في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون

هذه سورة النور . . يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله : ( الله نور السماوات والأرض ) ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية ، تنير القلب ، وتنير الحياة ، ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح ، وإشراق في القلوب ، وشفافية في الضمائر ، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .

وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف ، ومن آدابوأخلاق : ( سورة أنزلناها وفرضناها ، وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ) . . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ؛ ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية . .

والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة ، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر ، واستجاشة المشاعر ؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة ، حتى تشف وترف ، وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية ، وآداب البيت والأسرة ، وآداب الجماعة والقيادة . بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله ، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية ، وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض ، والقلوب والضمائر ، والنفوس والأرواح .

ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط :

الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ؛ ويليه بيان حد الزنا ، وتفظيع هذه الفعلة ، وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة ، فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ؛ واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات ، ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء .

ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة ، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها ، والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور ، ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية ، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين ، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية .

والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة ، فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ؛ أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق : في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء ، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها ، مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . .

والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم ، على هذا ، الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين ، والنصر على الكافرين .

ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة ، مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض ، وعلمه بواقع الناس ، وما تنطوي عليه حناياهم ، ورجعتهم إليه ، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم .

والآن نأخذ في التفصيل .

( سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ) . .

مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة( فرضناها )والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة ، والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات ، فتذكرهم بها تلك الآيات البينات ، وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النور مدنية وهي أربع وستون آية .

{ بسم الله الرحمن الرحيم } { سورة } أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة . { أنزلناها } صفتها ومن نصبها جعله مفسرا لناصبها فلا يكون له محل إلا إذا قدر اتل أو دونك نحوه { وفرضناها } وفرضنا ما فيها من الأحكام ، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ولكثرة فرائضها أو المفروض عليهم ، أو للمبالغة في إيجابها . { وأنزلنا فيها آيات بينات } واضحات الدلالة { لعلكم تذكرون } فتتقون المحارم وقرئ بتخفيف الذال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سور النور هذه السورة كلها مدنية . {[1]}

بسم الله الرحمن الرحيم .

قوله { سورة } قرأ الجمهور ، «سورةٌ » بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر ومجاهد «سورةً » بالنصب ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن عبد العزيز وعن أبي الدرداء{[8559]} ، فوجه الرفع خبر ابتداء مضمر تقديره هذه سورة ، أو ابتداء وخبره مقدم تقديره فيما يتلى عليكم ، ويحتمل أن يكون قوله «سورة » ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة ، فحسن الابتداء لذلك ويكون الخبر في قول : { الزانية } وفيما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم ولكن يلحق هذا القول : إن كون الابتداء هو الخبر ليس بالبين إلا أن نقدر الخبر في السورة بأسرها وهذا بعيد في القياس{[8560]} ، وقول الشاعر «فارس ما تركوه » ، ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا سورة أو نحوه ، وجعله بعضهم أنزلنا { سورة أنزلناها }{[8561]} ، وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه{[8562]} ، وقرأ جمهور الناس «وفرضناها » بتخفيف الراء ، ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام ، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود «وفرّضناها » بشد الراء ومعناه جعلناها فرائض فرائض ، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير{[8563]} ، وقرأ الأعمش «وفرضناها لكم » ، وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما السورة من أمر ونهي فرض لا حض بهذه اللفظة ، و «الآيات البينات » أمثالها ومواعظها وأحكامها ، وقال الزهراوي المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم ، وقوله { لعلكم } أي على توقع البشر ورجائهم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[8559]:في بعض النسخ: "وعن أبي الدرداء"، وأبو الدرداء اسمه عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري، مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقب، وهو صحابي جليل، كان عابدا، مات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، أما أم الدرداء فهي زوجه، واسمها هجيمة، وقيل: جهيمة الأوصابية الدمشقية، قال عنها الحافظ العسقلاني: "ثقة، فقيهة، ماتت سنة إحدى وثمانين".
[8560]:نقل أبو حيان في البحر المحيط هذه الفقرة عن ابن عطية مع اختلاف في بعض الألفاظ عما هنا؛ إذ جاء فيه "إلا أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه خبر، إلا أن يقدر الخبر في السورة كلها"، ومعنى هذا أن قوله تعالى: {الزانية والزاني} وهو مبتدأ ومعطوف عليه ليس بالبين أنه خبر عن المبتدأ الأول وهو قوله تعالى: [سورة]، لكن لو قدرنا أن الخبر في السورة كلها لأصبح الأمر بينا واضحا. وقد جاء في كثير من النسخ زيادة عما هنا قوله: وقول الشاعر: "فارس ما تركوه" فقد جاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها وصفت بصفة أخرجتها عن حد النكرة المحضة وجاء الخبر بعد ذلك، فأي تخصيص للنكرة يجعلها صالحة للابتداء.
[8561]:فيكون من باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره، ولا محل هنا لجملة [أنزلناها] لأنها جملة مفسرة، بخلاف الوجه الأول فإن [أنزلناها] في محل نصب على أنها صفة لقوله سبحانه: [سورة]، ولكن يترتب على القول بالاشتغال الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، إلا إذا قدرنا لها صفة بحيث يكون التقدير: سورة عظيمة.
[8562]:وقيل: إنها منصوبة على الإغراء، أي: "دونك سورة"، قال ذلك الزمخشري في الكشاف، وقد رده أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط وقال: إنه لا يجوز حذف أداة الإغراء.
[8563]:وقد يكون التضعيف لبيان أن الله أنزلها قطعا قطعا أو نجما نجما، لأن الفرض هو القطع. قال ذلك القرطبي.