتكليم الله له أي إيجاده الكلام في قلبه قال : { وما } أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحياً منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما { كان لبشر } من الأقسام المذكورة ، وحل المصدر الذي هو اسم " كان " ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال : { أن يكلمه } وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره بجلالة إيثاره قفال : { الله } أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلاماً { إلا وحياً } أي كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء خلق الله في المكلم به قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام مطلقاً سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسيماً لما بعده أولاً أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير{ وأوحينا إلى أم موسى }[ القصص : 7 ]
{ وأوحى ربك إلى النحل }[ النحل : 68 ] { وأوحى في كل سماء أمرها }[ فصلت : 12 ] فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه - والله أعلم . وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز : وقد قيل في قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } الآية أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة ، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه : والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة .
ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان ، استعير لمطلق الخفاء فقال : { أو من } أي كلاماً كائناً بلا واسطة ، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من { وراء حجاب } أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر ، قال القشيري : والمحجوب العبد لا الرب ، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية ، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام - انتهى .
والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً ، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً ، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً ، وسره أن ترك التصريح بالرؤية والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة .
ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه أخفى الأقسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات ، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال : { أو يرسل } وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله { رسولاً } أي من الملائكة . ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال : { فيوحي } أي على سبيل التجديد والترتيب ، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير : أو هو يرسل . ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله ، رد ذلك بقوله : { بإذنه } أي بإقداره وتمكينه ، فذلك المبلغ إنما هو آلة . ولما كان رسوله لا يخرج عما حده له بوجه قال : { ما يشاء } أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهو المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام : أولها فيه قسمان ، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعة ، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة .
ولما كانت الأقسام الثلاثة دالة على العظمة الباهرة ، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة الحركة بالإرادة والحس ، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة : { إنه } أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم { عليّ } أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً ، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة { حكيم * } يتقن ما يفعله إتقاناً لا تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كما كان براً بعد بر ، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال ، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك السياق ، ومهما أوهم شيء من ذلك نقصاً فرد المستبصر إلى المحكم بضرب من التأويل على ما يقتضيه الشائع من استعمالات العرب رجع رجوعاً بيناً متقناً بحيث يصير في غاية الجلاء .