ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية :
ولقد ذرانا لجهنم كثيراً من الجن والإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام ، بل هم أضل . . أولئك هم الغافلون . .
إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم ! وهم مهيأون لها ! فما بالهم كذلك ؟
الاعتبار الأول : أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم . . وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم . فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث .
والاعتبار الثاني : أن هذا العلم الأزلي - الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث - ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم . إنما هم كما تنص الآية :
( لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ) . .
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا - ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة - وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية . ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة . لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها . . لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون :
( أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون ) . .
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة ؛ والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله . . أولئك كالأنعام بل هم أضل . . فللأنعام استعدادات فطرية تهديها . أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة . فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا . إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ؛ ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها ؛ ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها . . فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية . . ثم هم يكونون من ذرء جهنم ! يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك ، وجعل قانون جزائهم هذا . فكانوا - كما هم في علم الله القديم - حصب جهنم منذ كانوا !
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا وجعلنا { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } أي : هيأناهم لها ، وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق ، علم ما هم عاملون قبل كونهم ، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[12404]}
وفي صحيح مسلم أيضا ، من حديث عائشة بنت طلحة ، عن خالتها عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، أنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه . فقال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[12405]} أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار ، وخلق لها{[12406]} أهلا وهم في أصلاب آبائهم " {[12407]}
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [ رضي الله عنه ]{[12408]} ثم يبعث إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم{[12409]} سعيد " .
وتقدم أن الله [ تعالى ]{[12410]} لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، قال : " هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي " .
والأحاديث في هذا كثيرة ، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها .
وقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } يعني : ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [ سببا للهداية ]{[12411]} كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ]{[12412]} } [ الأحقاف : 26 ] وقال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] هذا في حق المنافقين ، وقال في حق الكافرين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وقال { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 ، 37 ] .
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ } أي : هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى ، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع{[12413]} بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ]{[12414]} } [ البقرة : 171 ] أي : ومثلهم - في حال دعائهم إلى الإيمان - كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه{[12415]} ما يقول ؛ ولهذا قال في هؤلاء : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : من الدواب ؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها ، وإن لم تفقه كلامه ، بخلاف هؤلاء ؛ ولأن الدواب تفقه{[12416]} ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها ، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده ، فكفر بالله وأشرك به ؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ، ومن كفر به{[12417]} من البشر ، كانت الدواب أتم منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
{ ولقد ذرأنا } خلقنا . { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى . { لهم قلوب لا يفقهون بها } إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله . { ولهم أعين لا يبصرون بها } أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار . { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر . { أولئك كالأنعام } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . { بل هم أضلّ } فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار . { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.