( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخره عذاب عظيم . سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . إن الله يحب المقسطين . وكيف يحكمونك - وعندهم التوراه فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ؟ وما أولئك بالمؤمنين ) . .
هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة ؛ حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينه - أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظه إن لم يكن قبل ذلك ، أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع ، وأولاهما أجليت بعد أحد والثانيه أجليت قبلها - ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه ؛ وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحيه إلى الجحر ! وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر ؛ ولو قال المنافقون بأفواههم : آمنا . . وكان فعلهم هذا يحزن الرسول [ ص ] ويؤذيه . .
والله - سبحانه - يعزي رسوله [ ص ] ويواسيه ؛ ويهون عليه فعال القوم ، ويكشف للجماعه المسلمه حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء ؛ ويوجه الرسول [ ص ] إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين ؛ بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا ، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . . . )
روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم - تختلف الروايات في تحديدها - منها الزنا ومنها السرقه . . وهي من جرائم الحدود في التوراة ؛ ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها ؛ لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر . ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع ، وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير [ كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان ! ] . . فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول [ ص ] تآمروا على أن يستفتوه فيها . . فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيريه المخففه عملوا بها ، وكانت هذه حجه لهم عند الله . . فقد أفتاهم بها رسول ! . . وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه . . فدسوا بعضهم يستفتيه . . ومن هنا حكاية قولهم :
( إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا ) . .
وهكذا بلغ منهم العبث ، وبلغ منهم الاستهتار ، وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله [ ص ] هذا المبلغ . . وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد ، فتقسو قلوبهم ؛ وتبرد فيها حرارة العقيده ، وتنطفى ء شعلتها ؛ ويصبح التفصي من هذه العقيده وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ؛ ويبحث له عن " الفتاوي " لعلها تجد مخرجاً وحيله ؛ أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون : إنهم مسلمون : ( من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) !
أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين ؟ أليسوا يتمسحون بالدين احياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقه عليها ! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه . . ( يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ؛ وإن لم تؤتوه فاحذروا ) إنه الحال نفسه . ولعله لهذا كان الله - سبحانه _يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل ، لتحذر منها أجيال " المسلمين " وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق .
والله سبحانه - يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر ، وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . فهم يسلكون سبيل الفتنه ، وهم واقعون فيها ، وليس لك من الأمر شيء ، وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنه وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً )
وهؤلاء دنست قلوبهم ، فلم يرد الله أن يطهرها ، وأصحابها يلجون في الدنس : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) . .
وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخره : ( لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .
فلا عليك منهم ، ولا يحزنك كفرهم ، ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر مقضي فيه . .
{ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون . { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : يستجيبون{[9833]} له ، منفعلون عنه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون{[9834]} مجلسك يا محمد . وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }{[9835]} أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }
قيل : نزلت في أقوام من اليهود ، قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .
والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن{[9836]} اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحْصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين . فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويُجْلَدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ{[9837]} ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا{[9838]} صدق{[9839]} يا محمد ، فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما{[9840]} فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة .
وأخرجاه{[9841]} وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له : " فقال لليهود : ما تصنعون بهما ؟ " قالوا : نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما . قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك . فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد ، إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا . فأمر بهما فَرُجما . {[9842]}
وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود ، فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا : نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما ، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما ، قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سَلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مُرْه فلْيرفع يده . فرفع يده ، فإذا تحتها آيةُ الرجم . فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه . {[9843]}
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني ، حدثنا ابن وَهْب ، حدثنا هشام بن سعد ؛ أن زيد بن أسلم حَدثه ، عن ابن عمر قال : أتَى نفر من اليهود ، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : " ائتوني بالتوراة " . فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : " آمنت بك وبمن أنزلك " . ثم قال : " ائتوني بأعلمكم " . فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع . {[9844]}
وقال الزهري : سمعت رجلا من مُزَيْنَة ، ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم ، فقام على الباب فقال : " أنْشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ ؟ قالوا : يُحَمَّم ، ويُجبَّه ويجلد . والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله{[9845]} صلى الله عليه وسلم سكت ، ألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّشْدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ " قال : زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخَّر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في إثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .
رواه أحمد ، وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جرير{[9846]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود ، فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم ؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } يقولون : ائتوا محمدًا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : في اليهود إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال : في اليهود{[9847]} { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال : في الكفار كلها .
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به . {[9848]}
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن مُجالد بن{[9849]} سعيد الهَمْدَاني ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : " أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم " . فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتما أعلم من قبلكما ؟ " . فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله ؟ " قالا بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل ، وظَلّل عليكم الغَمام ، وأنجاكم من آل فرعون ، وأنزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقال أحدهما للآخر : ما نُشدْتُ بمثله قط . قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المُكْحُلة ، فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك " . فأمر به فَرُجمَ ، فنزلت : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{[9850]}
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث مُجالد ، به{[9851]} نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " . فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : " كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما ، قال : " فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما .
ثم رواه أبو داود ، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي ، مرسلا{[9852]} ولم يذكر فيه : " فدعا بالشهود{[9853]} فشهدوا " .
فهذه أحاديث{[9854]} دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل{[9855]} إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا{[9856]} على كتمانه وجحده ، وعدم العمل{[9857]} به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم{[9858]} على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا{[9859]} { إِنْ }{[9860]} أُوتِيتُمْ هَذَا والتحميم { فَخُذُوهُ } أي : اقبلوه { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : من قبوله واتباعه .
قال الله تعالى : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }