( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . لا حجة بيننا وبينكم . الله يجمع بيننا ، وإليه المصير ) . .
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء . القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت . تدعو إلى الله على بصيرة . وتستقيم على أمر الله دون انحراف . وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك . القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق . والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد ، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد : ( وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ) . . ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل . ( وأمرت لأعدل بينكم ) . . فهي قيادة ذات سلطان ، تعلن العدل في الأرض بين الجميع . [ هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها . ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة ] . وتعلن الربوبية الواحدة : ( الله ربنا وربكم ) . . وتعلن فردية التبعة : ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) . . وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل : ( لا حجة بيننا وبينكم ) . . وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير : ( الله يجمع بيننا وإليه المصير ) . .
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة ، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق . فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر . وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض . وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات .
{ فلذلك فادع } : أي فإلى ذلك الدين الذي شرع الله لكم ووصى به نوحاً وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد الله .
{ واستقم كما أمرت } : أي استقم على العمل به ولا تزغ عنه واثبت عليه كما أمرك الله .
{ ولا تتبع أهواءهم } : أي ولا تتبع أهواء المشركين وأهل الكتاب فتترك الحنيفية التي بعثت بها فإنها الحق .
{ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } : أي ولست كالذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
{ وأمرت لأعدل بينكم } : أي أمرني ربي أن أحكم بينكم بالعدل الذي هو خلاف الجور .
{ الله ربنا وربكم } : أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وإلهنا وإلهكم .
{ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } : وسيجزى كل منا بعمله خيراً كان أو شراً .
{ لا حجة بيننا وبينكم } : أي ما هناك حاجة إلى المحاجة الآن بعد ظهور الحق .
{ الله يجمع بيننا } : أي يوم القيامة .
قوله تعالى : { فلذلك فادع } أي فإلى ذلك الدين الحق الذي هو الإِسلام الذي شرعه الله لكم ووصى به نوحاً وأوحاه إليك فادع جميع الناس عربهم وعجمهم فإنه دين الله الذي لا يقبل دينا سواهن ولا يكمل الإِنسان في أخلاقه ومعارفه وآدابه ولا يسعد في الدارين إلا عليه واستقم عليه كما أمرك ربك ، فلا تزغ عنه ولا تعدل به غيره فإنه الصراط المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك ولا تتبع أهواء المشركين ولا أهواء أهل الكتاب . وقل في صراحة ووضوح آمنت بما أنزل الله من كتاب فلا أُومن ببعض وأكفر ببعض كما أنتم عليه معشر اليهود والنصارى ، وقل لهم أمرني ربى أن أعدل بينكم في الحكم إذا تحاكمتم إليَّ ، كما أنى لا أفرق بينكم إذا اعتبركم على الكفر سواء فكل من لم يكن على الإِسلام الذي كان عليه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والذي عليه أنا وأصحابي اليوم فهو كافر من أهل النار .
وقوله تعالى { الله ربنا وربكم } أي أمرني أن أقول لكم هذا الله ربنا وربكم إذْ لا رب سواه فهو رب كل شيء ومليكه ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وسَيُجْزى كل منا بعمله السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها ، إلا أن الكافر لا تكون له حسنة مادام قد كفر بأصل الدين فلم يؤمن بالله ولقائه ، ولا بوحيه ولا برسوله وقوله { لا حجة بيننا وبينكم } أي اليوم إذ ظهر الحق ولاح الصبح لذي عينين فلا داعي إلى الجدال والخصومة معكم يا أهل الكتابين من يهود ونصارى الله يجمع بيننا يوم القيامة إذ المصير في النهاية إليه لا إلى غيره وسوف يحكم بيننا فيما اختلفنا فيه فيقضى لأهل الحق بالنجاة من النار ودخول الجنة ويقضى لأهل الباطل بالنار والخلود فيها .
- وجوب الدعوة إلى الإِسلام بين أمم العالم إذ لا نجاة للبشرية إلا بالإِسلام .
- حرمة اتباع أهواء أهل الأهواء والسير معهم وموافقتهم في باطلهم .
- وجوب الاستقامة على الإِسلام عقائد وعبادات وأحكام قضائية وآداب وأخلاق .
قوله تعالى : { فلذلك فادع } أي : فإلى ذلك ، كما يقال : دعوت إلى فلان ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ، { واستقم كما أمرت } أي : اثبت على الدين الذي أمرت به ، { ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي : آمنت بكتب الله كلها ، { وأمرت لأعدل بينكم } أن أعدل بينك . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام . وقيل : لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء ، { الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } يعني : إلهنا واحد ، وإن اختلفت أعمالنا ، فكل يجازى بعمله . { لا حجةً } لا خصومة . { بيننا وبينكم } نسختها آية القتال ، فإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة ، { الله يجمع بيننا } في المعاد لفصل القضاء . { وإليه المصير }
{ فلذلك فادع } أي إلى ذلك يعني إلى إقامة الدين فادع الناس { واستقم كما أمرت } اثبت على الدين الذي أمرت به { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي بجميع كتب الله المنزلة { وأمرت لأعدل بينكم } لأسوي بينكم في الإيمان بكتبكم وقيل لأعدل بينكم في القضية وقوله { لا حجة } أي لا خصومة { بيننا وبينكم } وهذا منسوخ بآية القتال
قوله تعالى : " فلذلك فادع واستقم كما أمرت " لما أجاز أن يكون الشك لليهود والنصارى ، أو لقريش قيل له : " فلذلك فادع " أي فتبينت شكهم فادع إلى الله ، أي إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به . فاللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى : " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] أي إليها . و " ذلك " بمعنى هذا . وقد تقدم أول " البقرة " {[13479]} . والمعنى فلهذا القرآن فادع . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع . وقيل : إن اللام على بابها ، والمعنى : فمن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع واستقم . قال ابن عباس : أي إلى القرآن فادع الخلق . " واستقم " خطاب له عليه السلام . قال قتادة : أي استقم على أمر الله . وقال سفيان : أي استقم على القرآن . وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة . " ولا تتبع أهواءهم " أي لا تنظر إلى خلاف من خالفك . " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم " أي أن أعدل ، كقوله تعالى : " وأمرت أن أسلم لرب العالمين " {[13480]} [ غافر : 66 ] . وقيل : هي لام كي ، أي لكي أعدل . قال ابن عباس وأبو العالية : لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول . وقال غيرهما : لأعدل في جميع الأحوال وقيل : هذا العدل هو العدل في الأحكام . وقيل في التبليغ . " الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم " قال ابن عباس ومجاهد : الخطاب لليهود ، أي لنا ديننا ولكم دينكم . قال : نسخت بقوله : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " {[13481]} [ التوبة : 29 ] الآية . قال مجاهد : ومعنى " لا حجة بيننا وبينكم " لا خصومة بيننا وبينكم . وقيل : ليس بمنسوخ ؛ لأن البراهين قد ظهرت ، والحجج قد قامت ، فلم يبق إلا العناد ، وبعد العناد لا حجة ولا جدال . قال النحاس : ويجوز أن يكون معنى " لا حجة بيننا وبينكم " على ذلك القول : لم يؤمر أن يحتج عليكم يقاتلكم ، ثم نسخ هذا . كما أن قائلا لو قال من قبل أن تحول القبلة : لا تصل إلى الكعبة ، ثم . حول الناس بعد ، لجاز أن يقال نسخ ذلك . " الله يجمع بيننا " يريد يوم القيامة . " وإليه المصير " أي : فهو يحكم بيننا إذا صرنا إليه ، ويجازي كلا بما كان عليه . وقيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة ، وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش ، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .