في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ} (18)

ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله . فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس ؛ والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير . ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل :

( ولا تصعر خدك للناس ، ولا تمش في الأرض مرحا . إن الله لا يحب كل مختال فخور . واقصد في مشيك ، واغضض من صوتك . إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . .

والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها . والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر . حركة الكبر والازورار ، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار !

والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالاة بالناس . وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق . وهي تعبير عن شعور مريض بالذات ، يتنفس في مشية الخيلاء ! ( إن الله لا يحب كل مختال فخور ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ} (18)

وقوله : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } يقول : لا تُعرِضْ بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقارًا منك لهم ، واستكبارًا عليهم ولكن ألِنْ جانبك ، وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث : " ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه مُنْبَسِط ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المِخيلَة ، والمخيلة لا يحبها الله " .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } يقول : لا تتكبر فتحقِرَ{[22964]} عبادَ الله ، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك . وكذا روى العوفي وعكرمة عنه .

وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } : لا تكَلَّم وأنت معرض . وكذا رُوي عن مجاهد ، وعِكْرِمة ، ويزيد بن الأصم ، وأبي الجوزاء ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وابن يزيد ، وغيرهم .

وقال إبراهيم النَّخعِي : يعني بذلك : التشديق في الكلام .

والصواب القول الأول .

قال ابن جرير : وأصل الصَّعَر : داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها ، حتى تُلفَتَ{[22965]} أعناقُها عن رؤوسها ، فشبه به الرجل المتكبر ، ومنه قول عمرو بن حُني التَّغْلبي :

وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعّر خَدّه *** أقَمْنَا لَه مِنْ مَيْلِه فَتَقَوّمَا{[22966]}

وقال أبو طالب في شعره :

وَكُنَّا قَديمًا لا نقرُّ ظُلامَة *** إذا ما ثَنوا صُعْر الرؤوس نُقِيمها {[22967]}

وقوله : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا } أي : جذلا متكبرًا جبارًا عنيدًا ، لا تفعل ذلك يبغضك الله ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : مختال معجب في نفسه ، فخور : أي على غيره ، وقال تعالى : {[22968]} { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37 ] ، وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عيسى ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى{[22969]} عن ثابت بن قيس بن شَمَّاس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه ، فقال : " إن الله لا يحب كل مختال فخو " . فقال رجل من القوم : والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها ، ويعجبني شِراك نعلي ، وعِلاقة سَوْطي ، فقال : " ليس ذلك الكبر ، إنما الكبر أن تَسْفه الحق وتَغْمِط{[22970]} الناس " {[22971]} .

ورواه من طريق أخرى بمثله ، وفيه قصة طويلة ، ومقتل ثابت ووصيته بعد موته{[22972]} .

/خ19


[22964]:- في ت، أ: "فتحتقر".
[22965]:- في ت: "تلتفت" وفي أ: "بلغت".
[22966]:- البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/127).
[22967]:- البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/269).
[22968]:- في أ: "وقد قال الله تعالى"
[22969]:- في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
[22970]:- في ت، ف: "تغمص".
[22971]:- المعجم الكبير (2/69) وفيه انقطاع بين ابن أبي ليلى وثابت.
[22972]:- المعجم الكبير (2/70) من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عطاء، عن بنت ثابت بقصة أبيها، وقال الهيثمي في المجمع (9/322): "وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ} (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .

اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلا تُصَعّرْ فقرأه بعض قراء الكوفة والمدنيين والكوفيين : ولا تصعر على مثال تفعل . وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة : «وَلا تُصَاعِرْ » على مثال تفاعل .

والصواب من القول في ذلك أن يقال إنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وتأويل الكلام : ولا تعرض بوجهك عمن كلمته تكبرا واستحقارا لمن تكلمه وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها ، فيشبه به الرجل المتكبر على الناس ، ومنه قول عمرو بن حُنَيَ الثّعلبِيّ :

وكُنّا إذَا الجَبّارُ صَعّرَ خَدّهُ *** أقَمْنا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوّما

واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاس يقول : ولا تتكبر فتحقر عباد الله ، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاسِ يقول : لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تُصَعّرْ قال : الصدود والإعراض بالوجه عن الناس .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد في هذه الاَية وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاسِ قال : إذا كلمك الإنسان لويت وجهك ، وأعرضت عنه محقرة له .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان الرقي ، عن جعفر بن ميمون بن مهران ، قال : هو الرجل يكلم الرجل فيلوي وجهه .

حدثنا عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا أبو مكين ، عن عكرمة ، في قوله وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاسِ قال : لا تُعْرض بوجهك .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاس يقول : لا تعرض عن الناس ، يقول : أقبل على الناس بوجهك وحسن خلقك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاسِ قال : تصعير الخدّ : التجبر والتكبر على الناس ومحقرتهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، قال : الإعراض .

وقال آخرون : إنما نهاه عن ذلك أن يفعله لمن بينه وبينه صعر ، لا على وجه التكبر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاسِ قال : الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة ، فيراه فيعرض عنه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاس قال : هو الرجل بينه وبين أخيه حنة فيعرض عنه .

وقال آخرون : هو التشديق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن جعفر الرازي ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو التشديق .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو التشديق أو التشدّق «الطبري يشكّ » .

حدثنا يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم بمثله .

وقوله وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا يقول : ولا تمش في الأرض مختالاً . كما :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، يقول فِي قوله وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا يقول : بالخيلاء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ للنّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ كُلّ مُخْتالٍ فَخُورٍ قال : نهاه عن التكبر .

وقوله إنّ اللّهَ لا يُحِبّ كُلّ مُخْتالٍ متكبر ذي فخر . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كُلّ مُخْتالٍ فَخُورٍ قال : متكبر . وقوله : فخور : قال : يعدّد ما أعطى الله ، وهو لا يشكر الله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ} (18)

انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم ، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعدّ نفسه كواحد منهم .

وقرأ الجمهور { ولا تُصاعر } . وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب { ولا تصعِّر } . يقال : صَاعَر وصَعَّر ، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر ، وهو مشتق من الصَعَر بالتحريك لِداء يصيبُ البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعَر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال . قال عمرو بن حُنَي التغلبي يخاطب بعض ملوكهم :

وَكُنّا إذا الجبَّار صَعَّر خدَّه *** أقمنا له من ميله فتقَوَّمِ

والمعنى : لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقاراً لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى { فلا تقل لهما أُفَ } [ الإسراء : 23 ] إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها .

وكذلك قوله { ولا تمش في الأرض مرحاً } تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره .

والمَرح : فرْط النشاط من فَرح وازدهاء ، ويظهر ذلك في المشي تبختراً واختيالاً فلذلك يسمى ذلك المشي مَرَحاً كما في الآية ، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق ، أي مَشياً مرحاً ، وتقدم في سورة الإسراء ( 37 ) وموقع قوله { في الأرض } بعد { لا تمش } مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويّهم وضعيفهم ، ففي ذلك موعظة للماشي مرحاً أنه مساو لسائر الناس .

وموقع { إن الله لا يحب كل مختال فخور } موقع { إن الله لطيف خبير } [ لقمان : 16 ] كما تقدم . والمختال : اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فِعل خَال إذا كان ذا خُيلاء ، فهو خائل . والخُيلاء : الكبر والازدهاء ، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً ، فقوله { إن الله لا يحب كل مختال } مقابل قوله { ولا تصاعر خدك للناس } ، وقوله { فخور } مقابل قوله { ولا تَمش في الأرض مرحاً } .

والفَخور : شديد الفخر . وتقدم في قوله { إن الله لا يحب من كان مختالاً فَخوراً } في سورة النساء ( 36 ) .

ومعنى { إن الله لا يحب كل مختال فخور } أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين ، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفاده أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن { كُل } إذا وقع في حيز النفي مؤخراً عن أداته ينصبّ النفي على الشمول ، فإن ذلك إنما هو في { كل } التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في { كل } التي يراد منها الأفراد ، والتعويل في ذلك على القرائن . على أنّا نرى ما ذكره الشيخ أمرٌ أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ ( كل ) في قول أبي النجم العِجلي :

قد أصبحتْ أُمّ الخيار تدّعي *** عليَّ ذنباً كلَّه لم أصنع

وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز .

وموقع جملة { إن الله لا يحب كل مختال فخور } يجوز فيه ما مضى في جملة { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وجملة { إن الله لطيف خبير } [ لقمان : 16 ] ، وجملة { إن ذلك من عزم الأمور } [ لقمان : 17 ] .