في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (92)

84

وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره ؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ؛ ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود ، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعملون . ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة . ويفاصل قومه على أساس العقيدة ، ويخلي بينهم وبين الله ، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون :

( قال : يا قوم : ارهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ؟ إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ) . .

ارهطي أعز عليكم من الله ؟ . .

أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ، وهم ضعاف ، وهم عباد من عباد الله . . أهؤلاء أعز عليكم من الله ؟ . . أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله ؟

( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) . .

وهي صورة حسية للترك والإعراض ، تزيد في شناعة فعلتهم ، وهم يتركون الله ويعرضون عنه ، وهم من خلقه ، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه . فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير .

( إن ربي بما تعملون محيط ) . .

والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه .

إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله - سبحانه - ووقاره . الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه . . إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه ، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه ! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه - الذين افترق طريقهم عن طريقه - وهذا هو الإيمان في حقيقته . . أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ؛ ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يخشى ربه ! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ، إنما هي لربه ودينه . وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (92)

{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ } يقول : أتتركوني لأجل قومي ، ولا تتركوني إعظاما لجناب الله أن تنالوا نبيه بمساءة . وقد اتخذتم جانب الله { وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا } أي : نبذتموه خلفكم ، لا تطيعونه ولا تعظمونه ، { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (92)

وقوله تعالى : { قال يا قوم أرهطي } الآية ، «الِّظهري » الشيء الذي يكون وراء الظهر ، وقد يكون الشيء وراء الظهر بوجهين : في الكلام ، إما بأن يطرح ، كما تقول : جعلت كلامي وراء ظهرك ودبر أذنك ومنه قول الفرزدق :

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي*** بظهر فلا يعيى عليّ جوابها{[6484]}

وإما بأن يسند إليه ويلجأ . ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه : «وألجأت ظهري إليك »{[6485]} فقال جمهور المتأولين في معنى هذه الآية أنه : واتخذتم الله ظهرياً أي غير مراعى وراء الظهر على معنى الاطراح - ورجحه الطبري .

قال القاضي أبو محمد : وهو عندي على حذف مضاف ولا بد ، وقال بعضهم : الضمير في قوله : { واتخذتموه } عائد على أمر الله وشرعه ، إذ يتضمنه الكلام .

وقالت فرقة : المعنى : أترون رهطي أعز عليكم من الله وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم .

قال القاضي أبو محمد : فقول الجمهور - على أن كان كفر قوم شعيب جحداً بالله تعالى وجهلاً به . وهذا القول الثاني - على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ونحو هذا ؛ وهاتان الفرقتان موجودتان في الكفرة .

ومن اللفظة الاستظهار بالبيّنة ، وقد قال ابن زيد : «الظهري » : الفضل ، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية يعدها إن احتاج إليها وإلا فهي فضلة .

قال القاضي أبو محمد : هذا كله مما يستند إليه .

وقوله { إن ربي بما تعملون محيط } خبر في ضمنه توعد . ومعناه محيط علمه وقدرته .


[6484]:- رواية اللسان: تميم بن قيس، وقد قال: "وظهر بحاجة الرجل وظهّرها وأظهرها: جعلها بظهر واستخف بها، أي جعلها وراء ظهره تهاونا بها" وعيّ بالأمر: عجز عنه فهو عيّ والجمع: أعياء، أو هو عيّي والجمع: أعيياء، والفرزدق يحذر تميم ابن قيس ويطالبه بألا يهمل حاجته فهو ليس بعاجز عن الجواب عن إهماله وتهاونه.
[6485]:- رواه البخاري في كتاب الوضوء، وفي كتاب التوحيد، ورواه أبو داود في الأدب، والترمذي في الدعوات، والدارمي في الاستئذان، ولفظه كما رواه البخاري في التوحيد: عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مُتّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبت أجرا).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (92)

لمّا أرادوا بالكلام الذي وجّهوه إليه تحذيره من الاستمرار على مخالفة دينهم ، أجابهم بما يفيد أنه لم يكن قط معوّلاً على عزة رهطه ولكنّه متوكّل على الله الذي هو أعزّ من كل عزيز ، فالمقصود من الخَبَر لازمه وهو أنّه يعلم مضمون هذا الخبر وليس غافلاً عنه ، أي لقد علمتُ مَا رهطي أغلب لكم من الله فلا أحتاج إلى أن تعاملوني بأنّي غيرُ عزيز عليكم ولا بأنّ قرابتي فئة قليلة لا تعجزكم لو شئتم رجمي .

وإعادة النداء للتّنبيه لكلامه وأنه متبصّر فيه . والاستفهام إنكاريّ ، أي الله أعز من رهطي ، وهو كناية عن اعتزازه بالله لا برهطه فلا يريبه عدم عزة رهطه عليهم ، وهذا تهديد لهم بأنّ الله ناصره لأنّه أرسله فعزّته بعزّة مُرسله .

وجملة { واتّخذتموه وراءَكم ظِهرياً } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أي الله أعز في حال أنكم نسيتم ذلك . والاتّخاذ : الجعل ، وتقدّم في قوله : { أتتّخذ أصْناماً آلهةً } في سورة [ الأنعام : 74 ] .

والظِهريّ بكسر الظاء نسبة إلى الظهر على غير قياس ، والتغييرات في الكلم لأجل النسبة كثيرة . والمراد بالظهريّ الكناية عن النسيان ، أو الاستعارة لأن الشيء الموضوع بالوراء ينسى لقلة مشاهدته ، فهو يشبه الشيء المجعول خلف الظهر في ذلك ، فوقَع { ظهريّاً } حالاً مؤكّدة للظرف في قوله : { وراءكم } إغراقاً في معنى النسيان لأنّهم اشتغلوا بالأصنام عن معرفة الله أو عن ملاحظة صفاته .

وجملة { إنّ ربي بما تعملون محيط } استئناف ، أو تعليل لمفهوم جملة { أرهطي أعز عليكم من الله } الذي هو توكله عليه واستنصاره به .

والمحيط : الموصوف بأنه فاعل الإحاطة . وأصل الإحاطة : حصار شيء شيئاً من جميع جهاته مثل إحاطة الظرف بالمظروف والسور بالبلدة والسِوار بالمعصم . وفي « المقامات الحريرية » : « وقد أحاطت به أخلاط الزمر ، إحاطة الهالة بالقمر ، والأكمام بالثمر » . ويطلق مجازاً في قولهم : أحاط علمه بكذا ، وأحاط بكل شيء علماً ، بمعنى علم كل ما يتضمّن أن يعلم في ذلك ، ثم شاع ذلك فحذف التمييز وأسندت الإحاطة إلى العالم بمعنى : إحاطة علمه ، أي شمول علمه لجميع ما يعلم في غرض مّا ، قال تعالى : { وأحاط بما لديهم } [ الجن : 28 ] أي علمه . ومنه قوله هنا : { إنّ ربي بما تعملون محيط } والمراد إحاطة علمه . وهذا تعريض بالتهديد ، وأنّ الله يوشك أن يعاقبهم على ما علمه من أعمالهم .