سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة
القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة . ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس . وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح . وفي نهايتها قصة ذي القرنين . ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة ، فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ؛ ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها . وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعضمشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .
أما المحور الموضوعي للسورة والذي ترتبط به موضوعاتها ، ويدور حوله سياقها ، فهو تصحيح العقيدة وتصحيح منهج النظر والفكر . وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة .
فأما تصحيح العقيدة فيقرره بدؤها وختامها .
في البدء : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما . لينذر بأسا شديدا من لدنه ؛ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولدا . ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .
وفي الختام : ( قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) .
وهكذا يتساوق البدء والختام في إعلان الوحدانية وإنكار الشرك ، وإثبات الوحي ، والتمييز المطلق بين الذات الإلهية وذوات الحوادث .
ويلمس سياق السورة هذا الموضوع مرات كثيرة في صور شتى :
في قصة أصحاب الكهف يقول الفتية الذين آمنوا بربهم : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا .
وفي التعقيب عليها : ( ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحدا ) . .
وفي قصة الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .
وفي التعقيب عليها : ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ، هنالك الولاية لله الحق ، هو خير ثوابا وخير عقبا ) .
وفي مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، وجعلنا بينهم موبقا ) .
وفي التعقيب على مشهد آخر : ( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ? إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ) .
أما تصحيح منهج الفكر والنظر فيتجلى في استنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم ، والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان . وفي توجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم ولا يتعداه ، وما لا علم له به فليدع أمره إلى الله .
ففي مطلع السورة : ( وينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم )
والفتية أصحاب الكهف يقولون : ( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ! )وعندما يتساءلون عن فترة لبثهم في الكهف يكلون علمها لله : ( قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ) .
وفي ثنايا القصة إنكار على من يتحدثون عن عددهم رجما بالغيب : ( سيقولون : ثلاثة رابعهم كلبهم ؛ ويقولون : خمسة سادسهم كلبهم - رجما بالغيب - ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم . قل : ربي أعلم بعدتهمما يعلمهم إلا قليل ؛ فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) .
وفي قصة موسى مع العبد الصالح عندما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول : ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري )فيكل الأمر فيها لله .
فأما تصحيح القيم بميزان العقيدة ، فيرد في مواضع متفرقة ، حيث يرد القيم الحقيقية إلى الإيمان والعمل الصالح ، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر الأنظار .
فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار ، ونهايته إلى فناء وزوال : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) .
وحمى الله أوسع وأرحب ، ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق . والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون بعد اعتزالهم لقومهم : ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا )
والخطاب يوجه إلى الرسول [ ص ] ليصبر نفسه مع أهل الإيمان ؛ غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن الله ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ؛ واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل : الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
وقصة الجنتين تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة . وكيف يجبه صاحبها المنتفش المنتفخ بالحق ، ويؤنبه على نسيان الله : ال له صاحبه وهو يحاوره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ? لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا . ولولا إذ دخلت جنتك قلت : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله . إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا . فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ، ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .
وعقب القصة يضرب مثلا للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ) .
ويعقب عليه ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) .
وذو القرنين لا يذكر لأنه ملك ، ولكن يذكر لأعماله الصالحة . وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالا ، فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال ، لأن تمكين الله له خير من أموالهم ( قال : ما مكني فيه ربي خير ) . وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية : ( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ) .
وفي نهاية السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالا ، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ؛ وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا : ( قل : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ? أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .
وهكذا نجد محور السورة هو تصحيح العقيدة . وتصحيح منهج الفكر والنظر . وتصحيح القيم بميزان العقيدة
ويسير سياق السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية في أشواط متتابعة :
تبدأ السورة بالحمد لله الذي أنزل على عباده الكتاب للإنذار والتبشير . تبشير المؤمنين وإنذار الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ؛ وتقرير أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والاختبار ، والنهاية إلى زوال وفناء . . ويتلو هذا قصة أصحاب الكهف . وهي نموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها ، والالتجاء إلى رحمة الله في الكهف ، هربا بالعقيدة أن تمس .
ويبدأ الشوط الثاني بتوجيه الرسول [ ص ] أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأن يغفل الغافلين عن ذكر الله . . ثم تجيء قصة الجنتين تصور اعتزاز القلب المؤمن بالله ، واستصغاره لقيم الأرض . . وينتهي هذا الشوط بتقرير القيم الحقيقية الباقية .
والشوط الثالث يتضمن عدة مشاهد متصلة من مشاهد القيامة تتوسطها إشارة قصة آدم وإبليس . . وينتهي ببيان سنة الله في إهلاك الظالمين ، ورحمة الله وإمهاله للمذنبين إلى أجل معلوم .
وتشغل قصة موسى مع العبد الصالح الشوط الرابع . وقصة ذي القرنين الشوط الخامس .
ثم تختم السورة بمثل ما بدأت : تبشيرا للمؤمنين وإنذارا للكافرين ، وإثباتا للوحي وتنزيها لله عن الشريك . فلنأخذ في الشوط الأول بالتفصيل :
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيما . لينذر بأسا شديدا من لدنه ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا ، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم . إن يقولون إلا كذبا . فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا . . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) . . .
بدء فيه استقامة ، وفيه صرامة . وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب ( على عبده ) بهذه الاستقامة ، لا عوج فيه ولا التواء ، ولا مداراة ولا مداورة :
ومنذ الآية الأولى تتضح المعالم ، فلا لبس في العقيدة ولا غموض : الله هو الذي أنزل الكتاب ، والحمد له على تنزيله . ومحمد هو عبد لله . فالكل إذن عبيد ، وليس لله من ولد ولا شريك .
والكتاب لا عوج له . . ( قيما ) يتكرر معنى الاستقامة مرة عن طريق نفي العوج ، ومرة عن طريق إثبات الاستقامة . توكيدا لهذا المعنى وتشديدا فيه .
سورة الكهف وقيل إلا قوله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } الآية وهي مائة وإحدى عشرة آية .
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } يعني القرآن ، رتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد . { ولم يجعل له عوجا } شيئا من العوج باختلال في اللفظ وتناف في المعنى ، أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان .