وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم . إذ يقسم الله - سبحانه - بذاته العلية ، أنه لا يؤمن مؤمن ، حتى يحكم رسول الله [ ص ] في أمره كله . ثم يمضي راضيا بحكمه ، مسلما بقضائه . ليس في صدره حرج منه ، ولا في نفسه تلجلج في قبوله :
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، ويسلموا تسليمًا ) . .
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ، ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان ، وموقوف على طائفة من الناس ! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام ؛ جاءت في صورة قسم مؤكد ؛ مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله [ ص ] هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته [ ص ] وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبى بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله ، في حكم الزكاة ؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها ، بعد الوفاة !
وإذا كان يكفي لإثبات " الإسلام " أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في " الإيمان " هذا ، ما لم يصحبه الرضى النفسي ، والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان ، في اطمئنان !
هذا هو الإسلام . . وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام ؛ وأين هي من الإيمان ! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان !
{ فلا وربك } أي فوربك ، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله : { لا يؤمنون } لأنها تزاد أيضا في الإثبات كقوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } .
{ حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه . { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } ضيقا مما حكمت به ، أو من حكمك أو شكا من أجله ، فإن الشاك في ضيق من أمره . { ويسلموا تسليما } وينقادوا لك انقيادا بظاهرهم وباطنهم .
قال الطبري : قوله : { فلا } رد على ما تقدم ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله ، { وربك لا يؤمنون } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقال غيره : إنما قدم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي ، و كان يصح إسقاط { لا } الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام{[4132]} ، و { شجر } معناه : اختلط والتف من أمورهم ، وهو من الشجر ، شبيه بالتفاف الأغصان ، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه{[4133]} ، وقرأ أبو السمال «شجْر » بإسكان الجيم .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه فر من توالي الحركات ، وليس بالقوي ، لخفة الفتحة ، و { يحكموك } نصب بحتى ، لأنها هاهنا غاية مجردة . و { يجدوا } عطف عليه ، والحرج : الضيق والتكلف والمشقة ، قال مجاهد : { حرجاً } ، شكاً{[4134]} ، وقوله : { تسليماً } مصدر مؤكد ، منبىء على التحقيق في التسليم ، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة ، كما قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً }{[4135]} [ النساء : 164 ] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع ، ومنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وعجت عجيجاً من جدام المطارف{[4136]} .
وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال آن كان ابن عمتك ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، » فنزلت الآية{[4137]} ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ( ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ){[4138]} ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله .
تفريع عن قوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } [ النساء : 60 ] وما بعده إذْ تضمّن ذلك أنّهم فعلوا ما فعلوا وهم يزعمون أنّهم مؤمنون ، فكان الزعم إشارة إلى انتفاء إيمانهم ، ثمّ أردف بما هو أصرح وهو أن أفعالهم تنافي كونهم مؤمنين بقوله : { لا يؤمنون } ، وأكدّه بالقسم وبالتوكيد اللفظي .
وأصل الكلام : فوربّك لا يؤمنون ، والعرب تأتي بحرف النفي قبل القسم إذا كان جواب القسم منفياً للتعجيل بإفادة أنّ ما بعد حرف العطف قسم على النفي لما تضمّنته الجملة المعطوف عليها ، فتقديم النفي للاهتمام بالنفي ، كقول قيس بن عاصم :
فَلا والله أشْرَبُها صَحيحاً *** ولاَ أشْفَى بها أبداً سقيماً
ويكثر أن يأتوا مع حرف النفي بعد العاطف بحرف نفي مثله في الجواب ليحصل مع الاهتمام التأكيدُ ، كما في هذه الآية ، وهو الاستعمال الأكثر ، ولم أر في كلام العرب تقديم ( لاَ ) على حرف العطف إبطالاً للكلام السابق ، ووقع في قول أبي تمّام :
لا والذي هو عالم أنَّ النوى *** صِبْر وأنَّ أبا الحُسين كريم
وليست ( لا ) هذه هي التي تَرِد مع فعل القسم مزيدة والكلام معها على الإثبات ، نحو { لاَ أقسم } [ القيامة : 1 ] وفي غير القسم نحو { لئلاّ يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، لأنّ تلك ليس الكلام معها على النفي ، وهذه الكلام معها نفي ، فهي تأكيد له على ما اختاره أكثر المحقّقين خِلافاً لصاحب « الكشّاف » ، ولا يلزم أن تكون مواقع الحرف الواحد متّحدة في المواقع المتقاربة .
وقد نُفي عن هؤلاء المنافقين أن يكونوا مؤمنين كما يزعمون في حال يظنّهم الناس مؤمنين ، ولا يشعر الناس بكفرهم ، فلذلك احتاج الخبر للتأكيد بالقسم وبالتوكيد اللفظي ، لأنّه كشْف لباطن حالهم . والمقسم عليه هو : الغاية ، وما عطف عليها بثمّ ، معاً ، فإنْ هم حكّموا غير الرسول فيما شجر بينهم فهم غير مؤمنين ، أي إذا كان انصرافهم عن تحكيم الرسول للخشية من جوره كما هو معلوم من السياق فافتضح كفرهم ، وأعْلَم الله الأمّة أنّ هؤلاء لا يكونون مؤمنين حتّى يحكّموا الرسول ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً مِن حكمه ، أي حرجاً يصرِفهم عن تحكيمه ، أو يسخطهم من حكمه بعد تحكيمه ، وقد علم من هذا أنّ المؤمنين لا ينصرفون عن تحكيم الرسول ولا يجدون في أنفسهم حرجاً من قضائه بحكم قياس الأحرى .
وليس المراد الحرجَ الذي يجده المحكوم عليه من كراهية ما يُلزم به إذَا لم يخامره شكّ في عدل الرسول وفي إصابته وجه الحقّ . وقد بيّن الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفراً ، سواء كان من منافق أم من مؤمن ، إذ قال في شأن المنافقين { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } ثمّ قال { إنّما كان قولَ المؤمنين إذَا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } ، لأنّ حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف إذ لا يشرع الله إلاّ الحقّ ، ولا يخالف الرسولُ في حكمه شَرْعَ الله تعالى .
ولهذا كانت هذه الآية خاصّة بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فأمّا الإعراض عن حكم غير الرسول فليس بكفر إذا جَوَّز المعرض على الحاكم عدمَ إصابته حكم الله تعالى ، أو عدم العدل في الحكم . وقدْ كَره العباس وعليُّ حكم أبي بكر وحُكم عمر في قضية ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدَكَ ، لأنّهما كانا يريان أنّ اجتهاد أبي بكر وعمر في ذلك ليس من الصواب . وقد قال عينية بن حصْن لعمر : « إنّك لا تقسم بالسوية ولا تعدِل في القضية » فلم يُعد طعنه في حكم عمرَ كفراً منه . ثم إنّ الإعراض عن التقاضي لدى قاضي يحكم بشريعة الإسلام قد يكون للطعن في الأحكام الإسلامية الثابت كونها حكم الله تعالى ، وذلك كفر لدخوله تحت قوله تعالى : { أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا } [ النور : 50 ] ؛ وقد يكون لمجرّد متابعة الهوى إذا كان الحكم المخالف للشرع ملائماً لهوى المحكوم له ، وهذا فسوق وضلال ، كشأن كلّ مخالفة يخالف بها المكلّف أحكام الشريعة لاتّباع الأعْراض الدنيوية ، وقد يكون للطعن في الحاكم وظنّ الجور به إذا كان غير معصوم ، وهذا فيه مراتب بحسب التمكّن من الانتصاف من الحاكم وتقوميه ، وسيجيء بيان هذا عند قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } في سورة العقود ( 44 ) .
ومعنى { شَجَر } تداخل واختلف ولم يتبيّن فيه الإنصاف ، وأصلُه من الشَجَر لأنّه يلتفّ بعضه ببعض وتلتفّ أغصانه . وقالوا : شجر أمرهم ، أي كان بينهم الشرّ . والحرج : الضيق الشديد { يَجْعَلْ صدره ضَيِّقاً حَرِجاً } [ الأنعام : 125 ] .
وتفريع قوله : { فلا وربّك لا يؤمنون } الآية على ما قبله يقتضي أنّ سبب نزول هذه الآية هو قضية الخصُومَة بين اليهودي والمنافق ، وتحاكم المنافق فيها للكاهن ، وهذا هو الذي يقتضيه نظم الكلام ، وعليه جمهور المفسّرين ، وقاله مجاهد ، وعطاء ، والشعبي .
وفي « البخاري » عن الزبير : أحسب هذه الآية نزلت في خصومة بيني وبين أحد الأنصار في شِرَاج من الحَرَّة ( أي مسيل مياه جمع شَرْج بفتح فسكون وهو مسيل الماء يأتي من حرّة المدينة إلى الحوائط التي بها ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله : " اسق يا زبيرُ ثم أرسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري : لأنْ كانَ ابنَ عمّتك . فتغيّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اسق يا زبير حتّى يبلغ الماء الجَدْرَ ثم أرسل إلى جارك واستَوْف حقَّك ( والجدَر هو ما يدار بالنخل من التراب كالجِدار ) فكان قضاؤه الأوّل صلحاً ، وكان قضاؤه الثاني أخذاً بالحقّ ، وكأنَّ هذا الأنصاري ظمّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد الصلح بينهم على وجه فيه توفير لحقّ الزبير جبراً لخاطره ، ولم ير في ذلك ما ينافي العصمة ، فقد كان الصحابة متفاوتين في العلم بحقائق صفات الرسول مدفوعين في سبر النفوس بما اعتادوه من الأميال والمصانعات ، فنّبههم الله تعالى على أنّ ذلك يجرّ إلى الطعن في العصمة .
وليس هذا الأنصاري بمنافق ولا شاكّ في الرسول ، فإنّهم وصفوه بالأنصاري وهو وصف لخيرة من المؤمنين ، وما وصفوه بالمنافق ، ولكنّه جهل وغفل فعفا عنه رسول الله ولم يستتبه . وهذه القضية ترجع إلى النظر في التكفير بلازم القول والفعل ، وفيها تفصيل حسن لابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب « الجنائز » وكتاب « المرتدّين » . خلاصته : أنّهُ لا بدّ من تنبيه من يصدر منه مثل هذا على ما يلزم قولَه من لازم الكُفر فإن التزمه ولم يرجع عُدَّ كافراً ، لأنّ المرء قد يغفل عن دلالة الالتزام ، ويؤخذ هذا على هذا الوجه في سبب النزول من أسلوب الآية لقوله : { لا يؤمنون } إلى قوله { تسليماً } فنبّه الأنصاري بأنّه قد التبس بحالة تنافي الإيمان في خفاء إن استمرّ عليها بعد التنبيه على عاقبتها لم يكن مؤمناً .
والأنصاري ، قيل : هو غير معروف ، وحبّذا إخفاؤه ، وقيل : هو ثعلبة بن حاطب ، ووقع في « الكشاف » أنه حَاطب بن أبي بلتعة ، وهو سهو من مؤلِفه ، وقيل : ثابت بن قيس بن شمَّاس ، وعلى هذه الرواية في سبب النزول يكون معنى قوله : { لا يؤمنون } أنّه لا يستمرّ إيمانهم . والظاهر عندي أنّ الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المُنَافق فظنّها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري .