في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

ولأن المحاولة ضخمة . . وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية : تصوراتها وأفكارها ، وقيمها وأخلاقها ، وعاداتها وتقاليدها ، ونظمها ، وأوضاعها ، واجتماعها واقتصادها ، وروابطها بالله ، وبالكون ، وبالناس . .

لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو ؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً ؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً ؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية ، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً . . وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا ، ومصائرهم كذلك في الآخرة :

( كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . . فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) . .

إن مصارع الغابرين خير مذكر ، وخير منذر . . والقرآن يستصحب هذه الحقائق ، فيجعلها مؤثرات موحية ، ومطارق موقظة ، للقلوب البشرية الغافلة .

إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها . أهلكت وهي غارة غافلة . في الليل وفي ساعة القيلولة ، حيث يسترخي الناس للنوم ، ويستسلمون للأمن :

( وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) .

وكلتاهما . . البيات والقيلولة . . ساعة غرّة واسترخاء وأمان ! والأخذ فيهما أشد ترويعاً وأعنف وقعا . وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط !

/خ25

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

يقول تعالى : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : بمخالفة رسلنا وتكذيبهم ، فأعقبهم ذلك خِزْيُ الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة ، كما قال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] . وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ{[11546]} مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [ الحج : 45 ] .

وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ] .

وقوله : { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي : فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته { بَيَاتًا } أي : ليلا { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } من القيلولة ، وهي : الاستراحة وسط النهار . وكلا الوقتين وقت غَفْلة ولَهْو{[11547]} كما قال [ تعالى ]{[11548]} { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 97 ، 98 ] . وقال : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِين أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 45 - 47 ] .


[11546]:في أ: "وكأين".
[11547]:في ك: "لهو وغفلة".
[11548]:زيادة من أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

{ كم } في موضع رفع بالابتداء والخبر { أهلكناها } ، ويصح أن يكون الخبر في قوله { فجاءها } و { أهلكناها } صفة ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها ، وقدر الفعل بعدها - وهي خبرية - تشبيهاً لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام . وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية ، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم ، وقد بين في آخر الآية بقوله { أوهم } أن البشر داخلون في الهلاك ، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعاً ، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية ، والمراد بالآية التكثير ، وقرأ ابن أبي عبلة : «وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا » . وقوله { فجاءها } يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك ، ، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك ، قال مكي في المشكل : مثل قوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول ، وقيل المعنى «أهلكناها » بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك ، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة ، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس .

و { بياناً } نصب على المصدر في موضع الحال ، و { قائلون } من القائلة ، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة ، و { أو } في هذا الموضع كما تقول : الناس في فلان صنفان حامد أو ذام ، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين ، وهذا هو الذي يسمى اللف ، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة ، والبأس : العذاب ، وقيل : المراد : أو وهم قائلون ، فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق .