ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام :
( حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم ) .
والميتة والدم ولحم الخنزير ، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات [ ص 156 - ص157 من الجزء الثاني من الظلال ] وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ؛ وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد ؟ !
وأما ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ؛ وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة ؛ وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به ؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله [ وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ] حرام ؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه ؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية ؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير .
وأما المنخنقة [ وهي التي تموت خنقا ] والموقوذة [ وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت ] والمتردية [ وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت ] والنطيحة [ وهي التي تنطحها بهيمة فتموت ] وما أكل السبع [ وهي الفريسة لأي من الوحش ] . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : [ إلا ما ذكيتم ] فحكمها هو حكم الميتة . . إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . . على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم " التذكية " ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا - أو يقتلها حتما - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أيا كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة . .
واما ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام - حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .
ويبقى الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب ؛ فتقسم بواسطتها الجزور - أي الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات ؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ؛ والتقوى الموكولة إلى الله . . . فمن أقدم مضطرا ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب :
وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، ليعلن كمال الرسالة ، وتمام النعمة ، فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل - أن أيام الرسول [ ص ] على الأرض معدودة . فقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ؛ ولم يعد إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق .
هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح ؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها . . ما دلالة هذا ؟ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ . كل متكامل . سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . وأن هذا في مجموعة هو " الدين " الذي يقول الله عنه في هذه الآية : إنه أكمله . وهو " النعمة " التي يقول الله للذين آمنوا : إنه أتمها عليهم . وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . . فكلها في مجموعها تكون المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا ؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه ، كالخروج عليه كله ، خروج على هذا " الدين " وخروج من هذا الدين بالتبعية . .
والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره ؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج ، الذي رضيه الله للمؤمنين ، واستبدال غيره به من صنع البشر ؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله - سبحانه - وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر ؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض ، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى . . الحاكمية . . وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين ؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية . .
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) . .
يئسوا أن يبطلوه ، أو ينقصوه ، أو يحرفوه . وقد كتب الله له الكمال ؛ وسجل له البقاء . . ولقد يغلبونعلى المسلمين في موقعة ، أو في فترة ، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين . فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور ، ولا يناله التحريف أيضا ، على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه ؛ وعلى شدة ما كادوا له ، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور . . غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة ؛ تعرف هذا الدين ؛ وتناضل عنه ، ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا ؛ حتى تسلمه الى من يليها . وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين !
فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا . وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه ؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته ؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه . .
وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة ، لا يقتصر على ذلك الجيل ؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان . . نقول : للذين آمنوا . . الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين ، بمعناه الكامل الشامل ؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها . . وهؤلاء - وحدهم - هم المؤمنون . .
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . . أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم " الإسلام " دينا ؛ فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة ، وتوجيهات عميقة ، ومقتضيات وتكاليف . .
إن المؤمن يقف أولا : أمام إكمال هذا الدين ؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى ؟ . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ؛ متكيفة بهذه الظروف . . كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولا خاتم النبيين برسالة " للإنسان " لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . . رسالة تخاطب " الإنسان " من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة " الإنسان " من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ؛ وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسيةفيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . . وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة " الإنسان " منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . . وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا :
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معا . . فهذا هو الدين . . ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . . وإلا فما هو بمؤمن ؛ وما هو بمقر بصدق الله ؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء " للإنسان " في كل زمان وفي كل مكان ؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق " الإنسان " ويعلم من خلق ؛ هو الذي رضي له هذا الدين ؛ المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ؛ وبأطوار الإنسان !
ويقف المؤمن ثانيا : أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين ؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد " الإنسان " في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . " فالإنسان " لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و " الإنسان " لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة " الإنسان " بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد " الإنسان " . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ؛ يمكن أن يكون " حيوانًا أو أن يكون " مشروع إنسان " في طريقه إلى التكوين ! ولكنه لا يكون " الإنسان " في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق " للإنسان " " إنسانيته " كاملة . . يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة " التصور " الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . . ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . . هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف ؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . . ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ؛ ومن العادات الزرية ؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
" فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن :
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
" وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول :
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه *** ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
" وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره " .
" وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ؛ ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء " .
" وقد قيل عن عزة كليب وائل : إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل : " لا حر بوادي عوف " لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . . كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي ، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ويقف المؤمن ثالثا : أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها .
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا ، يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . . فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . . وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . . وإنها - إذن - لجريمة نكدة ؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . . فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . . واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد :
{ حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم ، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية . { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها . { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه . { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق . { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب ، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته . { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت . { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل . { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات ، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل . { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد . { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة . وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام . وقيل هو جمع والواحد نصاب . { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح . مكتوب على أحدها ، أمرني ربي . وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل ، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام . وقيل : هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد . { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام ، وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله ، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم . { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية . وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع . { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه . { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم . { واخشون } وأخلصوا الخشية لي . { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير . { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات . { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } . { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله .
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } .
استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم } [ المائدة : 1 ] ، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام .
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها ، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا . وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها . وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير ، لاستيعاب محرّمات الحيوان . وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك ، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية ، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها ، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف . وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياساً ، وهو من قياس الأدْون ، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان { الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] . وهو قول أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه ، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : يَجوز أكل الخيل . وثبت في الصحيح ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ذبحنا فرساً على عهد رسول الله فأكلناه . ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ . وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل .
وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر . فقيل : لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة . وقيل : نهى عنها أبداً . وقال ابن عباس بإباحتها . فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة .
والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة ، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها . وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّاً بسبب العدوى ، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير ، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالباً مقدار ما مضى عليه في حالة الموت ، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها .
والدم هنا هو الدم المُهراق ، أي المسفوح ، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام ( 145 ) ، حَملاً لمطلقِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام ، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد ، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق .
والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة : لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه ، ولا تعرّض في الآية لذلك ، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها ، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد .
وقد كانت العرب تأكل الدم ، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه ، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء . وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم } في سورة البقرة ( 173 ) .
وإنَّما قال : ولحمَ الخنزير } ولم يقل والخنزير كما قال : { وما أهلّ لغير الله به } إلى آخر المعطوفات . ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير . ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر . وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة ( 173 ) . ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله . وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره ، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة ، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة . وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم « أيما إهاب دبغ فقد طهر » رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس . وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة ، منها مرض الديدان التي في المعدة .
{ وما أهلّ لغير الله به } هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله . والإهلالُ : الجهر بالصوتِ ومنه الإهلال بالحجّ ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ ، ومنه استهلّ الصبي صارخاً . قيل : ذلك مشتقّ من اسم الهلال ، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر ، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته . وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم ، فقالوا : باسم اللاّت ، باسم العُزّى .
{ والمنخنقة } هي التي عرض لها ما يخنقها . والخَنْق : سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق ، أو بسدّه ، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها ، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها . ولذلك قيل هنا : المنخنقة ، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله { والموقوذة } ، فهذا مراد ابن عباس بقوله : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها .
وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله .
{ والموقوذة } : المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم ، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضرباً مثخِناً . وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة . وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة .
{ والمتردّية } : هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّياً تموت به ، والحكمة واحدة .
{ والنطيحة } فعيلة بمعنى مَفعولة . والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيواناً آخر . والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت . وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة ، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء .
{ وما أكل السبع } : أي بهيمة أكَلَها السبع ، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب ، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع ، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالباً بل بالضرب على المقاتل .
وقوله : { إلاّ ما ذكّيتم } استثناء من جميع المذكور قبله من قوله : { حرّمت عليكم الميتة } ؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها ، يرجع إلى جميعها عند الجمهور ، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي ، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها . وحيث كان المستثنى حالاً لا ذاتاً ، لأنّ الذكاة حالة ، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير ، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي ، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله . ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت ، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث ، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم ، وكذا ما أهِلّ لغير الله به ، لأنهم يهلّون به عند الذكاة ، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله ، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء : المنخنقة ، والموقوذة ، والتمردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك ، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة ، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها . والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة . وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى : { قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقاً أهلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئاً ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا ، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقاً . فعَضّوا على هذا بالنواجذ .
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة : فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة ، قبل الذبح أو النحر ، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكاً يدلّ على الحياة عرفاً ، وليس هو تحريك انطلاق الموت .
وهذا قول مالك في « الموطّأ » ، ورواية جمهور أصحابه عنه . وعن مالك : أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغاً أنْفِذَتْ معه مقاتلها ، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة ، لا تصحّ ذكاتها ، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة . وهذه رواية ابن القاسم عن مالك ، وهو أحد قولي الشافعي . ومن الفقهاء من قالوا : إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة ، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح . وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك ، واختاره ابن حبيب ، وأحد قولين للشافعي . ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة ، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل ، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح ، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة ، إلاّ أنّ يقال : إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن ، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات ، وهو بعيد . ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله : { وما أكل السبع } على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظراً إلى غلبة هذا الصنف بين العرب ، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيراً ، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة .
{ وما ذُبح على النُصب } هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب . والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب ، فهو مفرد مراد به الجنس ، وقيل : هو جمع وواحده نِصاب ، ويقال : نَصْب بفتح فسكون { كأنّهم إلى نَصْب يوفضون } [ المعارج : 43 ] . وهو قد يطلق بما يرادف الصنم ، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة ، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة ، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد . والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة ، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب . وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها ، فقد روى أيمَّة أخبار العرب : أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة ، وهم ولد إسماعيل ، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبةُ حجر ، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة ، فنصبوا هذه الأنصاب ، وربما طافوا حولها ، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم . وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة .
وعن أبي رجاء العطاردي في « صحيح البخاري » : كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً ( أي في بلاد الرمل ) جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به .
فالنصب : حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل : مِثل حجر الغَبْغَبِ الذي كان حول العُزّى . وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه ، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة ، قال الأعشى ، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه :
وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه
وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة ، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ : { إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم } . وفي حديث فتح مكَّة : كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصباً ، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم . وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها ، تمييزاً بين ما ذُبِح تديّناً وبين ما ذبح للأكل ، فمن ذلك صخرة بيت المقدس ، قيل : إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح ، لأنَّها تسقط فيها الدماء ، والدمُ يسمّى رُوحاً . ومن ذلك فيما قيل : الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة . ومنها حجر المقام ، في قول بعضهم . فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ . وفي « البخاري » عن ابن عباس : النصُب : أنصاب يذبحون عليها . قلت : ولهذا قال الله تعالى : { وما ذبح على النصب } بحرف ( على ) ، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ ، وتذبح على الأنصاب ، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك .
ووجه عطف { وما ذُبح على النصب } على المحرّمات المذكورة هنا ، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام ، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام ، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام ، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام ، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة ، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم ، فقالوا : كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن ، وبخاصّة الصبيان ، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة : أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له : أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى ( صَنَممِ دوس ) . فقال : لا ، أنا ضامن ، فأسلمتْ ، ونحو ذلك ، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار ، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته .
ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله : { يأيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] الآيات .
{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } .
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات ، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله ، وهي المحرّم أكلها . فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام ، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة ، فتكون السين والتاء في { تستقسموا } مزيدتين كما هما في قولهم : استجاب واستراب . والمعنى : وأن تقسموا اللحم بالأزلام .
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله : هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ ؟ . وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي أيضاً ، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه ، فتكون إرادته إدماجاً وتكون السين والتاء للطلب ، أي طلب القِسم . وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه ، أي طلب معرفته . كان العرب ، كغيرهم من المعاصرين ، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة ، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاماً . والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له : قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه .
وكيفية استقسام الميسر : المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه ، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية في سورة البقرة ( 219 ) . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وما استقسمتم عليه بالأزلام ، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى { وأن تستقسموا بالأزلام } ، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما ، وذلك إدماج بديع .
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح : أحدها مكتوب عليه « أمرني ربّي » ، وربما كتبوا عليه « افْعَلْ » ويسمّونه الآمر . والآخرُ : مكتوب عليه « نَهاني ربّي » ، أو « لا تَفْعَلْ » ويسمّونه الناهي . والثالث : غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة . فإذا أراد أحدهم سَفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضارّاً ، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ ، فإذا خرج الذي عليه كتابة ، فعلوا ما رَسَم لهم ، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة . ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر ، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة ، صنم خَثْعَم ، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال :
لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لم تَنْهَ عن قَتْلِ العُداة زُورا
وقد ورد ، في حديث فتح مكة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال : " كذَبوا والله إنِ استقسمَ بها قطّ " وهم قد اختلقوا تلك الصورة ، أو توهّموها لذلك ، تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام ، وتضليلاً للناس الذين يجهلون . وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم ، ومن حكّامهم ، وكان مِنها عند ( هُبَل ) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئاً من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم ، كتبوا على أحدها العقل في الديَة ، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم ؛ وأزلام لإثبات النسب ، مكتوب على واحد « منكم » ، وعلى واحد « من غَيْركم » ، وفي آخر « مُلْصَق » . وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها . وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل ، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له : أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها . وكان الرجل قد يتّخذ أزلاماً لنفسه ، كما ورد في حديث الهجرة « أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره » .
والإشارة في قوله : { ذلكم فسق } راجعة إلى المصدر وهو { أن تستقسموا } . وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن .
والفسق : الخروج عن الدين ، وعن الخير ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } في سورة البقرة ( 26 ) .
وجعل الله الاستقسام فسقاً لأنّ منه ما هو مقامرة ، وفيه ما هو من شرائع الشرك ، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها ، إذ ليس الاستقسام سبباً عاديّاً مضبوطاً ، ولا سبباً شرعيّاً ، فتمحّض لأن يكون افتراء ، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفاً عن مراد الله بهم ، من الكذب على الله ، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسباباً عقليّة : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل ، أو من أدلّته ، كالتجربة ، وجعل أسباباً لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل : كجعل الزوال سبباً للصّلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان ، فمن أجل ذلك كان فسقاً ، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب .
وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب ، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة ، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم ، ومعنى عين أنها كثيرة المطر . وأمَّا أزلام الميسر ، فهي فسْق ، لأنَّها من أكل المال بالباطل .
{ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .
جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة ، وبين آية الرخصة الآتِيَة : وهي قوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها . ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله : { حرّمت عليكم الميتة } الآية .
والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أنّ الله لمّا حرّم أموراً كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهِلّ لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر : وهو ما أهلّ به لِغير الله ، وما ذُبح على النُصُب . والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء . وذُكّروا بالنعمة ، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين . وكان المشركون ، زماناً ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين ، ويرجعوا إلى الشرك ، كما قال المنافقون { لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا } [ المنافقون : 7 ] . فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنَّها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، والقرطبي عن الضحّاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها . وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ .
ف { اليوم } يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام ، وظهر فيه من قوّة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شؤونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعاً لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة : يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد « أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم » . وقال صفوان بن أمية أو أخوه ، يوم هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين : « ألا بطل السحر اليوم » .
وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير " أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم "
و { اليوم } يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، ويجوز أن يجعل ( اليومَ ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال ، الصادق بطائفة من الزمان ، رَسخ اليأس ، في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك ، فإنّ العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، ( والأمس ) على الماضي ، و ( الغَد ) على المستقبل . قال زهير :
وأعْلَمُ عِلم اليومِ والأمسِ قبلَه *** ولكِنَّنِي عن عِلمِ مَا في غد عَمِي
يريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وَبالغد ما يستقبل ، ومنه قول زياد الأعجم :
رأيتُك أمسِ خيرَ بني مَعَدّ *** وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِ
وأنت غَدا تزيد الخير خيراً *** كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمس
وفعل { يئس } يتعدّى ب ( مِن ) إلى الشيء الذي كان مرجوّاً من قبلُ ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول ( من ) التي هي لتعدية { يئس } على قوله { دينِكم } ، إنّما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه .
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : { فلا تَخشَوْهم } على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوّه . وفي الحديث : « ونُصِرْتُ بالرّعْب » . فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم ، فقال : { فلا تخشوهم واخشون } أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلاً من آثار انتصارات المسلمين ، يوماً فيوماً ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله : { اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم } ، وإنّ فريقاً لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئاً لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم ، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم .
وقد أفاد قوله : { فلا تخشوهم واخشون } مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طيّ إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ :
تَسيل على حدّ الظّبَاتِ نفوسنا *** ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيل
ونظيره قوله الآتي { فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون } [ المائدة : 44 ] .
{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } .
إن كانت آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } بنحو العامين ، كما قال الضحّاك ، كانت جملة مستقلّة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين ، اعتقاداً وتشريعاً ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معاً يومَ الحجّ الأكبر ، عام حجّة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين .
وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب ، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يوماً واحداً ، وكانت هذه الجملة تعداداً لمنّة أخرى ، وكان فصلُها عن التي قبلها جارياً على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ { اليوم } ليتعلّق بقوله { أكملت } ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله : { يَئِسَ } فلم يقل : وأكملت لكم دينكم .
والدّين : ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله : { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء } [ النحل : 89 ] وقوله : { لتبيّن للناس ما نزّل إليهم } [ النحل : 44 ] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة ، كافياً في هدي الأمّة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافياً في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه ، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ . وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصاً ، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة ، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة .
فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي : « القرآن ، مع اختصاره ، جامع ولا يكون جامعاً إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية ، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وأنت تعلم : أنّ الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن ، إنَّما بيّنتها السُنَّة ، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة ، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريّات ، والحاجيات ، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة : وهو السنّة ، والإجماع ، والقياس ، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال : « لَعَن الله الوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله » فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : « لعنتَ كذا وكذا » فذكرَتْه ، فقال عبد الله : « وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله » ، فقالت المرأة : « لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف ، فما وجدتُه » ، فقال : « لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه » : قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] » اهـ .
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة ، المتلقّين عنه ، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتاباً في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أنّ أحداً قصر نفسه على علم القرآن فوجد { أقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] و { آتوا حقّه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] و { كُتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] و { أتِمّوا الحجّ والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة ، وأيضاً ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] .
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدىء ضعيفاً ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر ، وهو في ذلك كلّه دين ، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة ، ومعظم أهل المدينة ، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ ، فأصبح مرهوباً بأسُه ، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام ، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تَبيَّن واضحاً يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية .
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأنّ الدين في كلّ يوم ، من وقت البعْثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً فيوماً ، فمن كان من المسلمين آخذاً بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة . وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يُروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض ، وقد كمل أيضاً سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكّنه من قلب بلاد العرب . فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .
ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن : لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنَّها آخر آية نزلت ، وسورة { إذا جاء نصر الله } [ النصر : 1 ] كذلك ، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نحواً من تسعين يوماً ، يوحى إليه . ومعنى ( اليوم ) في قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } نظير معناه في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } .
وقوله : وأتممت عليكم نعمتي } إتمام النعمة : هو خلوصها ممّا يخالطها : من الحرج ، والتعب . وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة { أكملت لكم دينكم } فيكون متعلَّقاً للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلاً يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم ، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفاً ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله : { أكملت لكم دينكم } إلاّ على تأويلات بعيدة .
وظاهر العطف يقتضي : أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين ، وهي نعمة النصر ، والأخوّة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عامّ على خاصّ . وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحداً ، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة ؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في « معاني القرآن » :
إلى الملك القرم وابنِ الهما *** م وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئاً لنفسه فيقول : رضيتُ بكذا ، وقد يرضى شيئاً لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدّى باللام : للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً " ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله : { لكم } وعُدّي { رَضيت } إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أنّ جملة { رضيت } معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام ديناً اليومَ . وإذ قد كان رضي الإسلام ديناً للمسلمين ثابتاً في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه ، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف ب { رضيت } ؛ فتأوّله صاحب « الكشاف » بأنّ المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله { اليوم } ، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به ديناً لهم يومئذٍ ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل ، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أنّ « رضيت » مجاز في معنى « أذنت » لعدم استقامة ذلك : لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله : { الإسلام } . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيراً في الدلالة على كون المخبِر عالماً به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .
وقد يدلّ قوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } على أنّ هذا الدين دين أبَدي : لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى .
{ فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه ، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب « الكشاف » ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضاً .
ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها : اتّصال الكلام الناشىء عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرّضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار ، أو في شدّة كَلَب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم .
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذناً بتوقّعٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف « من اضطرّ في مخمصة » عليه .
والأحسن عندي أن يكون موقع { فمن اضطرّ في مخمصة } متّصلاً بقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة ، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات : مرّة بوصفه في قوله { دينكم } ، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله : { نعمتي } ، ومرّة باسمه في قوله : { الإسلام } ؛ فقد تقرّر بينهم : أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله : { فمن اضطر } الخ ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرّع على قوله : { ورضيتُ لكم الإسلام ديناً } وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة .
والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ثم اضطرّه إلى عذاب النار } في سورة البقرة ( 126 ) .
والمخمصة : المجاعة ، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن ، لأنّ الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث تغدو خِماصاً فتروح بِطَاناً .
والتجانف : التمايل ، والجَنَف : الميل ، قال تعالى : { فمن خَاف من موص جَنَفَا } [ البقرة : 182 ] الآية . والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين . وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائماً بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 ] ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين .
ووقع قوله : « فإنّ الله غفور رحيم » مغنياً عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن . والتقديرُ : فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
حرّم الله عليكم أيها المؤمنون الميتة، والميتة: كلّ ما له نَفْس سائلة من دوابّ البرّ وطيره، مما أباح الله أكلها، وأهليها ووحشيّها، فارقتها روحها بغير تذكية. وقد قال بعضهم: الميتة: هو كلّ ما فارقته الحياة من دوابّ البرّ وطيره بغير تذكية مما أحلّ الله أكله. وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك في كتابنا: كتاب «لطيف القول في الأحكام». وأما الدم، فإن الدم المسفوح دون ما كان منه غير مسفوح، لأن الله جلّ ثناؤه قال:"قُلْ لا أجِدُ فيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ": فأما ما كان قد صار في معنى اللحم كالكبد والطّحال، وما كان في اللحم غير منسفح، فإن ذلك غير حرام، لإجماع الجميع على ذلك.
"ولَحْمُ الخِنْزِيرِ": وحرّم عليكم لحم الخنزير، أهليه وبرّيه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص، وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره، حرام جميعه لم يخصص منه شيء.
"ومَا أهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ": وما ذكر عليه غير اسم الله، وأصله من استهلال الصبيّ، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه، ومنه إهلال المحرم بالحجّ إذا لَبّى به.
وإنما عنى بقوله: "وَما أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ": وما ذُبح للآلهة وللأوثان يسمّى عليه غير اسم الله.
"وَالمُنْخَنِقَةُ": اختلفت أهل التأويل في صفة الانخناق الذي عَنَى الله جلّ ثناؤه بقوله "وَالمُنْخَنِقَةُ"؛
فقال بعضهم: عن السديّ: "وَالمُنْخَنِقَةُ "قال: التي تُدخِل رأسَها بين شعبتين من شجرة، فتختنق فتموت.
عن الضحاك، في المنخنقة، قال: التي تختنق فتموت.
عن قتادة في قوله: "وَالمُنْخَنِقَةُ" التي تموت في خِنَاقها.
وقال آخرون: هي التي تُوْثَق فيقتلها بالخناق وثاقها.
وقال آخرون: بل هي البهيمة من النّعمَ، كان المشركون يخنقونها حتى تموت، فحرّم الله أكلها.
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: هي التي تختنق، إما في وِثاقها، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره، لأن المنخنقة: هي الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيا بذلك أنها مفعول بها لقيل: والمخنوقة، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا.
"وَالمَوْقُوذَةُ": والميتة وقيذا، يقال منه: وَقَذَه يَقِذُهِ وَقْذا: إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك...عن ابن عباس: وَالمَوْقُوذَةُ قال: الموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يقذها فتموت.
"والمُتَرَدّيَةُ": وحرّمت عليكم الميتة تردّيا من جبل، أو في بئر، أو غير ذلك. وتردّيها: رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سفله.
"وَالنّطِيحَةُ": الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية، فحرم الله جلّ ثناؤه ذلك على المؤمنين إن لم يدركوا ذكاته قبل موته. وأصل النطيحة: المنطوحة، صرفت من مفعولة إلى فعيلة.
"وَما أكَلَ السّبُعُ": وحرّم عليكم ما أكل السبع غير المعلّم من الصوائد... عن ابن عباس: وَما أكَلَ السّبُعُ يقول: ما أخذ السبع.
عن قتادة: وَما أكَلَ السّبُعُ قال: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي.
"إلاّ ما ذَكّيْتُمْ": إلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورا.
ثم اختلفت أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله: إلاّ ما ذَكّيْتُمْ؛ فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه، من قوله وَما أُهِلّ لغَيْرِ اللّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ والمُتَرَدّيَةُ والنّطِيحَةُ وَما أكَلَ السّبُعُ. عن ابن عباس: إلاّ ما ذَكّيْتُمْ يقول: ما أدركت ذكاته من هذا كله، يتحرّك له ذنب أو تطرف له عين، فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال.
وقال آخرون: هو استثناء من التحريم، وليس باستثناء من المحرّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ لأن الميتة لا ذكاة لها ولا للخنزير. قالوا: وإنما معنى الآية: حرّمت عليكم الميتة والدم، وسائر ما سمينا مع ذلك، إلا ما ذكيّتم مما أحله الله لكم بالتذكية، فإنه لكم حلال... وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله: إلاّ ما ذَكّيْتُمْ استثناء منقطعا، فيكون تأويل الآية: حرّمت عليكم الميتة والدم، وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكّيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال.
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الأوّل، وهو أن قوله: "إلاّ ما ذكيّتم" استثناء من قوله: "وَما أهِلّ لغيرِ الله بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ وَالمُترَدّيَةُ والنّطِيحَةُ وَما أكَلَ السّبُعُ" لأن كلّ ذلك مستحقّ الصفة التي هو بها قبل حال موته، فيقال: لما قرّب المشركون لآلهتهم فسموه لهم: هو ما أهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ بمعنى: سمى قربانا لغير الله. وكذلك المنخنقة: إذا انخنقت، وإن لم تمت فهي منخنقة، وكذلك سائر ما حرّمه الله جلّ وعزّ بعد قوله: "وَما أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ" إلا بالتذكية فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته، فحرّمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفا. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وحرّم عليكم ما أهل لغير الله به، والمنخنقة، وكذا وكذا وكذا، إلا ما ذكيّتم من ذلك... وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فكلّ ما أدركت ذكاته من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده، فحلال أكله إذا كان مما أحله الله لعباده.
فإن قال لنا قائل: فإذ كان ذلك معناه عندك، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله: "وما أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ وَالمُرَدّيَةُ" وسائر ما عدّد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ؟ وقد علمت أن قوله: حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ شامل كل ميتة كان موته حتف أنفه، من علة به من غير جناية أحد عليه، أو كان موته من ضرب ضارب إياه، أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس سبع؟ وهلاّ كان قوله إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك من أنه معني بالتحريم في كلّ ذلك الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق، أو فَرَسه السبع، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ مغنيا من تكرير ما كرّر بقوله وَما أهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وسائر ما ذكر مع ذلك وتعداده ما عدد؟ وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف، وقد تقدم بقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ أن الذين خوطبوا بهذه الآية لا يعدّون الميتة من الحيوان، إلا ما مات من علة عارضة به، غير الانخناق والتردّي والانتطاح، وفرس السبع، علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به... عن السديّ في قوله: "وَالمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدْيَةُ والنّطِيحَةُ وَما أكَلَ السّبُعُ إلاّ ما ذكّيْتُمُ" يقول: هذا حرام، لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه ولا يَعُدّونه ميتا، إنما يعدّون الميت الذي يموت من الوجع، فحرّمه الله عليهم، إلا ما ذكروا اسم الله عليه وأدركوا ذكاته وفيه الروح.
"وَمَا ذُبِحَ على النّصُبِ": وحرّم عليكم أيضا الذي ذبح على النصب. والنّصُب: الأوثان من الحجارة، كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها، وليست بأصنام... قال ابن جريج: النّصُب: ليست بأصنام، الصنم يصوّر ويُنقس، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجرا، منهم من يقول: ثلاثمائة منها لخزاعة. فكانوا إذا ذبحوا، نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، وشرّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحقّ أن نعظمه، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك، فأنزل الله: "لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤها". عن مجاهد: "وَما ذُبِحَ على النّصُبِ" قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدّلونها إن شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها.
"وأنْ تَسْتَقْسمُوا بالأزْلام": وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوًا أو نحو ذلك، أجال القِداح، وهي الأزلام، وكانت قداحا مكتوبا على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، فإن خرج القِدح الذي هو مكتوب عليه: أمرني ربي، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك، وإن خرج الذي عليه مكتوب: نهاني ربي، كفّ عن المضيّ لذلك وأمسك، فقيل: وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزلامِ لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يقسمن لهم. وأما الأزلام، فإن واحدها زَلم، ويقال زُلَم، وهي القِداح التي وصفنا أمرها.
عن ابن إسحاق، قال: كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يُهدى للكعبة، وكانت عند هُبَل سبعة أقداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه «العقل» إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة؛ فإن خرج العقل فعل من خرج حَمْلُه، وقدح فيه: «نَعَم» للأمر إذا أرادوا يُضرب به، فإن خرج قِدح «نَعَم» عملوا به وقدح فيه "لا"، فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه: «منكم». وقدح فيه: «مُلْصق». وقدح فيه: «من غيركم». وقدح فيه: المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القِدْح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يجتبوا غلاما، أو أن ينكحوا مَنْكحا، أو أن يدفنوا ميتا، و يشكوا في نسب واحد منهم، ذهبوا به إلى هُبَل، وبمائة درهم وبجُزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان ابن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحقّ فيه ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن (خرج عليه «منكم» كان وسيطا، وإن) خرج عليه: «من غيركم»، كان حليفا، وإن خرج: «مُلْصَق»، كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حِلف وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به «نعم» عملوا به وإن خرج: «لا»، أخرّوه عامَهم ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القِداح.
"ذَلِكُمْ ": هذه الأمور التي ذكرها، وذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرّم أكله والاستقسام بالأزلام، "فِسْقٌ": خروج عن أمر الله وطاعته إلى ما نهى عنه وزجر وإلى معصيته. "اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ": الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود أيها المؤمنون من دينكم، يقول: من دينِكم أن تتركوه، فترتدّوا عنه راجعين إلى الشرك... فإن قال قائل: وأيّ يوم هذا اليوم الذي أخبر الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين؟ قيل: ذُكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام. قال مجاهد: "اليَوْمَ يَئسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ اليوم أكملت لكم دينكم" هذا حين فعلت.
وقال آخرون: ذلك يوم عرفة في يوم جمعة لما نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم ير إلا موحّدا ولم ير مشركا حمد الله، فنزل عليه جبريل عليه السلام: "اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ" أن يعودوا كما كانوا.
"فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ": فلا تخشوا أيها المؤمنون هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم فيقهروكم ويردّوكم عن دينكم، "واخْشَوْنِ": ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري واجرأتم على معصيتي وتعديتم حدودي أن أحلّ بكم عقابي وأنزل بكم عذابي.
"اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: يعني جلّ ثناؤه بقوله: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ": اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون؛ فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرمي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. وقالوا: لم ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة. عن ابن عباس، قوله: اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وهو الإسلام، قال: أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله عزّ ذكره فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخَطُه أبدا.
عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: لمّا نزلت: اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وذلك يوم الحجّ الأكبر، بكى عمر، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيكَ»؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمَل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال: «صَدَقْتَ».
وقال آخرون: معنى ذلك: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ": حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجكم مشرك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم، بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم، لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا؟ فرُوي عن ابن عباس والسديّ ما ذكرنا عنهما قبل. ورُوِي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ في الكَلالَةِ...". ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ..." آخرها نزولاً، وكان ذلك من الأحكام والفرائض، كان معلوما أن معنى قوله: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" على خلاف الوجه الذي تأوّله مَن تأوّله، أعني: كمال العبادات والأحكام والفرائض.
فإن قال قائل: فما جعل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال: لم ينزل؟ قيل لأن الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال: نزل، وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا.
"وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي": وأتممت نعمتي أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوّي وعدوّكم من المشركين، ونفيي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم، وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك.
عن ابن عباس، قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة، فنفى المشركين عن البيت، وحجّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكأنّ ذلك من تمام النعمة: وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.
عن الشعبيّ، قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم منار الجاهلية، واضمحلّ الشرك، ولم يحُجّ معهم في ذلك العام مشرك.
"وَرَضيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينا": ورضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه "دِينا": طاعة منكم لي.
فإن قال قائل: أَوَ ما كان الله راضيا الإسلام لعباده، إلا يوم أنزل هذه الآية؟ قيل: لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جلّ ثناؤه لم يزل يصرّف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجاته ومراتبه درجة بعد درجة ومرتبة بعد مرتبة وحالاً بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية: "وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا" بالصفة التي هو بها اليوم، والحال التي أنتم عليها اليوم منه دِينا فالزموه ولا تفارقوه... حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين نزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت؛ أنزلت يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، قال سفيان: وأشكّ، كان يوم الجمعة أم لا:"اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نَعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا"...
قرأ ابن عباس: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا أيّ يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة...
قال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية، أعني قوله: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" يوم الاثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة.
وقال آخرون: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع... وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها.
وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه اليوم الذي أعلمه: أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم...
وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القول الذي رُوي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده ووَهْي أسانيد غيره.
"فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ": فمن أصابه ضرّ في مخمصة، يعني في مجاعة، من خَمَصِ البَطْنِ، وهو اضطماره، وأظنه هو في هذا الموضع معنيّ به اضطماره من الجوع وشدة السغب...
"غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ": فَمَنه اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ إلى أكل ما حرمت عليه منكم أيها المؤمنون من الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرّمت عليه بهذه الآية. "غيرَ متَجانِفٍ لإِثْمٍ": لا متجانفا لإثم... وأما المتجانف للإثم، فإنه المتمايل له، المنحرف إليه، وهو في هذا الموضع مراد به المتعَمّد له القاصد إليه، من جَنَف القوم عليّ إذا مالوا، وكلّ أعوج فهو أّجنف عند العرب، وقد بينا معنى الجنف بشواهده في قوله: "فَمَنْ خافَ منْ مُوصٍ جَنَفا" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرّم الله أكله على المؤمنين بهذه الآية للإثم في حال أكله، فهو تعمّده الأكل لغير دفع الضرورة النازلة به، ولكن لمعصية الله وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.
عن السديّ: "غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ": غير متعرّض لإثم: أي يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله.
"فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": وفي هذا الكلام متروك اكتفي بدلالة ما ذكر عليه منه، وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطرّ في مخمصة إلى ما حرّمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ فأكله، فإن الله غَفُور رَحِيمٌ، فترك ذكر: «فأكله». وذكر: «له»، لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.
"فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": فإن الله لمن أكل ما حرّمت عليه بهذه الآية أكله في مخمصة، غير متجانف لإثم، "غفور رحيم": يستر له عن أكله ما أكل من ذلك بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه، وعن عقوبته عليه "رَحِيمٌ": وهو به رفيق، من رحمته ورفقه به، أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه، من كَلَب الجوع وضُرّ الحاجة العارضة ببدنه.
فإن قال قائل: وما الأكل الذي وعد الله المضطرّ إلى الميتة وسائر المحرّمات معها بهذه الآية غفرانَه إذا أكل منها؟ قيل: ما:
حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسديّ، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأسديّ، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي، قال: قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: «إذا لَمْ تَصْطَبِحُوا، أوْ تَغْتَبِقُوا، أوْ تَحْتَفِئُوا بَقْلاً، فَشأنْكُمْ بِها».
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، عن الخصيب بن زيد التميم، قال: حدثنا الحسن: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إلى متى يحلّ لي الحرام؟ قال: فقال: «إلى أنْ يُرْوَى أهْلُكَ مِنَ اللّبَنِ، أوْ تَجِيءَ مِيرَتُهُمْ»...
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة بن الزبير، عمن حدثه: أن رجلاً من الأعراب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحلّ له، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يَحِلّ لَكَ الطّيّباتُ، وَيحْرُمُ عَلَيْكَ الخَبائِثُ، إلاّ أنْ تَفْتَقِرَ إلى طَعامٍ لَكَ فَتأكُلَ مِنْهُ حتى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ»، فقال الرجل: وما فقري الذي يُحِلّ لِي، وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كُنْتَ تَرْجو نِتاجا فَتَبَلّغَ بلُحُوم ماشِيَتِكَ إلى نِتاجِكَ، أوْ كُنْتَ تَرْجُو غِنًى تَطْلُبُهُ فَتَبَلّغ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا، فأطْعِمْ أهْلَكَ مَا بَدَا لَكَ حتى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ» فقال الأَعرابيّ: ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أرْوَيْتَ أهْلَكَ غَبُوقا مِنَ اللّيْلِ فاجْتَنِبْ ما حَرّمَ اللّهُ عَلَيْكَ مِنْ طَعامِ مالِكَ، فإنّه ميْسُورٌ كُلّهُ، لَيْسَ فِيهِ حَرامٌ».
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
الذكاة في اللغة: الشق. والتذكية قسمان: قسم في مقدور عليه متمكن منه، وقسم في غير مقدور عليه أو غير متمكن منه، وهذا معلوم بالمشاهدة. فتذكية المقدور عليه المتمكن منه ينقسم قسمين لا ثالث لهما: إما شق في الحلق وقطع يكون الموت في أثره، وإما نحر في الصدر يكون الموت في أثره، وسواء في ذلك كله ما قدر عليه من الصيد الشارد أو من غير الصيد، وهذا حكم ورد به النص بقول الله تعالى: {إلا ما ذكيتم}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام}: وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي بالقداح. كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، وبعضها غفل؛ فإن خرج الآمر مضى لطيته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أجالها عوداً. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل: هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة. {ذلكم فِسْقٌ} الإشارة إلى الاستقسام: أو إلى تناول ما حرّم عليهم؛ لأنّ المعنى حرّم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا.
فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام لتعرف الحال فسقاً؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب وقال: {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] واعتقاد أنّ إليه طريقاً وإلى استنباطه، وقوله: أمرني ربي، ونهاني ربي: افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم -فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر.
{اليوم} لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شاباً، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك.
وقيل: أريد يوم نزولها، وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع.
{يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}: يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرّمت عليكم.
وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه؛ لأن الله عزّ وجلّ وفّى بوعده من إظهاره على الدين كله. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين مقهورين بعدما كانوا غالبين {واخشون}: وأخلصوا لي الخشية. {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: كفيتكم أمر عدوِّكم، وجعلت اليد العليا لكم، أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأنَّ لم يحجّ معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام،
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده.
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92].
فإن قلت: بم اتصل قوله: {فَمَنِ اضطر}؟ قلت: بذكر المحرّمات. وقوله: {ذلكم فِسْقٌ} اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذلك ما بعده؛ لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ما ذبح على النصب}: جزء مما أهل به لغير الله، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}: تَطْلُبُوا مَا قُسِمَ لَكُمْ، وَجَعْلُهُ من حُظُوظِكُمْ وَآمَالِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِسْقٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ فَإِنَّهُ تَعَرُّضٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ من خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْغَيْبِ وَلَا يَطْلُبُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ رَفَعَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِ إلَّا فِي الرُّؤْيَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُصْحَفُ لِيُعْلَمَ بِهِ الْغَيْبُ؛ إنَّمَا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ، وَرُسِمَتْ كَلِمَاتُهُ لِيُمْنَعَ عَنْ الْغَيْبِ؛ فَلَا تَشْتَغِلُوا بِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضْ أَحَدُكُمْ لَهُ...
فِي مَعْنَى كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ:
وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ فِي سَبْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أَرَادَ: (الْيَوْمَ عَرَّفْتُكُمْ بِنَفْسِي بِأَسْمَائِي وَصِفَاتِي وَأَفْعَالِي فَاعْرِفُونِي).
الثَّانِي: الْيَوْمَ قَبِلْتُكُمْ وَكَتَبْت رِضَائِي عَنْكُمْ لِرِضَائِي لِدِينِكُمْ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الدِّينِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ.
الثَّالِثُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ؛ أَيْ اسْتَجَبْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ، وَدُعَاءَ نَبِيِّكُمْ لَكُمْ. ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ).
الرَّابِعُ: الْيَوْمَ أَظْهَرْتُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَمْعِ الْحَرَمَيْنِ لَهُ أَوْ بِتَعْرِيفِ ذَلِكَ فِيهِ.
الْخَامِسُ: الْيَوْمَ طَهَّرْت لَكُمْ الْحَرَمَ عَنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ مَعَكُمْ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَلَا كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ فِي مَوْقِفِهِمْ؛ بَلْ وَقَفُوا كُلُّهُمْ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ.
السَّادِسُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ الْفَرَائِضَ وَانْقَطَعَ النَّسْخُ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ بِكَمَالِ الدِّينِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ يُصَرِّفُ نَبِيَّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَرَجَاتِ الْإِسْلَامِ وَمَرَاتِبِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً حَتَّى أَكْمَلَ شَرَائِعَهُ وَمَعَالِمَهُ وَبَلَغَ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ تَمَّتْ بِهِ النِّعْمَةُ وَرَضِيَهُ دِينًا، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ؛ يُرِيدُ: فَالْزَمُوهُ وَلَا تُفَارِقُوهُ وَلَا تُغَيِّرُوهُ، كَمَا فَعَلَ سِوَاكُمْ بِدِينِهِ.
.. فِي الْمُخْتَارِ من هَذِهِ الْأَقْوَالِ: كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَقَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّ جَمِيعَهَا مُرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ آيَةٌ وَلَا ذُكِرَ بَعْدَهُ حُكْمٌ لَا يَصِحُّ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ قَالَ: (آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَك} وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ "بَرَاءَةٌ".
وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا). وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَسِيرٍ.
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي تَارِيخِهِ حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ} أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَهَذَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
اعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}:
- مقتضى اللغة أن يكون المحرم هذه الأعيان. (العقد المنظوم: 1/400)
- المدلول مطابقة في هذه الآية غير مراد، فإن الأعيان لا تحرم، بل الأفعال المتعلقة بها وهي والأكل والتناول فقد قصدت بالتحريم من غير لفظ، يدل على ذلك مقارن، بل الأدلة الخارجة أفادتنا ذلك. وهذه الأفعال إن كانت لازمة حصل المقصود لوجود تصرف النية فيها بإضافة التحريم إليها دون غيرها، ولا سيما أن النية تعين في كل عين الفعل المناسب لها، فتعين في الخمر الشرب، وفي الميتة الأكل، وكذلك جميع الأعيان الواردة في النصوص. (الفروق: 3/68)
- الجميع محتاج إلى تقدير مضاف، تقديره:"أكل الميتة وشرب الدم وأكل لحم الخنزير" وإن أردت أن تقدر مضافا واحدا يشمل الجميع قلت: "تناول الميتة والدم ولحم الخنزير". فالتناول يشمل الجميع، وحينئذ يصح إسناد التحريم لهذا المضاف، وإلا فالميتة ليست حراما إجماعا، والدم والخنزير ليسا بحرامين إجماعا، وإنما الحرام تناولهما. وكذلك الخمر لا يحرم (تناولها) إجماعا بل شربها، وهو فعل يتعلق بالمكلف غير عين الخمر وعين الميتة وما ذكر معهما. (العقد المنظوم: 1/401)
- هذه الأشياء لا تحرم، لما تقدم من تقرير أن الذوات لا تحرم، فيقدر في كلامه ما يليق به من الحد، كما ينتظم التكليف كما تقدم ذلك مقتضى الوضع، لكن صار هذا اللفظ المركب منقولا لتحريم أكل هذه الحقائق وتناولها ولا يحتاج مع هذا النقل إلى مضاف مقدر البتة لأن الوضع الثاني صار يفيده. (الذخيرة: 4/126)
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
تأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل، ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه، بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها، وأنه لا يسلبهم إياها، بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار. وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم إذ هم القائمون به المقيمون له، وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم، فهي نعمته حقا، وهم قابلوها. وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خصوا به دون الأمم وفي إتمام النعمة ب «على» المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء ب {أتممت} في مقابلة {أكملت} و {عليكم} في مقابلة {لكم} و {نعمتي} في مقابلة {دينكم} وأكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله: {ورضيت لكم الإسلام دينا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقال: {حرمت} بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله، وإشعارا بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها {عليكم الميتة} وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر، والدين بما يعلمه أهل البصائر {والدم} أي المسفوح، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق {ولحم الخنزير} خصه بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارى أكله كالدين {وما أهل} ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر، قدم المفعول له فقال: {لغير الله} أي الملك الأعلى {به} أي ذبح على اسم غيره من صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء، والإهلال: رفع الصوت.
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه فقال: {والمنخنقة} أي بحبل ونحوه، سواء خنقها أو لا {والموقوذة} أي المضروبة بمثقل، من: وقذه -إذا ضربه {والمتردية} أي الساقطة من عال، المضطربة غالباً في سقوطها {والنطيحة} أي التي نطحها شيء فماتت {وما أكل السبع} أي كالذئب والنسر ونحوهما.
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال: {إلا ما ذكيتم} أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال: {ما ذبح على النصب} وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها {وأن تستقسموا} أي تطلبوا على ما قسم لكم {بالأزلام} أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد: أمرني ربي، وعلى آخر: نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح، وقال صاحب كتاب الزينة: يقال: إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط، وكانت بيد السادن، مكتوب عليها "نعم ""لا ""منكم" "من غيركم" "ملصق" "العقل" "فضل العقل" فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم، ثم قالوا للصنم: يا إلهنا! قد تمارينا في نسب فلان، فأخرج علينا الحق فيه، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه "منكم" كان أوسطهم نسباً، وإن خرج الذي عليه "من غيركم" كان حليفاً وإن خرج "ملصق" كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! أردنا كذا، فإن خرج "نعم" فعلوا، وإن خرج "لا" لم يفعلوا، وإن جنى أحدهم جناية، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! فلان جنى عليه، أخرج الحق، فإن خرج القدح الذي عليه "العقل" لزم من ضرب عليه وبرئ الآخرون، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله، فضربوا عليه؛ فإن خرج القدح الذي عليه "فضل العقل" للذي ضرب عليه لزمه، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون ذلك منها، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة: واحد الأزلام زلم- بفتح الزاي، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم -والله أعلم؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر- على ما مضى في البقرة، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة، فتكون على شعبة جاهلية، ثم إياك!.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال: {ذلكم} أي الذي ذكرت لكم تحريمه {فسق} أي فعله خروج من الدين.
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله
" وأخرجوهم من حيث أخرجوكم -ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة: 191] "الشهر الحرام بالشهر الحرام} [البقرة: 194]
{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة: 191] علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين- كما حصل به الوعد الصادق، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه، وتمكنت فيه عزائمه وهممه، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه، ولا مطمع لمخالفه فيه، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل: {اليوم} أي وقت نزول هذه الآية {يئس الذين كفروا} أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فيه أو لا {من دينكم} أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو التستر من أحد منهم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة، وأعزكم بعد الذلة، وأحيى بكم منار الشرع، وطمس معالم شرع الجهل، وهدّ منار الضلال، فأنا أخبركم -وأنتم عالمون بسعة علمي- أن الكفار قد اضمحلت قواهم، وماتت هممهم، وذلت نخوتهم، وضعفت عزائمهم، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره، وعلت في المجامع منابره، وضرب محرابه، وبرّك بقواعده وأركانه، ولهذا سبب عما مضى قوله: {فلا تخشوهم} أي أصلاً {واخشون} أي وامحضوا الخشية لي وحدي، فإن دينكم قد أكمل بدره، وجل عن المحاق محله وقدره، ورضي به الآمر، ومكنه على رغم أنف الأعداء.
وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصاً على البعض، وبياناً لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله: {وأتممت عليكم نعمتي} أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود {ورضيت لكم الإسلام} أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة {ديناً} تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛ روى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة" وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب "قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت" وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، قلت: ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: "لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال: صدقت! "فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو -الآية، وكأن ذلك كان جواباً منه صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، لفهمه صلى الله عليه وسلم أن إنزال آية عمران سر الإسلام وأعظمه وأكمله، وهذه الآية من المعجزات، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع.
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها و ما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين: {فمن اضطر} أي ألجئ إلجاء عظيماً- من أي شيء كان -إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه {في مخمصة} أي مجاعة عظيمة {غير متجانف} أي متعمد ميلاً {لإثم} أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه بضرب قهر، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله: {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {غفور رحيم} أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه، بأن يوسع عليه من فضله، ولا يضطره مرة أخرى- إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الميتة والدم ولحم الخنزير، سبق بيان حكمها، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات [ص 156 -ص157 من الجزء الثاني من الظلال] وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة؛ وهذا وحده يكفي. فالله لا يحرم إلا الخبائث. وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها. سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه.. وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد؟! وأما ما أهل لغير الله به، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان. فالإيمان يوحد الله، ويفرده- سبحانه -بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته. وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل؛ وأن يهل باسمه- وحده -في كل عمل وكل حركة؛ وأن تصدر باسمه- وحده -كل حركة وكل عمل. فما يهل لغير الله به؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله [وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد] حرام؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان.. فهو خبيث من هذه الناحية؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير...
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم).. يئسوا أن يبطلوه، أو ينقصوه، أو يحرفوه. وقد كتب الله له الكمال؛ وسجل له البقاء.. ولقد يغلبون على المسلمين في موقعة، أو في فترة، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين. فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور، ولا يناله التحريف أيضا، على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه؛ وعلى شدة ما كادوا له، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور.. غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة؛ تعرف هذا الدين؛ وتناضل عنه، ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا؛ حتى تسلمه الى من يليها. وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين! (فلا تخشوهم واخشون)... فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا. وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه.. وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة، لا يقتصر على ذلك الجيل؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان.. نقول: للذين آمنوا.. الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين، بمعناه الكامل الشامل؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها.. وهؤلاء- وحدهم -هم المؤمنون.. (اليوم أكملت لكم دينكم. وأتممت عليكم نعمتي. ورضيت لكم الإسلام دينًا).. اليوم.. الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع.. أكمل الله هذا الدين. فما عادت فيه زيادة لمستزيد. وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل. ورضي لهم "الإسلام "دينا؛ فمن لا يرتضيه منهجا لحياته- إذن -فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين. ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف...
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين، ولا يقدرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها- والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله -فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة.. هو الذي يحس ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين.. الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان.. هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان؛ ... (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينًا..) ويقف المؤمن ثالثا: أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا.. يقف أمام رعاية الله- سبحانه -وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه.. وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها. وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا، يكافئ هذه الرعاية الجليلة.. أستغفر الله.. فما يكافئ هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه.. وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم.. وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه. إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار. ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار.. وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل- بله أن يرفض -ما رضيه الله له، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله!.. وإنها- إذن -لجريمة نكدة؛ لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله.. ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين.. فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه.. واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله.. فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وإنَّما قال: {ولحمَ الخنزير} ولم يقل والخنزير كما قال: {وما أهلّ لغير الله به} إلى آخر المعطوفات. ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير. ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر. وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة (173). ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله. وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة. وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم « أيما إهاب دبغ فقد طهر» رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس. وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة، منها مرض الديدان التي في المعدة...
الآية تبدأ بقوله: "حرمت عليكم الميتة "ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله، ولم يقتحم سبحانه على أحد، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربه فألزمه سبحانه والعبد من جانبه التزم، لذلك يقول الحق: "حرمت"، حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها...
والمحرمات من بعد ذلك "وما أهل لغير الله به "أي رفع الصوت به لغير الله كقولهم" باسم اللات والعزى عند ذبحه، ولا يقال عند ذبحه "الله أكبر بسم الله"، لأن الإنسان منتفع في الكون الذي يعيش فيه بالأجناس التي طرأ عليها، لقد وجد الإنسان هذه الأجناس في انتظاره لتخدمه لأنه خليفة الله في الأرض، والحيوان له روح ولكنه يقل عن الإنسان بالتفكير، والنبات تحت الحيوان والجماد أقل من النبات، وساعة يأخذ الإنسان خدمة المسخرات فعليه أن يذكر الخالق المنعم، وعندما يذبح الإنسان حيوانا فهو يذبحه بإذن الأكبر من الإنسان والحيوان والكون كله، يذبحه باسم الخالق...
وأصل الفسق هو خروج الرطبة عن قشرتها فالبلحة عندما تترطب تنكمش الثمرة داخل القشرة وتخرج منها عندئذ يقال:"فسقت الرطبة "أي خرجت من قشرتها، وكذلك من يخرج عن منهج الله يسمونه فاسقا تماما مثل الرطبة، وفي هذا رمزية يدل على أن شرع الله سياج يحيط بالإنسان، فالذي يخرج عن منهج الله يكون فاسقا، وإياك أيها المسلم أن تخرج عن شرع الله، لأن الرطبة عندما تخرج عن القشرة فالذباب يحوم حولها ويصيبها التراب وتعافها النفس، فكان دين الله كإطار يحمي الإنسان بالإيمان. وهذه الأحكام كلها تبني قضية الدين، قضية عقدية في الألوهية قضية البلاغ عن الألوهية بواسطة الرسالة وأحكام تنظم حركة المجتمع بالعقود والأمانات والأنكحة وغيرها، كل هذه الأحكام تصنع هيكل الدين العام وقد مر هيكل الدين العام بمرحلتين: المرحلة المكية وكان كل هدفها التركيز على العقيدة والإيمان بوحدانية الله والنبوات والبلاغ عن الله، وبعد ذلك في المرحلة المدنية جاءت سورة النساء وسورة المائدة لتتكلما عن الأحكام. وبالعقيدة والبلاغ عن الله بالأحكام يكتمل الدين، لذلك يقول الحق:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم "كأن الكافرين كان لهم أمل في أن يحبطوا هذا الدين وأن يبطلوه وأن ينقضوه، وكذلك المؤمنون بأديان سابقة أو بكتب سابقة كانوا يحبون أن يطرأ على القرآن الأفعال التي مارسوها مع كتابهم من النسيان والترك والتحريف، وسبحانه هو القائل عن أصحاب الكتب السابقة: {ونسوا حظا مما ذكروا به} (من الآية13سورة المائدة)...
" اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم" وقد حكم سبحانه ألا يأتي أمر يحقق لأعداء الإسلام الشماتة به، أو أن تتحقق لهم الفرصة في انكسار الإسلام، فلا تخشوهم أيها المسلمون لأنكم منصورون عليهم، ولن تدخلوا في أسباب الخيبة التي دخلوا فيها، وعليكم أيها المؤمنون بخشية الله...
" فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم "ومادام سبحانه قد رخص لنا ذلك فما الداعي أن يذيل الآية بمغفرته ورحمته؟ ولنفهم أن الإنسان يأخذ الغفر مرة على أنه ستر العقاب عنه، وقد يكون الغفور ستر الذنب عن العبد لأن الله رحيم، وهذا ما يشرح لنا ما قاله الحق لرسوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} (من الآية2سورة الفتح).