في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

33

وهنا - وقد وضحت القضية وظهر الحق جليا - يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية :

( فمن حاجك فيه - من بعد ما جاءك من العلم - فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم . ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) . .

وقد دعا الرسول [ ص ] من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد ، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين . فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة . وتبين الحق واضحا . ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظا بمكانتهم من قومهم ، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم ! ! ! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

{ فمن حاجك } من النصارى . { فيه } في عيسى . { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البينات الموجبة للعلم . { فقل تعالوا } هلموا بالرأي والعزم . { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها ، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم . { ثم نبتهل } أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا . والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار . { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } عطف فيه بيان روي { أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر ، فلما تخالوا قالوا للعاقب -وكان ذا رأيهم- ما ترى فقال : والله لقد عرفتم نبوته ، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ، فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد ، فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ) . وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

وقوله تعالى : { فمن حاجك فيه } معناه جادلك ونازعك الحجة ، والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يعود على { عيسى } ، ويحتمل أن يعود على { الحق } ، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى : { فقل تعالوا } الآية ، استدعاء المباهلة و { تعالوا } تفاعلوا من العلو ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك و{ نبتهل } معناه نلتعن ، ويقال عليهم بهلة الله معنى اللعنة{[3212]} ، والابتهال : الجد في الدعاء بالبهلة .

وروي في قصص هذه الآية : أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو الله ، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي{[3213]} عن النبي عليه السلام أنه قال : { ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني }{[3214]} لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى ذلك ، فروى الشعبي وغيره ، أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم : إن كان نبياً ثم دعا عليكم هلكتم ، وإن كان ملكاً فظهر لم يبق عليكم ، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه ؟ قال : إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً حسيناً آخذاً بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، فدعاهم إلى الميعاد ، فقالوا : نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

«فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء » ، قالوا : لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال : فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفاً في رجب وألفاً في صفر وطلبوا منه رجلاً آميناً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح{[3215]} وقال عليه السلام : «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة »{[3216]} ، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم قالوا : دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : يا معشر النصارى ، والله لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه ، فأتوا النبي عليه السلام ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له : ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى ، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض ، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لو لاعنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض }{[3217]} ، وقال أيضاً { لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً }{[3218]} ، وروى علباء بن احمر اليشكري{[3219]} قال : لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود{[3220]} ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم ، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ فلا تلاعنوا فانتهوا ، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي{[3221]} وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما{[3222]} يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط .


[3212]:- في حديث مروي عن أبي بكر: (من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله). والمعنى: عليه لعنة الله.
[3213]:- هو عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي حليف أبي وداعة السهمي، له صحبة، سكن مصر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وعنه المصريون ومن آخرهم يزيد بن أبي حبيب، وهو أخر من مات بمصر من الصحابة وذلك سنة: 86هـ بعد أن عمي. (الإصابة 2/291). والذي في تفسير الطبري: عبد الله بن الحارث الزبيدي-بدلا من: السوائي.
[3214]:- انظر تفسير الطبري 3/213.
[3215]:-أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة (فتح القدير 1/ 316، وتفسير ابن كثير 1/369).
[3216]:-أخرجه الطبري في تفسيره 3/299.
[3217]:- أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة (3/300) وجديد الأرض: وجه الأرض.
[3218]:- أخرجه الحاكم، وأبو نعيم في "الدلائل" عن جابر، ورواه الحاكم أيضا من وجه آخر عن جابر. (فتح القدير للشوكاني: 1/316).
[3219]:- هو علباء بن أحمد اليشكري البصري، أحد القراء، له اختيار، روى عن عكرمة مولى ابن عباس، وعمرو بن أخطب، وروى عنه أبو علي الرحبي، وداود بن الفرات، والحسين بن واقد، وغيرهم. له في مسلم حديث واحد، ذكره ابن حبان في الثقات، (تهذيب التهذيب 7/273).
[3220]:- كذا قال هنا، مع أن الظاهر أنهم نصارى، فهذه رواية غريبة. لكن قتادة روى أن الدعوة إلى كلمة سواء كانت مع اليهود كما جاء في صفحة154 من هذا الجزء.
[3221]:- زيادة الألف في النسب هنا جائزة.
[3222]:- في بعض النسخ (من) وهو الصواب.