في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا} (68)

63

وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله ، ويتحرجون من قتل النفس ، ومن الزنا . تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب :

( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنون . ومن يفعل ذلك يلق أثاما . يضاعف له العذاب يوم القيامة ، ويخلد فيه مهانا . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفورا رحيما . ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) .

وتوحيد الله أساس هذه العقيدة ، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد ؛ والغموض والالتواء والتعقيد ، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة .

والتحرج من قتل النفس - إلا بالحق - مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن ؛ وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء .

والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم ، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار .

ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ؛ والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان . . من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن . أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله . وعقب عليها بالتهديد الشديد : ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما )أي عذابا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا} (68)

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : الذنب أكبر ؟ قال : " أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك " . قال : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعم معك " . قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " . قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } .

وهكذا رواه النسائي عن هَنَّاد بن السري ، عن أبي معاوية ، به{[21603]} .

وقد أخرجه البخاري ومسلم ، من حديث الأعمش ومنصور - زاد البخاري : وواصل - ثلاثتهم عن أبي وائل ، شقيق بن سلمة ، عن أبي مَيْسَرة عمرو بن شرحبيل ، عن ابن مسعود ، به{[21604]} ، فالله أعلم ، ولفظهما عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ الحديث .

طريق غريب : وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا عامر بن مُدْرِك ، حدثنا السري - يعني ابن إسماعيل - حدثنا الشعبي ، عن مسروق قال : قال عبد الله : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته ، فجلس على نَشَز من الأرض ، وقعدت أسفل منه ، ووجهي حيال ركبتيه ، واغتنمت{[21605]} خلوته وقلت{[21606]} : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أي الذنوب{[21607]} أكبر ؟ قال : " أن تدعو لله ندًا وهو خلقك " . قلت : ثم مه ؟{[21608]} قال : " أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك " . قلت : ثم مه ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " . ثم قرأ : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } . [ إلى آخر ]{[21609]} الآية{[21610]} . وقال النسائي : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن هلال بن يَسَاف ، عن سلمة بن قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " ألا إنما هي أربع - فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم - : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا " {[21611]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن المديني ، رحمه الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان ، حدثنا محمد بن سعد{[21612]} الأنصاري ، سمعت أبا طيبة الكَلاعي ، سمعت المقداد بن الأسود ، رضي الله عنه ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ما تقولون في الزنى " ؟ قالوا : حَرّمه الله ورسوله ، فهو حَرَام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره " . قال : " ما تقولون في السرقة " ؟ قالوا : حرمها الله ورسوله ، فهي حرام . قال : " لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره " {[21613]} .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بَقيَّة ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نُطفة وضعها رجل في رَحِم لا يحل له " {[21614]} .

وقال ابن جُرَيج : أخبرني يعلى ، عن سعيد بن جبير أنه سمعه يحدث{[21615]} عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزَنَوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا{[21616]} كفارة ، فنزلت : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } ، ونزلت : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] } {[21617]} [ الزمر : 53 ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن أبي فَاخِتة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : " إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق ، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك ، وينهاك أن تزني بحليلة جارك " . قال سفيان : وهو قوله : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } {[21618]} .

وقوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } . روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : { أَثَامًا } واد في جهنم .

وقال عكرمة : { يَلْقَ أَثَامًا } أودية في جهنم يعذب فيها الزناة . وكذا رُوي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد .

وقال قتادة : { يَلْقَ أَثَامًا } نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم .

وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول : يا بني ، إياك والزنى ، فإن أوله مخافة ، وآخره ندامة .

وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره ، عن أبي أمامة الباهلي - موقوفا ومرفوعا - أن " غيا " و " أثاما " بئران في قعر جهنم{[21619]} أجارنا الله منها بمنه وكرمه .

وقال السدي : { يَلْقَ أَثَامًا } : جزاء .

وهذا أشبه بظاهر الآية ؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلا منه ، وهو قوله : { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }


[21603]:- المسند (1/380) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11368).
[21604]:- صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).
[21605]:- في ف : "فاغتنمت".
[21606]:- في أ : "فقلت".
[21607]:- في أ : "الذنب".
[21608]:- في أ : "أي".
[21609]:- زيادة من أ.
[21610]:- صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).
[21611]:- النسائي في السنن الكبرى رقم (11373).
[21612]:- في ف ، أ : "سعيد".
[21613]:- المسند (6/8) وقال الهيثمي في المجمع (8/168) "رجاله ثقات".
[21614]:- الورع لابن أبي الدنيا برقم (137) "وهو مرسل ، وفي إسناده بقية وهو مدلس وابن أبي مريم ضعيف" أ.هـ مستفادا من كلام المحقق الفاضل محمد الحمود.
[21615]:- في أ : "يحدثه".
[21616]:- في أ : "أن لنا إن عملنا".
[21617]:- زيادة من ف ، أ.
[21618]:- ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/277) وعزاه لابن أبي حاتم. ووقع فيه : "عن أبي قتادة" فإن كان كذلك فهو موصول ، وإن كان كما هو مثبت هنا فهو مرسل ، ولم يتبين لي الصواب منهما ، والله أعلم.
[21619]:- تفسير الطبري (19/29).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا} (68)

{ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله } أي حرمها بمعنى حرم قتلها . { إلا بالحق } متعلق بالقتل المحذوف ، أو بلا يقتلون { ولا يزنون } نفى عنهم أمهات المعاصي بعدما أثبت لهم أصول الطاعات إظهارا لكمال إيمانهم وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك ، وتعريضا للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم فقال : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } جزاء إثم أو إثما بإضمار الجزاء ، وقرئ " أياما " أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا} (68)

هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمان ، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين ؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم ، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا ، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين .

ووَصْفُ النفس ب { التي حرم الله } بيانٌ لحُرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولدَيْ آدم بقوله { قال لأقتلنّك } [ المائدة : 27 ] الآيات ، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم ، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله { التي حرم الله } . وكان قتل النفس متفشياً في العرب بالعداوات ، والغارات ، وبالوأْد في كثير من القبائل بناتهم ، وبالقتل لفرط الغَيرة ، كما قال امرؤ القيس :

تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليَّ حراصاً لو يُسِرُّون مقتلي

وقال عنترة :

عُلّقْتُها عَرضاً وأقتُلُ قومها *** زعماً لعمرُ أبيك ليس بمزعم

وقوله { إلا بالحق } المراد به يومئذ : قتل قاتل أحدهم ، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة . ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود . ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان .

وقد جُمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم ، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يَدْعُوا مع الله إلهاً آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقاً بالشرك وذلك قتل النفس والزِنا . فجعل ذلك شَبيهَ خصلةٍ واحدة ، وجُعل في صلة موصول واحد .

وقد يكون تكرير { لا } مجزئاً عن إعادة اسم الموصول وكافياً في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب ، ويؤيدّه ما في « صحيح مسلم » من حديث عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر ؟ قال : " أن تدعوَ لله نِدًّا وهو خَلَقَك . قلتُ : ثم أيُّ ؟ قال : أن تقتل ولدك خِيفةَ أن يطْعَم معَك . قلت : ثم أيّ : قال : أن تُزانيَ حليلةَ جارك " فأنزل الله تعالى تصديقها { والذين لا يدعون مع الله إلها آخراً } إلى { أثاماً } ، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية .

وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله { غفوراً رحيماً } [ الفرقان : 68 70 ] قيل نزلت بالمدينة .

والإشارة ب { ذلك } إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور ، كما تقدم في نظيره آنفاً . والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع ، أي من يفعل مجموع الثلاث . ويُعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضاً عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها ، وأنَّ البعض أيضاً مراتب ، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلقَ آثاماً لأن لُقِيَّ الآثام بُيّن هنا بمضاعفة العذاب والخلودِ فيه .

وقد نهضتْ أدلةٌ متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود ، مما يقتضي تأويلَ ظواهر الآية .

ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته ، أي يعذب عذاباً شديداً وليست لتكرير عذاب مقدر .

والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوَبال والنَكال ، وهو أشد من الإثم ، أي يجازى على ذلك سُوءاً لأنها آثام .