في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون

هذه السورة مكية ، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد ، وقضية الوحي إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وقضية الحساب في الآخرة . وتعرض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها . وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام . وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهم إلى توحيد الله ؛ وإخبارهم بقصة الوحي واختيارهرسولاً من عند الله : ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم . وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ، أجعل الآلهة إلهاً واحداً : إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم : أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق . أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . . كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب : ( وقالوا : ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) . .

لقد استكثروا أن يختار الله - سبحانه - رجلاً منهم ، لينزل عليه الذكر من بينهم . وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد الله . الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة ! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيباً على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا )ساءلهم : ( أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ? أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ? فليرتقوا في الأسباب ) . . ليقول لهم : إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء . وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض ، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير ، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد ، ولا حساب . . وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان ؛ وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك ، ومن تسخير الجبال والطير ، وتسخير الجن والريح ، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع .

وهما - مع هذا كله - بشر من البشر ؛ يدركهما ضعف البشر وعجز البشر ؛ فتتداركهما رحمة الله ورعايته ، وتسد ضعفهما وعجزهما ، وتقبل منهما التوبة والإنابة ، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله .

وجاء مع القصتين توجيه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين ، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب . . . )الخ . .

كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء . وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع . وتصور حسن العاقبة ، وتداركه برحمة الله ، تغمره بفيضها ، وتمسح على آلامه بيدها الحانية . . وفي عرضها تأسية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وللمؤمنين ، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة ؛ وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة ، تفيض من خزائن الله عندما يشاء .

وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة ، ويؤلف الشوط الثاني منها .

كذلك تتضمن السورة رداً على استعجالهم بالعذاب ، وقولهم : ( ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) . . فيعرض بها - بعد القصص - مشهد من مشاهد القيامة ، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين . والجحيم التي تنتظر المكذبين . ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء . حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون ، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله ، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء . وبينما المتقون لهم حسن مآب( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب ) . . فإن للطاغين لشر مآب( جهنم يصلونها فبئس المهاد . هذا فليذوقوه حميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج ) . . وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون ، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين : ( وقالوا : ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار . أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ? )فإنهم لا يجدونهم في جهنم . وقد عُرف أنهم هنالك في الجنان ! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء !

وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة .

كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمر الوحي . ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملأ الأعلى . حيث لم يكن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حاضراً ؛ إنما هو إخبار الله له بما كان ، مما لم يشهده - غير آدم - إنسان . . وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس ، وذهب به إلى الطرد واللعنة ، كان هو حسده لآدم - عليه السلام - واستكثاره أن يؤثره الله عليه ويصطفيه . كما أنهم هم يستكثرون على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] أن يصطفيه الله من بينهم بتنزيل الذكر ؛ ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين !

وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها ؛ بقول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهم : إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده ، ولا يطلب عليه أجراً ، وإن له شأناً عظيماً سوف يتجلى : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين . إن هو إلا ذكر للعالمين . ولتعلمن نبأه بعد حين ) . .

هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى ؛ تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين ، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين ، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان : ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب . كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد . وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب . إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ) . .

تعرض على القلب البشري هذه الصفحة . صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين . ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين ، في قصص داود وسليمان وأيوب .

هذا وذلك في واقع الأرض . . ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان . وصور الجحيم والغضب . حيث يرى لوناً آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء . بعدما لقياه في دار الفناء . .

والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول ، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار . وهم غافلون .

كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض . وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض . فهذا من ذلك : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ) . . وهي لفتة لها في القرآن نظائر . وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة . .

والآن نأخذ في التفصيل . .

( ص . والقرآن ذي الذكر . بل الذين كفروا في عزة وشقاق . كم أهلكنا من قبلهم من قرن ، فنادوا ولات حين مناص ) . .

هذا الحرف . . ( صاد )يقسم به الله سبحانه كما يقسم بالقرآن ذي الذكر . وهذا الحرف من صنعة الله تعالى . فهو موجده . موجده صوتاً في حناجر البشر ؛ وموجده حرفاً من حروف الهجاء التي يتألف من جنسها التعبير القرآني . وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله . وهو متضمن صنعة اللهالتي لا يملك البشر الإتيان بمثلها لا في القرآن ولا في غير القرآن . وهذا الصوت . . ( صاد ) . . الذي تخرجه حنجرة الإنسان ، إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع ، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات . وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات ! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية من جزئيات كيانهم القريب ! ولو عقلوها ما دهشوا لوحي يوحيه الله لبشر يختاره منهم . فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات !

صاد . والقرآن ذي الذكر . .

والقرآن يشتمل الذكر كما يشتمل غيره من التشريع والقصص والتهذيب . . ولكن الذكر والاتجاه إلى الله هو الأول . وهو الحقيقة الأولى في هذا القرآن . بل إن التشريع والقصص وغيرهما إن هي إلا بعض هذا الذكر . فكلها تذكر بالله وتوجه القلب إليه في هذا القرآن . وقد يكون معنى ذي الذكر . أي المذكور المشهور . وهو وصف أصيل للقرآن :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية .

بسم الله الرحمن الرحيم

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة " البقرة " بما أغنى عن إعادته هاهنا .

وقوله : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي : والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد .

قال الضحاك في قوله : { ذِي الذِّكْرِ } كقوله : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ] الأنبياء : 10 [ أي : تذكيركم . وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير .

وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد ، وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي { ذِي الذِّكْرِ } ذي الشرف أي : ذي الشأن والمكانة .

ولا منافاة بين القولين ، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار .

واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم : هو قوله : { إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } ] ص : 14[ . وقيل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ] ص : 64 ، حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير ، وضعفه ابن جرير .

وقال قتادة : جوابه : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } واختاره ابن جرير .

وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها ، والله أعلم .

ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال : جوابه " ص " بمعنى : صدق حق والقرآن ذي الذكر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ( ص ) مكية وآياتها ثمان وثمانون . هذه السورة كلها مكية بإجماع من المفسرين .

قرأ الحسن وأبي بن كعب وابن أبي إسحاق : «صادِ » بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل ، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح ، والمعنى : ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك ، وهكذا فسر الحسن ، أي انظر أين عملك منه ؟ ، وقال جمهور الناس : إنه حرف المعجم المعروف ، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال ، ويختص هذا الموضع بأن قال بعض الناس : معناه صدق محمد ، وقال الضحاك معناه : صدق الله ، وقال محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله : صمد صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، وقرأها الجمهور : «صادْ » بسكون الدال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه «صادٍ » بكسر الدال وتنوينها على القسم ، كما تقول : الله لأفعلن . وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق : «صادِ » بدون تنوين ، وألحقه بقول العرب : خاث باث ، وخار وباز . وقرأ فرقة منها عيسى بن عمر : «صادَ » بفتح الدال ، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف ، يقول : قافَ ، ونونَ ، ويجعلها كأين وليت : قال الثعلبي ، وقيل معناه : صاد محمد القلوب ، بأن استمالها للإيمان .

وقوله : { والقرآن ذي الذكر } قسم . وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير ، معناه ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة والضحاك : ذي التذكرة للناس والهداية لهم . وقالت فرقة معناه : ذي الذكر لأمم والقصص والغيوب . وأما جواب القسم فاختلف فيه ، فقالت فرقة : الجواب في قوله : { ص } إذ هو بمعنى صدق محمد ، أو صدق الله . وقال الكوفيون والزجاج ، الجواب قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] . وقال البصريين ومنهم الأخفش ، الجواب في قوله : { إن كل كذب الرسل } [ ص : 14 ] .

قال القضي أبو محمد : وهذان القولان بعيدان .

وقال قتادة والطبري : الجواب مقدر قبل بل ، وهذا هو الصحيح ، تقديره : والقرآن ما الأمر كما يزعمون ، ونحو هذا من التقدير فتدبره .

وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله : { كم أهلكنا } وهذا متكلف جداً .