في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

18

( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزا حكيما ) . .

وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين . أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون ؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم ، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود . . وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم ، أنهم هم ، بأشخاصهم وأعيانهم ، يقول الله عنهم : لقد رضي عنهم . ويحدد المكان الذي كانوا فيه ، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى : ( إذ يبايعونك تحت الشجرة ) . . يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق ، على لسان ربه العظيم الجليل . .

يالله ! كيف تلقوا - أولئك السعداء - تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي ? التبليغ الذي يشير إلى كل أحد ، في ذات نفسه ، ويقول له : أنت . أنت بذاتك . يبلغك الله . لقد رضي عنك . وأنت تبايع . تحت الشجرة ! وعلم ما في نفسك . فأنزل السكينة عليك !

إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع : ( الله ولي الذين آمنوا ) . . فيسعد . يقول في نفسه : ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم ? ويقرأ أو يسمع : ( إن الله مع الصابرين ) . . فيطمئن . يقول في نفسه : ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين ? وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون . واحدا واحدا . أن الله يقصده بعينه وبذاته . ويبلغه : لقد رضي عنه ! وعلم ما في نفسه . ورضي عما في نفسه !

يا لله ! إنه أمر مهول !

( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) . . ( فعلم ما في قلوبهم . فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) . .

علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم . وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم . وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز ، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] طائعين مسلمين صابرين .

فانزل السكينة عليهم . . بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار ، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة ، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا .

( وأثابهم فتحا قريبا ) . . هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا ، وجعلته بدء فتوح كثيرة . قد يكون فتح خيبر واحدا منها . وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين . .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

شرح الكلمات :

{ لقد رضي الله عن المؤمنين } : أي الراسخين في الإِيمان الأقوياء فيه وهم أهل بيعة الرضوان من أصحاب سول الله صلى الله عليه وسلم .

{ إذ يبايعونك } : أي بالحديبية أيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .

{ تحت الشجرة } : أي سمرة وهم ألف وأربعمائة بايعوا على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا .

{ فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } : أي علم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء فأنزل الطمأنينة : والثبات على ما هم عليه .

{ وأثابهم فتحاً قريبا } : أي هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة . وفي آخر المحرم من سنة سبع غزوا خيبر ففتحها الله تعالى عليهم .

{ ومغانم كثيرة يأخذونها } : أي من خيبر .

{ وكان الله عزيزا حكيما } : أي كان وما زال تعالى عزيزا غالبا حكيما في تصريفه شؤون عباده .

المعنى :

قوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين هذا إخبار منه تعالى برضاه عن المؤمنين الكاملين في إيمانهم وهم ألف وأربعمائة الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة سمرة إلاّ الجد بن قيس الأنصاري فإِنه لم يبايع حيث كان لاصقا بإِبط ناقته مختبئا عن أعين الأصحاب وكان منافقا ومات على ذلك لا قرت له عين . وسبب هذه البيعة كما ذكره غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أُمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحملة على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له " وهو الاعتمار " وذلك حين نزل الحديبية . فعقروا به جملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش " فرَقٌ من شتى القبائل يُقال لهم الأحابيش واحدهم أحبوش يقال لهم اليوم : اللفيف الأجنبي عبارة عن جيش أفراده من شتى البلاد والدول . فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم ، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظّما لحرمته فراح عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته فحمله بين يديه ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى سفيان وعظماء قليش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قتل . فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عندئذ " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، هذا معنى قوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم } أي من الصدق والوفاء فأنزل السكينة أي الطمأنينة والثبات عليهم وأثابهم أي جزاهم على صدقهم ووفائهم فتحا قريبا هو صلح الحديبية وفتح خيبر .

/ذ18

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

ولما وعد المطيع وأوعد العاصي ، وكانت النفوس إلى الوعد أشد التفاتاً ، دل عليه بثواب عظيم{[60361]} منه أمر محسوس يعظم جذبه للنفوس القاصرة عن النفوذ{[60362]} في عالم الغيب ، فقال مؤكداً لأن أعظم المراد به المذبذبون ، مفتتحاً بقد لأن السياق موجب للتوقع لما جرى من السنة الإلهية أنها إذا شوقت إلى شيء دلت عليه بمشهود يقرب الغائب الموعود : { لقد رضي الله } أي الذي له الجلال والجمال { عن المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان ، أي فعل معهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدر له من الثواب ، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة ، فالآيات تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة .

ولما ذكر الرضى ، ذكر وقته للدلالة على سببه فقال : { إذ } أي حين ، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال : { يبايعونك } في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت ، فبعثت عثمان رضي الله عنه إليهم ليخبرهم بأنك لم تجىء لقتال وإنما جئت للعمرة ، فبلغك أنهم قتلوه فندبت إلى البيعة لمناجزتهم فبايعك كل من كان معك على أن لا يفروا لتناجز بهم القوم ؛ وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله : { تحت الشجرة } واللام للعهد الذهني ، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية ، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان ، وروى البغوى{[60363]} من طريق الثعلبي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " .

ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم ، سبب عنه قوله : { فعلم } أي لما له من الإحاطة { ما في قلوبهم } أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة ، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين ، وسبب عن هذا العلم ترغيباً في-{[60364]} مثل هذا المحدث عنهم قوله : { فأنزل السكينة } أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله ، ودل على عظمها بحيث إنها تغلب الخوف وإن عظم بقوله : { عليهم } فأثر ذلك أنهم لم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، لا آثر الصلح بما يتراءى فيه من الضعف وغيره{[60365]} من مخايل النقص في قلوبهم في ذلك المقام الدحض والمواطن الضنك إلا ريثما{[60366]} رأوا صدق عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومضى أمره في ذلك بما يفعل ويقول .

ولما ذكر منّه سبحانه وتعالى عليهم بما هو الأصل الذي لا يبنى{[60367]} إلا عليه ، أتبعه آثاره فقال : { وأثابهم } أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء ، مقبلاً عليهم ، يملأ مواضع احتياجهم ، هو أهل{[60368]} لأن يقصده الإنسان ويتردد في طلبه لما له من الإقبال والمكنة والشمول { فتحاً } بما أوقع سبحانه من الصلح المترتب على تعجيز قريش عن القتال { قريباً * } بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم{[60369]} لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه ، فسيكون الفتح الأعظم فتح لمكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد .


[60361]:من ظ ومد، وفي الأصل: أعظم.
[60362]:من ظ ومد، وفي الأصل: القعود.
[60363]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 6/164.
[60364]:زيد من ظ ومد.
[60365]:زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ ومد فحذفناها.
[60366]:من ظ ومد، وفي الأصل: أبتما.
[60367]:من مد، وفي الأصل و ظ: ينبني.
[60368]:من مد، وفي الأصل و ظ: أصل.
[60369]:من مد، وفي الأصل و ظ: جموحهم.