سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون
هذه السورة مدنية ، ولها اسم آخر . اسمها سورة القتال . وهو اسم حقيقي لها . فالقتال هو موضوعها . والقتال هو العنصر البارز فيها . والقتال في صورها وظلالها . والقتال في جرسها وإيقاعها .
القتال موضوعها . فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا ، وتمجيد كذلك للذين آمنوا ، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين ولي للآخرين ، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه . فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - وهو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم . كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) .
وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا ، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم . في صيغة رنانة قوية ، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منا بعد وإما فداء ، حتى تضع الحرب أوزارها ) . .
ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال ، وتشجيع عليه ، وتكريم للإستشهاد فيه ، ووعد من الله بإكرام الشهداء ، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله ، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم . يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم . .
ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين ، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين ، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين : فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? دمر الله عليهم ، وللكافرين أمثالها . ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . . كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ) . .
ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة . فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات ؛ وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار . والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . . كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغير طعمه ، وخمر لذة للشاربين ، وعسل مصفى ، في وفر وفيض . . في صورة أنهار جارية . . ذلك مع شتى الثمرات ، ومع المغفرة والرضوان . ثم سؤال : أهؤلاء ( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين . أعقبها في السورة جولة مع المنافقين ، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها من القبائل في تلك الفترة ، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر ، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود ، وضعف مركز المنافقين " كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب " .
والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها . ظلال الهجوم والقتال ، منذ أول إشارة . فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله ، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه ؛ ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى : ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا ? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) . .
ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? فقد جاء أشراطها . فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ? ) . .
ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال - وهم يتظاهرون بالإيمان - والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين : ( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة ! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ! ) .
ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات . ويرذل اتجاهاتهم ، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن : ( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ? أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) . .
ويفضحهم في توليهم للشيطان ، وفي تآمرهم مع اليهود ، ويهددهم بالعذاب عند الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي ، الذي يدمجون أنفسهم فيه ، وهم ليسوا منه ، وهم يكيدون له : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله : سنطيعكم في بعض الأمر . والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ? ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم . أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم . ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنهم في لحن القول . والله يعلم أعمالكم ، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) . .
وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم : ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول - من بعد ما تبين لهم الهدى - لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ) . .
وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعدائهم : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، ولا تبطلوا أعمالكم . إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار ، فلن يغفر الله لهم . .
وتحضيض لهم على الثبات عند القتال : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) . .
وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها . وحض على البذل الذي يسره الله ، ولم يجعله استئصالا للمال كله ، رأفة بهم ، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية ، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال :
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم . إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ) . .
وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال ، وبالبذل في القتال : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها ؛ يظللها جو القتال ، وتتسم بطابعه في كل فقراتها .
وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة : [ أعمالهم . بالهم . أمثالهم . أهواءهم . أمعائهم . . ] وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء : [ أوزارها . أمثالها . أقفالها . . . ] .
وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها . . فالقتال أو القتل يقول عنه : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) . . والتقتيل والأسر يصوره بشدة : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) . . والدعاء على الكافرين يجيء في لفظ قاس : ( فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) . . وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلا ولفظا : ( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) . . وصورة العذاب في النار تجيء في هذا المشهد : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . . وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجيء في مشهد كذلك عنيف : ( ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ! ) . . حتى تحذير المؤمنين من التولي يجيء في تهديد نهائي حاسم : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال . .
( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم . والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - وهو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ؛ وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم . كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) . .
افتتاح يمثل الهجوم بلا مقدمة ولا تمهيد ! وإضلال الأعمال الذي يواجه به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله . سواء صدوا هم أم صدوا وصدوا غيرهم - يفيد ضياع هذه الأعمال وبطلانها . ولكن هذا المعنى يتمثل في حركة . فإذا بنا نرى هذه الأعمال شاردة ضالة ، ونلمح عاقبة هذا الشرود والضلال ، فإذا هي الهلاك والضياع . وهي حركة تخلع ظل الحياة على الأعمال ، فكأنما هي شخوص حية أضلت وأهلكت . وتعمق المعنى وتلقي ظلاله . ظلال معركة تشرد فيها الأعمال عن القوم ، والقوم عن الأعمال . حتى تنتهي إلى الضلال والهلاك !
وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير . والتي يبدو على ظاهرها الصلاح . فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان . فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه . والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل . وقد يكون الباعث طيبا . ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة . لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير ، متصل بخط سير الحياة العريض ، ولا بناموس الوجود الأصيل . فلا بد من الإيمان ليشد النفس إلى أصل تصدر عنه في كل اتجاهاتها ، وتتأثر به في كل انفعالاتها . وحينئذ يكون للعمل الصالح معناه . ويكون له هدفه ويكون له أطراده وتكون له آثاره وفق المنهج الإلهي الذي يربط أجزاء هذا الكون كله في الناموس ؛ ويجعل لكل عمل ولكل حركة وظيفة وأثرا في كيان هذا الوجود ، وفي قيامه بدوره ، وانتهائه إلى غايته .
[ وهي مدنية ]{[1]}
يقول تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بآيات الله ، { وصدوا } غيرهم { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأذهبها ، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا ، كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَىَ مُحَمّدٍ وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته ، وتصديق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق أضَلّ أعمالَهمْ يقول : جعل الله أعمالهم ضلالاً على غير هدى وغير رشاد ، لأنها عملت في سبيل الشيطان وهي على غير استقامة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول تعالى ذكره : والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته ، واتبعوا أمره ونهيه وآمَنُوا بِمَا نُزّلَ على مُحَمّدٍ يقول : وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ يقول : محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيىء ما عملوا من الأعمال ، فلم يؤاخذهم به ، ولم يعاقبهم عليه وأصْلَحَ بالَهُمْ يقول : وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه ، وفي الاَخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه .
وذُكر أنه عنى بقوله : الّذِينَ كَفَرُوا . . . الآية أهل مكة ، وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالحِاتِ . . . الآية ، أهل المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله : الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : نزلت في أهل مكة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ قال : الأنصار .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : وأصْلَحَ بالَهُمْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : أمرهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : شأنهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : أصلح حالهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : حالهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأصْلَحَ بالَهُمْ قال حالهم . والبال : كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا بالات .
هذه السورة مدنية بإجماع غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى ' وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ' محمد13 ، إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها{[1]} .
قوله تعالى : { الذين كفروا } الآية ، إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { والذين آمنوا } الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه ، وفي الطائفتين نزلت الآيتان ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها . وقوله : { وصدوا } يحتمل أن يريد الفعل المجاوز ، فيكون المعنى : { وصدوا } غيرهم ، ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد ، فيكون المعنى : { وصدوا } أنفسهم . و : { سبيل الله } شرعه وطريقه الذي دعا إليه .
وقوله : { أضل أعمالهم } أي أتلفها ، لم يجعل لها غاية خير ولا نفعاً ، وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر ، وأن الإشارة بقوله : { أضل أعمالهم } هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر ، وقيل المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه ، واللفظ يعم ذلك .
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد . وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري ، وكذلك في التفاسير قالوا : وتسمى ( سورة القتال ) .
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا .
والأشهر الأول ، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران التي فيها { وما محمد إلا رسول } .
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال ، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى { وذكر فيها القتال } ، مع ما سيأتي أن قوله تعالى { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } إلى قوله { وذكر فيها القتال } أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية .
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان . وعن النسفي : أنها مكية . وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير : أنها مكية . ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك } الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء ، أي في الهجرة .
قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد .
وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد .
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين ، وعدها أهل البصرة أربعين ، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين .
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين ، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد .
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله ، أي دينه .
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم .
وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم .
وفيها وعد المجاهدين بالجنة ، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم ، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم .
ووصف الجنة ونعيمها ، ووصف جهنم وعذابها .
ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال ، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين .
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين .
وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة .
صُدّر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيراً في نفوس المسلمين حنقاً عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين ، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة ، حين يعلمون الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين ، فهذا تمهيد لقوله : { فإذا لقيتم الذين كفروا } [ محمد : 4 ] .
وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كُفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة ، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر أي لأجل كفرهم وصدهم ، وبراعة استهلال للغرض المقصود .
والكفُر : الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجرداً عن قرينة إرادة غير المشركين . وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين . وهي : الكفر ، والصد عن سبيل الله ، وضلال الأعمال الناشىء عن إضلال الله إياهم .
والصدّ عن سبيل : هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام ، وصرفُهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأوْلى . وأضيف ( السبيل ) إلى { الله } لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] . واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائرَ فيه إلى بُغيته .
ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى : { ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } [ الحج : 25 ] . ومن الصد عن المسجد الحرام : إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة ، وصدهم عن العُمرة عام الحديبية . ومن الصد عن سبيل الله : إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم ، فلذلك قيل : إن الآية نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من سادة المشركين من قريش . وهم : أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبيٌّ بن خلَف وأمية بن خلَف ونُبَيْه بن الحجاج ومُنَبِّه بنُ الحجاج وأبو البَخْتَرِي بنُ هشام والحارث بن هشام وزَمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نَوفل وحَكيم بن حِزام وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة . وعدّ منهم صفوان بن أمية وسهل بن عمرو ومِقْيَس الجُمحي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب وهذان أسلما وحَسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخَرين خلاف . ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن { وقال الذين كفروا لا تَسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .
والإضلال : الإبطال والإضاعة ، وهو يرجع إلى الضلال . وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يُراد وهو يستلزم المعاني الأخر . وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأنه الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة ، فلم يثبهم عليها من صلة رحم ، وإطعام جائع ، ونحوهما ، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثاً وسيئاً ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خَيَّبَ سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامُهم الجيْش باطلاً ، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يشفُوا غليلهم يوم أحد ، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } [ الأنفال : 36 ] .