في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

ورزقا من حيث لا يقدر ولا ينتظر . وهو تقرير عام ، وحقيقة دائمة . ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عندما يتقي المتقون الله في هذا الشأن بصفة خاصة . وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير ، فالتلاعب فيه مجاله واسع ، لا يقف دونه إلا تقوى الله وحساسية الضمير .

( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ) . .

فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع ، ومسالكه كثيرة ، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد ! فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة ، والتوكل على الله ، وهو كاف لمن يتوكل عليه . فالله بالغ أمره . فما قدر وقع ، وما شاء كان ؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر ، وقوة القاهر . الفعال لما يريد . البالغ ما يشاء .

والنص عام . والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب ، بالنسبة لإرادة الله وقدره . . ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره .

( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .

فكل شيء مقدر بمقداره ، وبزمانه ، وبمكانه ، وبملابساته ، وبنتائجه وأسبابه . وليس شيء مصادفة ، وليس شيء جزافا . في هذا الكون كله ، وفي نفس الإنسان وحياته . . وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب

كبير من التصور الإيماني . [ وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )في سورة الفرقان . وعند قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . . في سورة القمر ] . ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته ، والعدة ووقتها ، والشهادة وإقامتها . ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة ، والناموس الكلي العام . ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على الاتقاء عما نهى عنه صريحا أو ضمنا من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكين وتعدي حدود الله وكتمان الشهادة وتوقع جعل على إقامتها بأن يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من المضايق والغموم ويرزقه فرجا وخلفا من وجه لم يخطر بباله أو بالوعد لعامة المتقين بالخلاص عن مضار الدارين والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون أو كلام جيء به للاستطراد عند ذكر المؤمنين وعنه صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله فما زال يقرؤها ويعيدها وروي أن سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدو أسره العدو فشكا أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها وفي رواية رجع ومعه غنيمات ومتاع ومن يتوكل على الله فهو حسبه كافية إن الله بالغ أمره يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد وقرأ حفص بالإضافة وقرىء بالغ أمره أي نافذ وبالغا على أنه حال والخبر قد جعل الله لكل شيء قدرا تقديرا أو مقدرا أو أجلا لا يتأتى تغييره وهو بيان لوجوب التوكل وتقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق بزمان العدة والأمر بإحصائها وتمهيد لما سيأتي من مقاديرها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

وقوله : { من حيث لا يحتسب } احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه ، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيىء له أسباباً غير مرتقبة .

فمعنى { من حيث لا يحتسب } : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه .

و { حيثُ } مستعملة مجازاً في الأحوال والوجوه تشبيهاً للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يَرِد منه الوارد ولذلك كانت { مِن } هنا للابتداء المجازي تبعاً لاستعارة { حيث } . ففي حرف { مِن } استعارة تبعية . وذكر الواحدي في « أسباب النزول » أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذْ أسَرَ المشركون ابنه سالماً فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتق الله واصبر » وأمره وزوجَه أن يكثرا قولاً : لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فَسَاقَ عنزاً كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية ، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن .

{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره } .

تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق ، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب .

وَحَسْب : وصف بمعنى كاففٍ . وأصله اسم مصدر أو مصدر .

وجملة { إن الله بالغ أمره } في موضع العلة لجملة { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه .

ولعل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشُكّوا في إنجاز وَعده فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة .

ومعنى { بالغ أمره } : واصلٌ إلى مراده . والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد . والأمر هنا بمعنى الشأن .

وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( أي بعضهم ) : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت { إن الله بالغ أمره } ، أي فيكم وعليكم اه .

وقرأ الجمهور { بالغٌ } بالتنوين و { أمرَه } بالنصب . وقرأه حفص عن عاصم { بالغُ أمرهِ } بإضافة { بالغ } إلى { أمره } .

{ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَىْءٍ قدرا } .

لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت . فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشىء عما اشتملت عليه جمل { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ، إلى قوله : { إن الله بالغ أمره } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله ، أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا ، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس .

فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً .

ولها موقع التعليل لجملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] فإن العِدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها عَلّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله ، فلا يسوغ التهاون فيه .

ولهذا موقع التذييل لجملة { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدراً لا يعدوه كما جعل الحدود .

ولها موقع التعليل لجملة { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ، لأن المعنى إذا بلغن القَدْر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] فالمعنى : فإن لم يُحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدة .

ولها موقع التعليل لجملة { وأقيموا الشهادة لله } فإن الله جعل الشهادة قدراً لرفع النزاع .

فهذه الجملة جُزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة .

ومعنى { لكل شيء } لكل موجود ، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتاً أو معنى من المعاني قال تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } [ القمر : 52 ] . فعموم قوله : { لكل شيء } صريح في أن ما وعد الله به يَجعل له حين تكوينه قَدْراً .

قال الراغب في « مفرداته » : وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملاً دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها . ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءَه بالصلاحية وقدَّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون .

وتقديره نطفة الإِنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر . فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحُكم منه أن يَكون كذا أو لا يكون ، كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإِمكان . وعلى ذلك قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } . والثاني بإعطاء القدرة عليه ، وعلى ذلك قوله : { فقدرنا فنعم القادرون } [ المرسلات : 23 ] أو يكون من قبيل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } اه .

والقَدْر : مصدر قَدَره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وَضع فيه بمقدار كمية ذاتيةً أو معنوية تُجعل على حسب ما يتحمله المفعول . فقَدر كلّ مفعولٍ لفعل قَدَرَ ما تتحمله طاقته واستطاعتُه من أعمال ، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وَعْيه لما يَكُدُّ به ذهنه من مدارك وأفهام . ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة [ البقرة : 286 ] . وقوله هنا : { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } [ الطلاق : 7 ] .

ومن جزئيات معنى القَدْر ما يسمى التقدير : مصدر قَدَّر المضاعف إذا جَعَل شيئاً أو أشياء على مقدار معين مناسب لما جُعل لأجله كقوله تعالى : { وقدر في السرد } في سورة [ سبأ : 11 ]