{ وقالت اليهود : عزير ابن الله ؛ وقالت النصارى : المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل . قاتلهم الله ! أنى يؤفكون ؟ } . .
لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . . كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة - تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها - تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته ؛ وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه ؛ وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه . وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام . والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام ؛ وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة ؛ ولهم أعوان من القبائل العربية ، وسلطنة خاضعة لنفوذهم هي سلطنة الغساسنة . . وحقيقة أن هذه لم تكن أول ملحمة يخوضها المسلمون مع الروم ، بعد أن أعز الله أولئك العرب بالإسلام ، وجعل منهم أمة تواجه الروم والفرس بعد أن كانوا قبائل لا تجرؤ ولا تفكر في الالتحام بالروم والفرس ؛ وكل ما عرف عنها من شجاعة إنما يتبدى في قتال بعضها لبعض ، وفي الغارات والثارات والنهب والسلب ! ولكن مهابة الروم كانت ما تزال باقية في أعماق النفوس - وبخاصة تلك التي لم يتم انطباعها بالطابع الإسلامي الأصيل - وكانت آخر ملحمة كبيرة بين المسلمين والروم - وهي غزوة مؤتة - ليست في صالح المسلمين . وقد احتشد فيها من الروم وعملائهم من نصارى العرب ما روي أنه مائتا ألف !
كل هذه الملابسات - سواء ما يتعلق منها بتركيب المجتمع المسلم في هذه الفترة ؛ أو ما يختص برواسب المهابة للروم والتخوف من الالتحام معهم ؛ مضافاً إليها ظروف الغزوة ذاتها - وقد سميت غزوة العسرة لما سنبينه من الظروف التي أحاطت بها - وفوق ذلك كله شبهة أن الروم وعمالهم من نصارى العرب هم أهل كتاب . . كل هذه الملابسات دعت إلى زيادة الإيضاحات والبيانات القوية لتقرير حتمية هذا الأمر ، وإزلة الشبهات والمعوقات النفسية ، وجلاء الأسباب والعوامل لتلك الحتمية . .
وفي هذه الآية يبين السياق القرآني ضلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء ؛ وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب ، والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم . وأنهم لم يستقيموا على العقيدة الصحيحة التي جاءتهم بها كتبهم ؛ فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب ، وهم يخالفون في الاعتقاد الأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم . والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم : عزير ابن الله ؛ في حين أن الآيات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب .
وذلك - على ما نرجح - يرجع إلى أمرين :
الأول : أنه لما كان نص الآيات عاماً ؛ والأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون عاما ؛ فقد اقتضى السياق بيان الأصل الاعتقادي الذي يستند إليه هذا الأمر العام في شأن أهل الكتاب عامة من اليهود والنصارى سواء .
الثاني : أن اليهود كانوا قد رحلوا من المدينة إلى أطراف الشام ؛ بعدما اشتبكوا مع الإسلام والمسلمين في حرب مريرة منذ مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ؛ انتهت بإجلاء بني قينقاع وبني النضير إلى أطراف الشام ؛ هم وأفراد من بني قريظة . فكان اليهود يومئذ في طريق الانطلاق الإسلامي إلى أطراف الشام . مما اقتضى أن يشملهم ذلك الأمر ، وأن يشملهم هذا البيان .
وقول النصارى : { المسيح ابن الله } معلوم مشهور ؛ وما تزال عليه عقائدهم حتى اللحظة منذ أن حرفها بولس ، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة - كما سنبين - فأما قول اليهود : { عزير ابن الله } فليس شائعاً ولا معروفاً اليوم . والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم " عزرا " - وهو عزير - نعت فيه بأنه كاتب ماهر في توارة موسى ، وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الرب . . ولكن حكاية هذا القول عن اليهود في القرآن دليل قاطع على أن بعضهم على الأقل - وبخاصة يهود المدينة - زعموا هذا الزعم ، وراج بينهم ؛ وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية ؛ ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق !
وقد أورد المرحوم الشيخ رشيد رضا في الجزء العاشر من تفسير المنار ( ص 378 - ص 385 ) خلاصة مفيدة عن مكانة عزرا عند اليهود وعلق عليها كذلك تعليقاً مفيداً ننقل منه هنا فقرات تفيدنا في بيان حقيقة ما عليه اليهود إجمالاً . قال :
" جاء في دائرة المعارف اليهودية ( طبعة 1903 ) أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده . وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة ( وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة ) لو لم يكن جاء بها موسى ( التلمود 21ب ) فقد كانت نسيت . ولكن عزرا أعادها أو أحياها . ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات ( المعجزات ) كما رأوها في عهد موسى . . اه . . وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية - وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها - وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده .
وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس : عزرا ( عون ) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة " ارتحشثتا " الطويل الباع ؛ وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عدداً وافراً من الشعب إلى أورشليم سنة 457 ق .
م ( عزرا ص 7 ) وكانت مدة السفر أربعة أشهر .
" ثم قال : وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعاً يقابل بموضع موسى وإيليا ؛ ويقولون إنه أسس المجمع الكبير ، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس ، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة ، وأنه ألف أسفار " الأيام " و " عزرا " و " نحميا " .
" ثم قال : ولغة سفر " عزرا " من ص 4 : 8 - 6 : 19 كلدانية ، وكذلك ص 7 : 1 - 27 ، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية . ا ه .
" وأقول : إن المشهور عند مؤرخي الأمم ، حتى أهل الكتاب منهم ، أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه ، قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام . فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر ، كما تراه في سفر الملوك الأول . وأن ( عزرا ) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها . ويقول أهل الكتاب : إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله . . وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم ، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن ، حتى من تآليفهم ، كذخيرة الألباب للكاثوليك - وأصله فرنسي - وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى . ومنها قوله :
" جاء في سفر عزرا ( 4 ف 14 عدد 21 ) أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد " نبوخذ نصر " حيث قال : " إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت ! " ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار ، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون ، ولذلك ترى " ثرثوليانوس " والقديس " إيريناوس " والقديس " إيرونيموس " والقديس " يوحنا الذهبي " والقديس " باسيليوس " وغيرهم يدعون عزرا : مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود . . اه . .
. . . " نكتفي بهذا البيان هنا ولنا فيه غرضان : ( أحدهما ) : أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم . ( وثانيهما ) : أن هذا المستند واهي النسيان متداعي الأركان ، وهذا هو الذي حققه علماء أوربة الأحرار . فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة : أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط ، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت قد أتلفت ، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية ( أبو كريف ) ثم قال كاتب الترجمة فيها : وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها مَن كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر ، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقاً .
. . ( انظر ص 14 ج 9 من الطبعة الرابعة عشرة سنة 1929 ) .
" وجملة القول : أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب " ابن الله " . ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما ، أم بالمعنى الذي سيأتي قريباً عن فيلسوفهم ( فيلو ) وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى . وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم . .
. . . " وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة ، كالذين قال الله فيهم :
{ وقالت اليهود : يد الله مغلولة ، غلت أيديهم } الآية . . والذين قال فيهم :
{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء } رداً على قوله تعالى :
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً }
ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا . .
" روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس ( رضي ) قال : أتى رسول الله ( ص ) سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وأبو أنس وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله ؟ ! . . . الخ .
" ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا : إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود . وقد كان ( فيلو ) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول : إن لله ابناً هو كلمته التي خلق بها الأشياء . فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا : إن عزيراً ابن الله بهذا المعنى " . .
ومن هذا البيان يتضح ما وراء حكاية القرآن لقول اليهود هذا - في هذه المناسبة التي يتوخاها السياق - فهي تقرير حقيقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من فساد الاعتقاد ، الذي لا يتفق معه أن يكونوا مؤمنين بالله ، أو أن يكونوا يدينون دين الحق . وهذه هي الصفة الأساسية التي قام عليها حكم القتال . وإن يكن القصد من القتال ليس هو إكراههم على الإسلام ؛ وإنما هو كسر شوكتهم التي يقفون بها في وجه الإسلام ؛ واستسلامهم لسلطانه ليتحرر الأفراد - في ظل هذا الاستسلام - من التأثر بالضغوط التي تقيد إرادتهم في اختيار دين الحق من غير إكراه من هنا أو من هناك .
أما قول النصارى " المسيح ابن الله " وأنه ثالث ثلاثة فهو - كما قلنا - شائع مشهور ، وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات ؛ ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة ، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائياً !
وسنكتفي مرة أخرى بنقل ملخص جيد في عقائد النصارى عن تفسير المنار للأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا - جاء فيه بعنوان : " ثالوث : Trinite - y "
" كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس ، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر ، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس ، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحاً وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام . وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث ، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة ، وصفاتهم المميزة وألقابهم . ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث ، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت ؛ ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد . وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم ( أحدهما ) الآيات التي ذكر فيها الأب والابن والروح القدس معاً ( والآخر ) التي ذكر فيها كل منهم على حدة والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر .
" والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي . وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف إنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة " ترياس " باليونانية ، ثم كان " ترتليانوس " أول من استعمل كلمة " ترينيتاس " المرادفة لها ومعناها الثالوث ، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق ؛ وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض " والسابيليين " الذين كانوا يعقتدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس " والأريوسيين " الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم ، ولذلك هو دون الأب وخاضع له ، " والمكدونيين " الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما .
" وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد ، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت ، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب ، وأن الروح القدس منبثق من الأب ، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضاً ، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها ، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة .
" وعبارة ( ومن الابن أيضاً ) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية ، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أثبتت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير ، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل ، وقد أطلق " سويد تيراغ " الثالوث على أقنوم المسيح معلماً بثالوث . ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم . وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب ، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن ، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس ، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين .
" وقد ذهب ( كنت ) إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت ، وهي القدرة والحكمة والمحبة ، أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط ، وقد حاول كل من هيجين وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساساً تخيليا وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون ، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية ؛ وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين ، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص " اه .
ومن هذا العرض المجمل المفيد ، يتبين أن جميع الطوائف والمذاهب المسيحية الكنسية لا تدين دين الحق ، الذي يقوم على توحيد الله سبحانه ؛ وعلى أنه ليس كمثله شيء ؛ وأنه لا ينبثق منه - سبحانه - أحد !
وكثيراً ما ذكر " الأريوسيون " على أنهم " موحدون " وإطلاق اللفظ هكذا مضلل فالآريوسيون لا يوحدون التوحيد المفهوم من دين الله الحق ، إنما هم يخلطون ! فبينما هم يقررون أن المسيح ليس أزلياً كالله - وهذا حق - - يقررون في الوقت نفسه أنه ( الابن ) ! وأنه مخلوق من ( الأب ) قبل خلق العالم ! وهذا لا يعتبر من " التوحيد " الحقيقي في شيء !
ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون : المسيح ابن الله .
وعلى من يقولون : المسيح هو الله . وعلى من يقولون : إن الله ثالث ثلاثة . ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة ، ولا في قلب . إنما هما أمران مختلفان !
والتعقيب القرآني على قول اليهود : { عزير ابن الله } . وقول النصارى : { المسيح ابن الله } يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم :
{ ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } . .
فهو أولاً يثبت أن هذا القول صادر منهم ، وليس مقولاً عنهم . ومن ثم يذكر { أفواههم } لاستحضار الصورة الحسية الواقعية - على طريقة القرآن في التصوير - إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم . فهذه الزيادة ليست لغواً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وليست إطناباً زائداً ، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية ؛ فهي التي تستحضر " صورة " القول ، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية ! وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر - إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها - وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع ؛ إنما هو مجرد قول بالأفواه ، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة !
ثم نجيء إلى ناحية أخرى من الإعجاز القرآني الدال على مصدره الرباني . ذلك قول الله سبحانه :
{ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } . .
ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية : إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله ، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله . . وهذا صحيح . . ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى . ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثاً بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق . مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب - وبخاصة النصارى - وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم " بولس الرسول " أولاً ؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً . .
إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية . وأزوريس يمثل ( الأب ) وحوريس يمثل ( الابن ) في هذا الثالوث .
وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة " الكلمة هي الإله الثاني " ويدعى أيضاً " ابن الله البكر " .
والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله : " برهما " في حالة الخلق والتكوين . و " فشنو " في حالة الحفظ والقوامة . و " سيفا " في حالة الإهلاك والإبادة . . وفي هذه العقيدة ، أن " فشنو " هو ( الابن ) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في ( برهما ) !
وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة ، ويسمونها ( مردوخ ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر !
وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم . وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات ، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات .
إشارة إلى التثليث . . وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل !
ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى - التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن - مع هذا النص القرآني : { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } - كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق ، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح - تبين كذلك جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم ، بالدلالة على مصدره ، أنه من لدن عليم خبير . .
وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك ، بقوله تعالى : ( قاتلهم اللّه ! أنى يؤفكون ? ) .
و . . نعم . . قاتلهم اللّه ! كيف يُصرفون عن الحق الواضح البسيط ، إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير ? !
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى ، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة ، والفِرْية على الله تعالى ، فأما اليهود فقالوا في العُزَير : " إنه ابن الله " ، تعالى [ الله ]{[13383]} عن ذلك علوا كبيرا . وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك ، أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل ، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم ، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم ، حتى سقطت جفون عينيه ، فبينا هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة ، وإذ{[13384]} امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وامطعماه ! واكاسياه ! [ فقال لها ويحك ]{[13385]} من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حي لا يموت ! قالت : يا عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به . ثم قيل له : اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه ، وصَلِّ هناك ركعتين ، فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله . فذهب ففعل ما أمر به ، فإذا شيخ فقال له : افتح فمك . ففتح فمه . فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة ، ثلاث مرات ، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، قد جئتكم بالتوراة . فقالوا : يا عُزَير ، ما كنت كَذَّابا . فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما ، وكتب التوراة بإصبعه كلها ، فلما تراجع الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء ، وأخبروا بشأن عزير ، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال ، وقابلوها{[13386]} بها ، فوجدوا ما جاء به صحيحا ، فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله .
وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر ؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم ، { يضاهئون } أي : يشابهون { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبلهم من الأمم ، ضلوا كما ضل هؤلاء ، { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } وقال ابن عباس : لعنهم الله ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؟ أي : كيف يضلون عن الحق ، وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ } .
اختلف أهل التأويل في القائل : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ فقال بعضهم : كان ذلك رجلاً واحدا ، هو فنحاص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص ، وقالوا : هو الذي قال : إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونَحنُ أغْنِياءُ .
وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل في ذلك من قولهم : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ . . . إلى : أنّى يُؤْفَكُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ . وكان التابوت فيهم فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضا ، فاستطلقت بطونهم ، حتى جعل الرجل يمشي كَبِدُه ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير . فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدره من التوراة . فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة ، وردّها إليّ فعلق يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم . ثم إن التابوت نزل بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقوا فدفنوا كتب التوراة في الجبال . وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال لا ينزل إلا يوم عيد ، فجعل الغلام يبكي ويقول : ربّ تركت بني إسرائيل بغير عالم فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه . فنزل مرّة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسياه فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك ويكسوك ويسقيك وينفعك قبل هذا الرجل ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حيّ لم يمت . قالت : يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ولى مدبرا ، فدعته فقالت : يا عزير إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصلّ ركعتين ، فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذه فلما أصبح ، انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين ، فجاءه الشيخ فقال : افتح فمك ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرار . فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة . فقالوا يا عزير ما كنت كذّابا . فعمد فربط على كلّ أصبع له قلما ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلها . فلما رجع العلماء أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خوابٍ مدفونة ، فعارضوها بتوراة عزير فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : «وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » لا ينوّنون «عزيرا » . وقرأه بعض المكيين والكوفيين : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » . قال : هو اسم مجرى وإن كان أعجميا لخفته ، وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : زيد بن عبد الله ، وأوقع الابن موقع الخبر ، ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه إذا كان الابن خبرا : الإجراء والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه . وأما من ترك تنوين «عزير » ، فإنه لما كانت الباء من ابن ساكنة مع التنوين الساكن والتقى ساكنان فحذف الأوّل منهما استثقالاً لتحريكه ، قال الراجز :
لَتَجِدَنّي بالأَمِيرِ بَرّا *** وبالقَناةِ مِدْعَسا مِكَرا
*** إذا غَطَيْفُ السّلَمِيّ فَرّا ***
فحذف النون للساكن الذي استقبلها .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » لأن العرب لا تنوّن الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم ، كقولهم : هذا زيد بن عبد الله ، فأرادوا الخبر عن عُزير بأنه ابن الله ، ولم يريدوا أن يجعلوا الابن له نعتا . والابن في هذا الموضع خبر لعزير ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن عزير أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين . وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني قول اليهود : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ . يقول : نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه ، بل له ما في السموات والأرض ، كلّ له قانتون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : يشبهون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : النصارى يضاهئون قول اليهود .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان .
وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قول أهل الأديان الذين قالوا : اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : «يُضَاهُونَ » بغير همز . وقرأه عاصم : يُضَاهِئُونَ بالهمز ، وهي لغة لثقيف . وهما لغتان ، يقال : ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة وضاهأته عليه مضاهأة ، إذا مالأته عليه وأعنته .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار واللغة الفصحى .
وأما قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس ، ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يقول : لعنهم الله ، وكلّ شيء في القرآن «قتل » فهو لعن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يعني النصارى ، كلمةٌ من كلام العرب .
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون معناه : قتلهم الله ، والعرب تقول : قاتعك الله ، وقاتعها الله بمعنى : قاتلك الله ، قالوا : وقاتعك الله أهون من قاتله الله . وقد ذكروا أنهم يقولون : شاقاه الله ما باقاه ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه . قالوا : ومعنى قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ كقوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ وقُتِلَ أصَحابُ الأُخْدُودِ واحد ، وهو بمعنى التعجب . فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأن فاعلت لا تكاد أن تجيء فعلاً إلا من اثنين ، كقولهم : خاصمت فلانا وقاتلته ، وما أشبه ذلك . وقد زعموا أن قولهم : عافاك الله منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء .
وقوله : أنّى يُؤْفَكُونَ يقول : أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون ، كيف يصدّون عن الحقّ ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا .
قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبداً مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله » بتنوين عزير ، والمعنى أن ابناً على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و { عزير } ونحوه ينصرف عجمياً كان أو عربياً ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله » دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن » خبر عن «عزير » وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين{[5600]} ونحوه قراءة من قرأ { أحد الله الصمد }{[5601]} قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك [ الرجز ]
إذا عطيف السلمي فرا{[5602]}
قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن » وقال بعضهم «ابن » صفة ل «عزير » كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة « ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله .
قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من ابن «لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في » عزير «أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيراً كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى { المسيح ابن الله } أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله .
قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة ، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم { عزير ابن الله } وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها{[5603]} فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حديث بن مخفض : [ الطويل ]
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم*** وآباؤهمْ أبناء صدق فأنجبوا{[5604]}
ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى »{[5605]} أي ملازمة والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى { المسيح ابن الله } كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و { عزير } نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله { بأفواههم } يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال { يكتبون الكتاب بأيديهم }{[5606]} ، وكقوله { ولا طائر يطير بجناحيه }{[5607]} ، والمعنى الثاني في قوله { بأفواهم } أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان{[5608]} غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولاً مجرداً نفس دعوى{[5609]} ، و { يضاهون } قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون » بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء{[5610]} ، وإن كان الضمير في { يضاهون } لليهود والنصارى جميعاً فالإشارة بقوله { الذين كفروا من قبل } هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون { يضاهون } لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الضمير في { يضاهون } للنصارى فقط كانت الإشارة ب { الذين كفروا من قبل } إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله { قاتلهم الله } دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله{[5611]} ، و{ أنى يؤفكون } مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا ، وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة { يؤفكون } معناه يحدون .
قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيراً ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيراً{[5612]} ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعدما تبين لهم ، و «قاتل » في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين .
عطف على جملة { ولا يدينون دين الحق } [ التوبة : 29 ] والتقدير : ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله ، ويقول النصارى منهم : المسيح ابن الله ، تشنيعاً على قائِليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين .
وعزيز : اسم حَبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي ، واسمه في العبرانية ( عِزْرا ) بكسر العين المهملة بن ( سرايا ) من سبط اللاويين ، كان حافظاً للتوراة . وقد تفضّل عليه ( كورش ) ملك فارس فأطلقه من الأسر ، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل ، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه ، وذلك في سنة 451 قبل المسيح ، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حِفْظه ، فكان اليهود يعظّمون عِزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله ، غُلوا منهم في تقديسه ، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة ، وتبعهم كثير من عامّتهم . l وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] .
قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعاً لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به ، وقد ذكر اسم عِزرا في الآية بصيغة التصغير ، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عُرب بصيغة تشبه صيغة التصغير ، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيباً فيه .
قرأ الجمهور { عزيرُ } ممنوعاً من التنوين للعجمة وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب : بالتنوين على اعتباره عربياً بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية ، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من « دلائل الإعجاز » ، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري .
وأمّا قول النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور . وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } في سورة البقرة ( 87 ) . وعند قوله تعالى : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } في سورة آل عمران ( 45 ) .
والإشارة { بذلك } إلى القول المستفاد من { قالت اليهود وقالت النصارى } . والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه ، زيادة في تشنيعه عند المسلمين .
و { بأفواههم } حال من القول ، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع ، وهذا كناية عن كونه كاذباً كقوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } [ الكهف : 5 ] . وفي هذا أيضاً إلزام لهم بهذا القول ، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم .
والمضاهاة : المشابهة ، وإسنادها إلى القائلين : على تقدير مضاف ظاهرٍ من الكلام ، أي يضاهي قولُهم .
و { الذين كفروا من قبل } هم المشركون : من العرب ، ومن اليونان ، وغيرهم ، وكونُهم من قَبل النصارى ظاهر ، وأمّا كونهم من قبلِ اليهود : فلأنّ اعتقاد بنوة عُزير طارىء في اليهود وليس من عقيدة قُدمائهم .
وجملة { قاتلهم الله } دعاء مستعمل في التعجيب ، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع ، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء : أي قتلهم الله قتلاً شديداً . وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب .
وجملة { أنى يؤفكون } مستأنفة . والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل ، حتّى شبه المكان الذي يُصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يُسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان ، ومعنى { يؤفكون } يُصرفون . يقال : أفَكَه يأفِكه إذا صرفه ، قال تعالى : { يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات : 9 ] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق ، وقد تقدّم ذلك غير مرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في القائل:"عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ"؛ فقال بعضهم: كان ذلك رجلاً واحدا هو فنحاص...
وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم...
"وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ "يعني قول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ. يقول: نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه، بل له ما في السموات والأرض، كلّ له قانتون.
... عن ابن عباس، قوله: "يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ" يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان...
وأما قوله: "قاتَلَهُمُ اللّهُ" فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس: لعنهم الله، وكلّ شيء في القرآن «قتل» فهو لعن...
وقوله: "أنّى يُؤْفَكُونَ" يقول: أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون، كيف يصدّون عن الحقّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: (ذلك قولهم بأفواههم) أي ذلك قول قالوه بلا حجة ولا برهان، كانت لهم في ذلك، أو قالوا ذلك بأفواههم على غير شبه اعترضت لهم، فحملتهم على ذلك.
وقوله تعالى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) يحتمل هذا أن قد كان قبل هؤلاء من قد قال مثل قول هؤلاء...
وقوله تعالى: (قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) هذه الكلمة كلمة اللعن، تستعمل عند مناكير القول والفعل من غير حصول المنفعة...
قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ} قيل إنه أراد فرقة من اليهود قالت ذلك؛ والدليل على ذلك أن اليهود قد سمعت ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنكره...
قوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}... وقيل إنهم يضاهئونهم لأن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله...
وقوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بأَفْوَاهِهِمْ} يعني أنه لا يرجع إلى معنى صحيح ولا حقيقة له ولا محصول أكثر من وجوده في أفواههم...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم}، يقولون بألسنتهم من غير علم. قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا.
قوله تعالى: {يضاهئون}... قال ابن عباس رضي الله عنه: يشابهون. والمضاهاة: المشابهة. وقال مجاهد: يواطئون. وقال الحسن: يوافقون.
قوله تعالى: {قول الذين كفروا من قبل}... وقال الحسن: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} [البقرة-188]. وقال القتيبي: يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم. {قاتلهم الله}، قال ابن عباس: لعنهم الله. وقال ابن جريح: أي: قتلهم الله. وقيل: ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب.
قوله تعالى: {أنى يؤفكون}، أي: يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: كل قول يقال بالفم فما معنى قوله: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم}؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. وما لا معنى له مقول بالفم لا غير...
{يضاهون} لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه؛ فانقلب مرفوعاً. والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل: الضمير للنصارى، أي يضاهي قولهم: المسيح ابن الله، قول اليهود: عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم...
{قاتلهم الله} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم. {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق؟.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وظاهر قول النصارى {المسيح ابن الله} أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما، وهذا أشنع في الكفر، قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله... ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم {عزير ابن الله} وقولهم نحن أبناء الله وقوله {قاتلهم الله} دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول و {أنى يؤفكون} مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا..
فقوله تعالى: {أنى يؤفكون} معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، حتى يجعلوا لله ولدا! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق، والله تعالى لا يتعجب من شيء، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما اليهود فقالوا في العُزَير:"إنه ابن الله"، تعالى [الله] عن ذلك علوا كبيرا وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
...وجملة القول: إن اليهود كانوا وما زالوا يقدسون عزيراً هذا، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب ابن الله، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم (فيلو)، وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى. وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم، وهو مبني على القاعدة التي بيناها في تفسير بعض آيات سورة البقرة التي تحكي عنهم أقوالاً وأفعالاً مسندة إليهم في جملتهم، وهي مما صدر عن بعضهم، وهي أن المراد من هذا الأسلوب تقرير أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها العامة، وأن ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء منها يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم، وبينا في تفسير قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] أن من سنن الاجتماع البشري أن المصائب والرزايا التي تحل بالأمم بفشو المفاسد والرذائل فيها لا تختص الذين تلبسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما أن الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامة أيضا.
وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلَّت أيديهم} [المائدة: 64]، والذين قال فيهم {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] ردا على قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً} [البقرة: 245]؟ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله؟ وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلما رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، (وذكر الراوي حكاية إسرائيلية قال في آخرها أن عزيراً صلى ودعا الله أن يرد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فاستجاب له فصار يعلمهم إياه، ثم نزل التابوت عليهم فعرضوا عليه ما علمهم عزير فوجدوه مثله).
فنحن نأخذ بما قاله ابن عباس رواية عمن جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وقالوا ما قالوا فإنه رواية عن شيء وقع في زمنه فأخبر عما رأى وسمع، وأما ما حكاه من سبب قولهم فما هو إلا رواية عن بعضهم كذبوا فيه عليه أو على من حدثه به، والظاهر أنه مما سمعه من كعب الأحبار، إذ روى عنه كثيراً من الإسرائيليات، فقد أخرج أبو الشيخ عن كعب أنه قال: دعا عزير ربه عزَّ وجلَّ أن يلقَّى التوراة كما أنزل على موسى عليه السلام في قلبه. فأنزلها الله تعالى عليه، فبعد ذلك قالوا عزير ابن الله...
{وقالت النصارى المسيح ابن الله} هذا القول كان يقوله القدماء منهم، ويقصدون به معنى مجازياً كالمحبوب والمكرم، ثم سرت إليهم فلسفة الهنود في (كرشنا) وغيرهم من قدماء الوثنيين، ثم اتفقت عليه فرقهم المعروفة في هذه الأزمنة، وعلى أنه حقيقة لا مجاز. وعلى أن (ابن الله) بمعنى (الله) وبمعنى (روح القدس)؛ لأن هؤلاء الثلاثة عندهم واحد حقيقة لا مجازا، هذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بتأثير الفلسفة الرومية ولكن بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون، ويخالفه خلق كثير منهم أعظمهم شأنا الموحدون والعقليون. والكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستينية لا تعتد بنصرانيتهم ولا بدينهم... {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} أي يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم، فقالوا هذا القول أو مثله. قيل: إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله. وقيل: إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم. وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله، وإن كان غير بعيد في نفسه، ولو كانت الآية نصاً فيه لجزمنا به؛ لأن عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه.
والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم.
وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، وقد بينا هذا في تفسير آية 4: 196 التي تقدمت الإشارة إليها آنفا، وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم؛ بل لم تظهر إلا في هذا الزمان، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص.
{قاتلهم الله} هذه الجملة تستعمل في اللسان العربي للتعجب، فهو المراد بها لا ظاهر معناها. قال في مجاز الأساس: وقاتله الله ما أفصحه. اه وحكى النقاش أن أصل«قاتله الله» الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء اه. وفسره بعضهم بالدعاء على أن المراد به اللعنة أو الهلاك. والأول أظهر.
{أنى يؤفكون} تقدم مثل الجملة في الرد على قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة، إذ قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75]، ومثله في سورة الأنعام بعد الاستدلال على الخالق عز وجل: {ذلكم الله فأنى تؤفكون} [الأنعام: 95]، والإفك صرف الشيء عن وجهه، [وبابه من وزن ضرب]، ويقال أفك بالبناء للمفعول بمعنى صرف عقله عن إدراك الحقيقة، ورجل مأفوك العقل، فمادة أفك تستعمل في صرف العقل والنفس عن الحق إلى الباطل ونحوه. والمعنى هنا كيف يصرفون عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق عز وجل، وهو الذي تجزم به العقول، والذي بلغه عن الله تعالى كل رسول، فهو جمع بين المعقول والمنقول، ويقولون هذا القول الذي لا يقبله عقل، ولم يصح به عن أنبياء الله ورسله نقل؟ فأين عزير والمسيح من رب العالمين، الخالق لهذا الكون العظيم، الذي وصل من عجائب سعته إلى علم البشر القليل أن بعض شموسه لا يصل نورها إلى الأرض إلا بعد قطع الملايين من السنين النورية، فهل يليق بعاقل من هذه الدواب التي تعيش على هذه الذرة الصغيرة منه (وهي الأرض) أن يجعل لخالقه كله، ومدبر أمره، ولدا وعائلة من جنسه، وأن يرتقي به الغرور إلى أن يجعل واحدا منهم هو الخالق له، والمدبر لأمره، مع العلم بأنه ولد من امرأة وكان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم الخ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 39]، {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [الأنبياء: 26 29].
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
.. لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.. كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة -تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها- تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته؛ وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه؛ وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه. وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام. والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام؛ وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة؛ ولهم أعوان من القبائل العربية، وسلطنة خاضعة لنفوذهم هي سلطنة الغساسنة.. وحقيقة أن هذه لم تكن أول ملحمة يخوضها المسلمون مع الروم، بعد أن أعز الله أولئك العرب بالإسلام، وجعل منهم أمة تواجه الروم والفرس بعد أن كانوا قبائل لا تجرؤ ولا تفكر في الالتحام بالروم والفرس؛ وكل ما عرف عنها من شجاعة إنما يتبدى في قتال بعضها لبعض، وفي الغارات والثارات والنهب والسلب! ولكن مهابة الروم كانت ما تزال باقية في أعماق النفوس -وبخاصة تلك التي لم يتم انطباعها بالطابع الإسلامي الأصيل- وكانت آخر ملحمة كبيرة بين المسلمين والروم -وهي غزوة مؤتة- ليست في صالح المسلمين. وقد احتشد فيها من الروم وعملائهم من نصارى العرب ما روي أنه مائتا ألف!
كل هذه الملابسات -سواء ما يتعلق منها بتركيب المجتمع المسلم في هذه الفترة؛ أو ما يختص برواسب المهابة للروم والتخوف من الالتحام معهم؛ مضافاً إليها ظروف الغزوة ذاتها- وقد سميت غزوة العسرة لما سنبينه من الظروف التي أحاطت بها -وفوق ذلك كله شبهة أن الروم وعمالهم من نصارى العرب هم أهل كتاب.. كل هذه الملابسات دعت إلى زيادة الإيضاحات والبيانات القوية لتقرير حتمية هذا الأمر، وإزالة الشبهات والمعوقات النفسية، وجلاء الأسباب والعوامل لتلك الحتمية..
وفي هذه الآية يبين السياق القرآني ضلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء؛ وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب، والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم. وأنهم لم يستقيموا على العقيدة الصحيحة التي جاءتهم بها كتبهم؛ فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب، وهم يخالفون في الاعتقاد الأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم. والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم: عزير ابن الله؛ في حين أن الآيات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب.
وذلك- على ما نرجح -يرجع إلى أمرين:
الأول: أنه لما كان نص الآيات عاماً؛ والأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون عاما؛ فقد اقتضى السياق بيان الأصل الاعتقادي الذي يستند إليه هذا الأمر العام في شأن أهل الكتاب عامة من اليهود والنصارى سواء.
الثاني: أن اليهود كانوا قد رحلوا من المدينة إلى أطراف الشام؛ بعدما اشتبكوا مع الإسلام والمسلمين في حرب مريرة منذ مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة؛ انتهت بإجلاء بني قينقاع وبني النضير إلى أطراف الشام؛ هم وأفراد من بني قريظة. فكان اليهود يومئذ في طريق الانطلاق الإسلامي إلى أطراف الشام. مما اقتضى أن يشملهم ذلك الأمر، وأن يشملهم هذا البيان.
وقول النصارى: {المسيح ابن الله} معلوم مشهور؛ وما تزال عليه عقائدهم حتى اللحظة منذ أن حرفها بولس، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة- كما سنبين -فأما قول اليهود: {عزير ابن الله} فليس شائعاً ولا معروفاً اليوم. والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم "عزرا"- وهو عزير -نعت فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى، وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الرب.. ولكن حكاية هذا القول عن اليهود في القرآن دليل قاطع على أن بعضهم على الأقل- وبخاصة يهود المدينة -زعموا هذا الزعم، وراج بينهم؛ وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية؛ ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق!
... ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون: المسيح ابن الله.
وعلى من يقولون: المسيح هو الله. وعلى من يقولون: إن الله ثالث ثلاثة. ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة، ولا في قلب. إنما هما أمران مختلفان!
والتعقيب القرآني على قول اليهود: {عزير ابن الله}. وقول النصارى: {المسيح ابن الله} يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم:
{ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}..
فهو أولاً يثبت أن هذا القول صادر منهم، وليس مقولاً عنهم. ومن ثم يذكر {أفواههم} لاستحضار الصورة الحسية الواقعية- على طريقة القرآن في التصوير -إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم. فهذه الزيادة ليست لغواً- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -وليست إطناباً زائداً، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية؛ فهي التي تستحضر "صورة "القول، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية! وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر- إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها -وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع؛ إنما هو مجرد قول بالأفواه، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي أن ذلك القول قول تردده أفواههم بألسنتهم، ولا يدركون له حقيقة يتصورونها، فهم يرددون: الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وإذا سألتهم عن مميزات كل واحد، وكيف يجتمعون، لم يحيروا جوابا إلا أن يقولوا هذه غيبيات يصدقها العقل الديني، ولا يصدقها العقل والمنطق، ويقولون الآن كما قال بعضهم في القرن الرابع المسيحي: إنها صفات ثلاثة للإله، ولو سألتهم هل المسيح الذي ولدته أمه مريم من غير أب صفة، وليس ذاتا كانت تمشي في الأسواق، وتعظ، وقتله – في زعمهم – الرومان وصلبوه، وجعلتم الصليب، قالوا: إن اللاهوت دخل الناسوت، أو ولد اللاهوت والناسوت، ولم يستطيعوا أن يصورا ما يقولون تصويرا تدركه العقول...