( وإن تعجب فعجب قولهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ? أولئك الذين كفروا بربهم ، وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
وإنه لعجيب يستحق التعجيب ، أن يسأل قوم بعد هذا العرض الهائل :
( أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ? ) . .
والذي خلق هذا الكون الضخم ودبره على هذا النحو ، قادر على إعادة الأناسي في بعث جديد . إنما هو الكفر بربهم الذي خلقهم ودبر أمرهم . وإنما هي أغلال العقل والقلب . فالجزاء هو الأغلال في الأعناق ، تنسيقا بين غل العقل وغل العنق ؛ والجزاء هو النار خالدين فيها . فقد عطلوا كل مقومات الإنسان التي من أجلها يكرمه الله ، وانتكسوا في الدنيا فهم في الآخرة يلاقون عاقبة الانتكاس حياة أدنى من حياتهم الدنيا ، التي عاشوها معطلي الفكر والشعور والإحساس .
يقول تعالى لرسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِنْ تَعْجَبْ } من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلالاته في خلقه على أنه القادر على ما يشاء ، ومع ما يعترفون{[15443]} به من أنه ابتدأ خلق الأشياء ، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا ، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا جديدا ، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به ، فالعجب من قولهم : { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، وأن من بدأ الخلق فالإعادة سهلة عليه ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ثم نعت المكذبين بهذا فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } أي : يسحبون بها في النار ، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : ماكثون فيها أبدا ، لا يحولون عنها ولا يزولون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلََئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن تعجب يا محمد من هؤلاء المشركين المتخذين ما لا يضرّ ولا ينفع آلهة يعبدونها من دوني ، فعجب قولهم أئِذَا كُنّا تُرَابا وبلينا فعدمنا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أإنا لمجدّد إنشاؤنا وإعادتنا خلقا جديدا كما كنا قبل وفاتنا ؟ تكذيبا منهم بقدرة الله ، وجحودا للثواب والعقاب والبعث بعد الممات . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ إن عجبت يا محمد فعجب قَوْلُهُمْ أئِذَاكُنّا تُرَابا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ قال : إن تعجب من تكذيبهم ، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره وما ضرب لهم من الأمثال ، فأراهم من حياة الموتى في الأرض الميتة ، إن تعجب من هذه فتعجب من قولهم : أئِذَا كُنّا تُرَابا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أو لا يرون أنا خلقناهم من نطفة ، فالخلق من نطفة أشدّ أم الخلق من تراب وعظام ؟ .
واختلف في وجه تكرير الاستفهام في قوله : أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بعد الاستفهام الأوّل في قوله : أئِذَا كُنّا تُرَابا أهلُ العربية ، فقال بعض نحويي البصرة : الأوّل ظرف ، والاَخر هو الذي وقع عليه الاستفهام كما تقول : أيوم الجمعة زيد منطلق ؟ قال : ومن أوقع استفهاما آخر على قوله : أئذا متنا وكنا ترابا ؟ جعله ظرفا لشيء مذكور قبله ، كأنهم قيل لهم : تبعثون ، فقالوا : أئذا كنا ترابا ؟ ثم جعل هذا استفهاما آخر . قال : وهذا بعيد . قال : وإن شئت لم تجعل في قولك : «أئذا » استفهاما ، وجعلت الاستفهام في اللفظ على «أئِنا » ، كأنك قلت : أيوم الجمعة أعبد الله منطلق ؟ وأضمر نفيه ، فهذا موضع قد ابتدأت فيه أئذا ، وليس بكبير في الكلام لو قتل اليوم : أإن عبد الله منطلق لم يحسُن ، وهو جائز ، وقد قالت العرب ما علمت أنه لصالح ، تريد : إنه لصالح ما علمت . وقال غيره : أئذا جزاء وليست بوقت ، وما بعدها جواب لها إذا لم يكن في الثاني استفهام والمعنى له ، لأنه هو المطلوب ، وقال : ألا ترى أنك تقول : إن تقم يقوم زيد ويقم من جزم ، فلأنه وقع موقع جواب الجزاء ، ومن رفع فلأن الاستفهام له . واستشهد بقول الشاعر :
حَلَفْتُ لهُ إنْ تُدْلِجِ اللّيْلَ لاَ يَزَلْ *** أمامَكَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِيَ سائِرُ
فجزم جواب اليمين ، لأنه وقع موقع جواب الجزاء ، والوجه الرفع . قال : فهكذا هذه الآية . قال : ومن أدخل الاستفهام ثانية ، فلأنه المعتمد عليه ، وترك الجزء الأوّل .
وقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين أنكروا البعث وجحدوا الثواب والعقاب ، وَقالُوا أئِذَا كُنّا تُرَابا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هم الذين جحدوا قدرة ربهم وكذّبوا رسوله ، وهم الذين في أعناقهم الأغلال يوم القيامة في نار جهنم . فأولئك أصحاب النار : يقول : هم سكان النار يوم القيامة ، هُمْ فيها خَالِدُونَ يقول : هم فيها ماكثون أبدا ، لا يموتون فيها ، ولا يخرجون منها .
{ وإن تعجب } يا محمد من إنكارهم البعث . { فعجب قولهم } حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت الإعادة أيسر شيء عليه ، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة على إمكان الإعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته . { أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد } بدل من قولهم أو مفعول له ، والعامل في إذا محذوف دل عليه : { أئنا لفي خلق جديد } . { أولئك الذين كفروا بربهم } لأنهم كفروا بقدرته على البعث . { وأولئك الأغلال في أعناقهم } مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة . { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لا ينفكون عنها ، وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.