في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

17

فأما قسمه ليضربن زوجه . فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به ، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده . فيضربها به ضربة واحدة . تجزىء عن يمينه ، فلا يحنث فيها :

( وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ) . .

هذا التيسير ، وذلك الإنعام ، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء :

( إنا وجدناه صابراً ، نعم العبد ، إنه أواب ) . .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

شرح الكلمات :

{ ضغثا } : أي حزمة من حشيش يابس .

{ ولا تحنث } : بترك ضربها .

{ نعم العبد } : أي أيوب عليه السلام .

{ إنه أواب } : أي رجاع إلى الله تعالى .

المعنى :

وقوله { وخذ بيدك ضغثاً } أي قلنا له خذ بيدك ضغثاً أي حزمة من حشيش يابس واضرب به امرأتك ضربة واحدة إذ في الحزمة مائة عود وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة لما حصل منها من تقصير في يوم من أيام حياتهما ، فأفتاه ربُّه تعالى بما ذكر في هذه الآية . وقوله تعالى { إنا وجدناه صابراً } أي قد اختبرناه بالمرض وفقد الأهل والمال والولد فوجدناه صابرا ، وبذلك أثنى عليه بقوله { نعم العبد } أي أيوب { إنه أواب } رجاع إلى ربّه في كل أمره لا يعرف إلا الله .

الهداية :

من الهداية :

- مشروعية الفتيا وهي خاصة بأهل الفقه والعلم .

- وجوب الكفارة على من حنث في يمينه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا } أي حزمة شماريخ { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } : قال المفسرون : وكان في مرضه وضره ، قد غضب على زوجته في بعض الأمور ، فحلف : لئن شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة ، فلما شفاه اللّه ، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه ، رحمها اللّه ورحمه ، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ، فيبر في يمينه .

{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ } أي : أيوب { صَابِرًا } أي : ابتليناه بالضر العظيم ، فصبر لوجه اللّه تعالى . { نِعْمَ الْعَبْدُ } الذي كمل مراتب العبودية ، في حال السراء والضراء ، والشدة والرخاء .

{ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع إلى اللّه ، في مطالبه الدينية والدنيوية ، كثير الذكر لربه والدعاء ، والمحبة والتأله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وخذ بيدك ضغثا} يعني بالضغث القبضة الواحدة، فأخذ عيدانا رطبة، وهي الأسل مائة عود عدد ما حلف عليه، وكان حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة.

{فاضرب به ولا تحنث} ولا تأثم في يمينك التي حلفت عليها...

{إنا وجدناه صابرا} على البلاء إضمار.

{نعم العبد إنه أواب} مطيعا لله تعالى.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَخُذْ بِيَدِكَ ضغْثا" يقول: وقلنا لأيوب: خذ بيدك ضغثا، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرّطْبة، وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق... عن ابن عباس، قوله: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا فاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ "قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به...

عن قتادة: "وَخُذْ بِيَدكَ ضِغْثا..." الآية، قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء، فقال: لو تكلمت بكذا وكذا، وإنما حملها عليها الجزع، فحلف نبيّ الله: لئِن اللّهُ شفاه ليجلِدّنها مئة جلدة قال: فأُمِر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا، والأصل تكملة المِئَة، فضربها ضَربة واحدة، فأبرّ نبيّ الله، وخَفّف الله عن أمَتِهِ، والله رحيم...

وقوله: "إنّا وَجَدْناهُ صَابِرا نِعْمَ العَبْدُ" يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله والدخول في معصيته، "نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ" يقول: إنه على طاعة الله مقبل، وإلى رضاه رَجّاع.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال بعضهم: قضبان وأغصان ونحو ذلك لأيوب خاصة، وقال بعضهم: هو له وسائر الناس: أن من حلف أن يضرب كذا خشبة أو سوطا، فجمع قضبانا أو أغصانا فضرب بها، بر في يمينه، وليس في الآية أنه ضرب به مرة أو مرارا حتى يخرج بضربه المرأة عن يمينه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عزّ وعلا لا تسمى جزعاً، ولقد قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صحّ أن يسمى صابراً مع تمني العافية وطلب الشفاء، فليسم صابراً مع اللجإ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلاّ القلب واللسان...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فإن قيل كيف وجده صابرا وقد شكى إليه، والجواب من وجوه:

الأول: أنه شكى من الشيطان إليه وما شكى منه إلى أحد.

الثاني: أن الألم حين كان على الجسد لم يذكر شيئا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين فتضرع.

الثالث: أن الشيطان عدو، والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر...

{نعم العبد إنه أواب} وهذا يدل على أن تشريف نعم العبد، إنما حصل لكونه أوابا، وسمعت بعضهم قال: لما نزل قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان عليه السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله، فأنزل الله تعالى قوله: {نعم المولى ونعم النصير} والمراد أنك إن لم تكن {نعم العبد} فأنا {نعم المولى} وإن كان منك الفضول فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ولا تحنث} فهذا تخفيف على كل منهما لصبره، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صلى الله عليه وسلم في بدنه وولده وماله، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام، إلى أن قارب منها بعض ما يريد، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس عليه وغيرهم فيطيعه الكل.

ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها، علل سبحانه هذا الإكرام له صلى الله عليه وسلم وأكده، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم إشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {وجدناه} أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين.

ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى {واصبر على ما يقولون}

[المزمل: 10] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال: {صابراً} ثم استأنف قوله: {نعم العبد} ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك:

{إنه أواب} أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام، والتقدير: وقلنا خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، وهو قول غيرُ القول المحذوف في قوله: {اركض برجلك}؛ لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة، وذلك له قصته، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالاً ولم يرد في تعيينها أثر صحيح، ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملاً ففسد عليه صبره، من استعانة ببعض الناس على مواساته، فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عدداً من الضرب ثم ندم وكان محبّاً لها، وكانت لائذة به في مدة مرضه، فلما سُرِّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحُزمة فيها عددٌ من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقاً بزوجه لأجله وحفظاً ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة. وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة؛ وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الذي يلفت النظر في هذه الآية أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلا: مقام عبوديته.

ثانياً: صبره وتحمّله وثباته.

ثالثاً: إنابته المتكرّرة إلى الله...

دروس مهمّة في قصّة أيّوب:

رغم أنّ قصّة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة، إلاّ أنّها وضّحت حقائق مهمّة، منها:

أ- الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّاً ويشمل حتّى الأنبياء الكبار، إذ يكون امتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين؛ لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس، ومن دون هذا الامتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر.

ب -الفرج بعد الشدّة نقطة أخرى تكمن في مجريات هذه القصّة، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه...

ه- أحياناً يكون امتحان شخص ما، هو امتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه، ومقدار وفائهم له، فعندما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه، ولم يكتفوا بالابتعاد عنه، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه، وكشفوا بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه. و أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم أولئك الذين يذكرون الله دائماً في السرّاء والضرّاء، وفي المرض والعافية... وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر...

ز- هذه القصّة أكّدت مرّة أخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة، ونزول المصائب، وحلول المشاكل والفقر، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئ عز وجل، كما أنّ امتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بُعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبداً مقرّباً لله مع امتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة، بشرط أن لا يكون عبداً لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها...

إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار ثلاثة أنبياء كبار اُطلقت عليهم صفة:

(أوّاب) في هذه السورة، وهم: داود وسليمان وأيّوب، وفي سورة (ق) في الآية (32) أطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة، قوله تعالى: (هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ) هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى، وعندما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة، وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة الرجوع وتكراره، يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّاً تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم، ووساوس النفس والشيطان، وإن ابتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

فيه سبع مسائل :

الأولى- كان أيوب حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة ، وفي سبب ذلك أربعة أقوال : أحدها : ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال أداويه عل أنه إذا برئ قال أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه . قالت : نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها . وقال : ويحك ذلك الشيطان . الثاني : ما حكاه سعيد بن المسيب ، أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز ، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها . الثالث : ما حكاه يحيى بن سلام وغيره : أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة . الرابع : قيل : باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب ، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضرب به ، فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة . وقيل : الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس . وقال ابن عباس : إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه .

الثانية- تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا . وذلك أن امرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها مائة ، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل ، وهذا لا يجوز في الحدود . إنما أمره الله بذلك لئلا يضرب امرأته فوق حد الأدب . وذلك أنه ليس للزوج أن يضرب امرأته فوق حد الأدب ؛ ولهذا قال عليه السلام : ( واضربوهن ضربا غير مبرح ) على ما تقدم في " النساء " بيانه .

الثالثة- واختلف العلماء في هذا الحكم هل هو عام أو خاص بأيوب وحده ، فروي عن مجاهد أنه عام للناس . ذكره ابن العربي . وحكي عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب . وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك حكم باق ، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بَرَّ . وروي نحوه الشافعي . وروى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المقعد الذي حملت منه الوليدة ، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة . وقال القشيري : وقيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم ؟ فقال : ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع . ابن العربي : وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة . وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك : من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر . قال بعض علمائنا : يريد مالك قوله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " [ المائدة : 48 ] أي إن ذلك منسوخ بشريعتنا . قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين جلدة . وأنكر مالك هذا وتلا قول الله عز وجل : " فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " [ النور : 2 ] وهذا مذهب أصحاب الرأي . وقد احتج الشافعي لقوله بحديث ، وقد تكلم في إسناده ، والله أعلم .

قلت : الحديث الذي احتج به الشافعي خرجه أبو داود في سننه قال : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ، قال حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار ، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى ، فعاد جلدة على عظم ، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها ، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال : استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به ، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ، ما هو إلا جلد على عظم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة . قال الشافعي : إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة ، أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث . قال ابن المنذر : وإذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي . وقال مالك : ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم .

الرابعة- قوله تعالى : " ولا تحنث " دليل على أن الاستثناء في اليمين لا يرفع حكما إذا كان متراخيا . وقد مضى القول فيه في " المائدة " يقال : حنث في يمينه يحنث إذا لم يبر بها . وعند الكوفيين الواو مقحمة أي فاضرب لا تحنث .

الخامسة- قال ابن العربي : قوله تعالى : " فاضرب به ولا تحنث " يدل على أحد وجهين : إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة ، وإنما كان البر والحنث . والثاني : أن يكون صدر منه نذر لا يمين وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة . وقال الشافعي : في كل نذر كفارة .

قلت : قول إنه لم يكن في شرعهم كفارة ليس بصحيح ، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة ، كما في حديث ابن شهاب ، قال له صاحباه : لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه . فقال أيوب صلى الله عليه وسلم : ما أدري ما تقولان ، غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله ، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي ، فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد يذكره ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه " أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " [ الأنبياء : 83 ] وذكر الحديث . فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب ، وأن من كفر عن غيره بغير إذنه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة .

السادسة- استدل بعض جهال المتزهدة وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب : " اركض برجلك " على جواز الرقص قال أبو الفرج الجوزي : وهذا احتجاج بارد ؛ لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة ، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء . قال ابن عقيل : أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص ، ولئن جاز قوله سبحانه لموسى : " اضرب بعصاك الحجر " [ البقرة : 60 ] دلالة على ضرب المحاد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع . وقد احتج بعض قاصريهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي : ( أنت مني وأنا منك ) فحجل ، وقال لجعفر : ( أشبهت خلقي وخلقي ) فحجل . وقال لزيد : ( أنت أخونا ومولانا ) فحجل . ومنهم من احتج بأن الحبشة زَفَنَتْ والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم . والجواب : أما الحجل فهو نوع من المشي يفعل عند الفرج فأين هو والرقص ، وكذلك زَفْنُ الحبشة نوع من المشي يفعل عند اللقاء للحرب .

السابعة- قوله تعالى : " إنا وجدناه صابرا " أي على البلاء . " نعم العبد إنه أواب " أي تواب رجاع مطيع . وسئل سفيان عن عبدين ابتلى أحدهما فصبر ، وأنعم على الآخر فشكر ، فقال : كلاهما سواء ؛ لأن الله تعالى أثنى على عبدين : أحدهما صابر ، والآخر شاكر ثناء واحدا ، فقال في وصف أيوب : " نعم العبد إنه أواب " وقال في وصف سليمان : " نعم العبد إنه أواب " .

قلت : وقد رد هذا الكلام صاحب ( القوت ) واستدل بقصة أيوب في تفضيل الفقير على الغني وذكر كلاما كثيرا شيد به كلامه ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع من كتاب [ منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد ] . وخفي عليه أن أيوب عليه السلام كان أحد الأغنياء من الأنبياء قبل البلاء وبعده ، وإنما ابتلي بذهاب ماله وولده وعظيم الداء في جسده . وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه صبروا على ما به امتحنوا وفتنوا . فأيوب عليه السلام دخل في البلاء على صفة ، فخرج منه كما دخل فيه ، وما تغير منه حال ولا مقال ، فقد اجتمع مع أيوب في المعنى المقصود ، وهو عدم التغير الذي يفضل فيه بعض الناس بعضا . وبهذا الاعتبار يكون الغني الشاكر والفقير الصابر سواء . وهو كما قال سفيان . والله أعلم .

وفي حديث ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أيوب خرج لما كان يخرج إليه من حاجته فأوحى الله إليه : " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " فاغتسل فأعاد الله لحمه وشعره وبشره على أحسن ما كان ثم شرب فأذهب الله كل ما كان في جوفه من ألم أو ضعف وأنزل الله عليه ثوبين من السماء أبيضين فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ثم أقبل يمشي إلى منزله ورَاثَ على امرأته ، فأقبلت حتى لقيته وهي لا تعرفه فسلمت عليه وقالت : أي يرحمك الله هل رأيت هذا الرجل المبتلى ؟ قال من هو ؟ قالت نبي الله أيوب ، أما والله ما رأيت أحدا قط أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أيوب وأخذ ضغثا فضربها به ) فزعم ابن شهاب أن ذلك الضغث كان ثماما . ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم ، فأقبلت سحابة حتى سجلت في أندر قمحه ذهبا حتى امتلأ ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره وقطانيه فسجلت فيه ورقا حتى امتلأ .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر ، وذكر المخلص منه ، أتبعه التنبيه على أعظمه وهو ألم الباطن ، بل أبطن الباطن التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه رضي الله عنها بما كاد يزلها فحلف ليضربنها مائة لئلا تعود إلى شيء من ذلك فيزلها عن مقامها كما أزل غيرها فأرشده سبحانه وتعالى إلى المخلص من ذلك الحلف على أخف وجه لأنها كانت صابرة محسنة ، فشكر الله لها ذلك ، وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده تعظيماً لأجرها وتطييباً لذكرها فقال عاطفاً على { اركض } { وخذ بيدك } أي التي قد صارت في غاية الصحة { ضغثاً } أي حزمة صغيرة من حشيش فيها مائة عود كشمراخ النخلة ، قال الفراء : هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة ، وقال السمين : وأصل المادة يدل على جميع المختلطات { فأضرب به } أي مطلق ضرب ضربة واحدة { ولا تحنث } في يمينك أي تأثم بترك ما حلفت على فعله ، فهذا تخفيف على كل منهما لصبره ، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا ، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صلى الله عليه وسلم في بدنه وولده وماله ، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام ، إلى أن قارب منها بعض ما يريد ، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم ، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى ، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء ، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات ، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس عليه وغيرهم فيطيعه الكل .

ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها ، علل سبحانه هذا الإكرام له صلى الله عليه وسلم وأكده ، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم رداً على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر ، وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { وجدناه } أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين ، ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى

{ واصبر على ما يقولون }[ المزمل : 10 ] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال : { صابراً } ثم استأنف قوله : { نعم العبد } ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك : { إنه أواب * } أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر ، قال الرازي في اللوامع : قال ابن عطاء : واقف معنا بحسن الأدب لا يغيره دوام النعمة ، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة ، روى عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : وضع رجل يده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالفقر حتى يأخذ العباة فيحويها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء " .