في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :

هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .

ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .

ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :

( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .

فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !

( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .

أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .

ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :

( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .

وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .

هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :

( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .

وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } أي بني النضير . { من ديارهم } قرب المدينة على ميلين منها . { لأول الحشر } أي عند أول حشر ؛ أي إخراج إلى الشام وغيرها . والحشر : إخراج الجماعة عن مقرهم ، وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها . واللام للتوقيت ؛ كما في قوله تعالى : " لدلوك الشمس " {[352]} . { ما ظننتم أن يخرجوا } لعزتهم ومنعتهم . { وظلوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله } أي من بأسه ونقمته . { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } فأخذهم الله من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم أنهم يؤخذون ، وكانوا يضنون بالمسلمين الضعف في ذلك الوقت{ وقذف في قلوبهم الرعب } ألقى فيها الخوف والفزع الشديد . وأصل القذف : الرمي بقوة أو من بعيد . والرعب : الانقطاع من امتلاء القلب بالخوف . { فاعتبروا يا أولي الأبصار } فاتعظوا بما نزل بهم ، واحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم ؛ فتعاقبوا مثل عقوبتهم . والاعتبار : من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لانتقالها من العين إلى الخذ . واعتبار القائم لانتقاله من الأصل إلى الفرع .


[352]:آية 78 الإسراء.
 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

الذين كفروا : هم بنو النضير من اليهود ، وذلك بنقضهم العهدَ بينهم وبين رسول الله .

لأول الحشر : وهو جمعهم وإخراجهم من المدينة .

حصونهم : واحدها حصن ، كان اليهود يسكنون منفردين عن العرب في قلاع مسوَّرة محصنة .

فأتاهم الله : جاءهم عذابه .

من حيث لم يحتسبوا : من حيث لم يخطر لهم ببال .

يخرِّبون بيوتهم بأيديهم : كانوا يهدمون بيوتهم من قبل أن يغادروها .

هو الذي أجلى الذين كفروا من أهل الكتاب « وهم بنو النضير ، أكبر قبائل اليهود » أجلاهم من ديارهم ، وكان هذا أول مرة حُشروا فيها وأخرجوا من المدينة فذهب بعضهم إلى الشام ، وبعضهم إلى خيبر . وما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا من ديارهم ، لقوّتهم ، وظنوا هم أن حصونهم تمنعهم من بأس الله . . فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا ، وألقى في قلوبهم الرعب الشديد .

{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } ، وكانوا يخرّبون بيوتهم ليتركوها غير صالحة للسكنى بعدهم ، وتخرّبها أيدي المؤمنين من خارج الحصون ليقضوا على تحصنهم ويخرجوهم أذلاء .

{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، اتعظوا يا ذوي البصائر السليمة ، والعقول الراجحة ، بما جرى لهؤلاء القوم المتكبّرين المتجبّرين من حيث لم تنفعهم أموالُهم ، ولا أسلحتهم .

وعلينا نحن اليوم أن نعتبر ولا نخاف من شدة تسلّح اليهود وما عندهم من قوة وأموال ، فلو اتفقنا واتحدنا ، وجمعنا شملَنا على قلبٍ واحد صمَّم على الجهاد ، وأعددنا لهم ما نستطيع من العدة ، لكان النصر لنا بإذن الله ، سيكون مآل اليهود كمآل أسلافهم المتبجّحين . ولا يمكن أن يأتينا النصرُ من الشرق ولا من الغرب فما النصر إلا من عند الله ، ومن عند أنفسنا وإيماننا وعزمنا على استرداد أراضينا بأيدينا . عندها يكون الله معنا والنصر لنا بإذنه .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

شرح الكلمات :

{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم } : أي أخرج يهود بني النضير من ديارهم بالمدينة .

{ لأول الحشر } : أي لأول حشر كان وثاني حشر كان من خيبر إلى الشام .

{ ما ظننتم أن يخرجوا } : أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن بني النضير يخرجون من ديارهم .

{ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } : أي وظن يهود بني النضير أن حصونهم تمنعهم مما قضى الله من الله به عليهم من إجلائهم من المدينة .

{ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } : أي فجاءهم الله من حيث لم يظنوا أنهم يؤتون منه .

{ وقذف في قلوبهم الرعب } : أي وقذف الله تعالى الخوف الشديد من محمد وأصحابه .

{ يخربون بيوتهم بأيديهم } : أي يخربون بيوتهم حتى لا ينتفع بها المؤمنون وليأخذوا بعض أبوابها وأخشابها المستحسنة معهم .

{ وأيدى المؤمنين } : إذ كانوا يهدمون عليهم الحصون ليتمكنوا من قتالهم .

{ فاعتبروا يا أولى الأبصار } : أي فاتعظوا بحالهم يا أصحاب العقول ولا تغتروا ولا تعتمدوا إلا على الله سبحانه وتعالى .

المعنى :

هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم يهود بني النضير أجلاهم من ديارهم بالمدينة لأول الحشر إلى أذرعات بالشام ومنهم من نزل بخيبر وسيكون لهم حشر آخر حيث حشرهم عمر وأجلاهم من خيبر إلى الشام .

وقوله تعالى في خطاب المؤمنين : { ما ظننتم أن يخرجوا } أي من ديارهم وظنوا هم أنهم مانعتهم حصونهم من الله . فخاب ظنهم إذ أتاهم أمر الله من حيث لم يظنوا وذلك بأن قذف في قلوبهم الرعب والخوف الشديد من الرسول وأصحابه حتى أصبحوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين .

المؤمنون يخربونها من الظاهر لفتح البلاد وهم يخبرونها من الباطن وذلك أن الصلح الذي تم بينهم وبين الرسول والمؤمنين أنهم يحملون أموالهم إلا الحلقة أي السلاح ويجلون عن البلاد إلى الشام وهو أول حشر لهم فكانوا إذا أعجبهم الباب أو الخشبة نزعوها من محلها فيخرب البيت لذلك . وقوله تعالى { فاعتبروا يا أولى الأبصار } أي البصائر والنهي أي اتعظوا بحال بني النضير الأقوياء كيف قذف الله الرعب في قلوبهم وأجلوا عن ديارهم فاعتبروا يا أولى البصائر فلا تغتروا بقواكم ولكن اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه .

/ذ5

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هو الذي أخرج الذين كفروا } يعني : بني النضير .

{ لأول الحشر } في معناه أربعة أقوال :

أحدها : أنه حشر القيامة أي : خروجهم من حصونهم أول الحشر والقيام من القبور آخره ، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " امضوا هذا أول الحشر ، وأنا على الأثر " .

الثاني : أن المعنى الأول موضع الحشر وهو الشام ، وذلك أن أكثر بني النضير خرجوا إلى الشام ، وقد جاء في الأثر أن حشر القيامة إلى أرض الشام ، وروي في هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير " اخرجوا " قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " . الثالث : أن المراد الحشر في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج ، فإخراجهم من حصونهم أول الحشر ، وإخراج أهل خيبر آخره .

الرابع : أن معناه إخراجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال الزمخشري : اللام في قوله { لأول } بمعنى عند كقولك : جئت لوقت كذا .

{ ما ظننتم أن يخرجوا } يعني : لكثرة عدتهم ومنعة حصونهم .

{ فأتاهم الله } عبارة عن أخذ الله لهم .

{ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } أما إخراب المؤمنين فهو هدم أسوار الحصون ليدخلوها ، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله :{ يخربون } لأنه كان بسبب كفرهم وغدرهم ، وأما إخراب الكفار لبيوتهم فلثلاثة مقاصد :

أحدها : حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ويحصنوا ما خربه المسلمون من الأسوار .

والثاني : ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسواري وغير ذلك .

الثالث : أن لا تبقى مساكنهم مبنية للمسلمين فهدموها شحا عليها .

{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } استدل الذين أثبتوا القياس في الفقه بهذه الآية واستدلالهم بها ضعيف خارج عن معناها .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه [ و-{[63606]} ] على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو{[63607]} ورسله ومن{[63608]} أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا ، فتولوا اليهود من {[63609]}أهل الكتاب ليعتزوا{[63610]} بهم ، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط{[63611]} اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم ، فقال : { هو } أي وحده من غير إيجاف{[63612]} خيل ولا ركاب ، { الذي أخرج } على وجه القهر { الذين كفروا } أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد {[63613]}التي تشهد{[63614]} لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق ، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع " من بني النضير " أو " اليهود " مثلاً : { من أهل الكتاب } أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وفي التعبير ب { كفروا } إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح ، فكان الخروج منه في غاية العسر ، دل على مزيد قهرهم به بأن قال : { من ديارهم } ولما كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر ، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر ، ولحق بعضهم بالحيرة ، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو{[63615]} موقتاً : { لأول } أي لأجل أول أو عند أول { الحشر } وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح ، ويزلزلون منه{[63616]} زلزلة أخرى ، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة ، والحشر{[63617]} : الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره ، وسمي أولاً لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب ، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر رضي الله عنه{[63618]} ، وعند ابن إسحاق{[63619]} أن إجلاءهم في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان ، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " اخرجوا قالوا : إلى أين ، قال : إلى أرض المحشر " ، وقال ابن عباس{[63620]} رضي الله عنهما : من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية . انتهى{[63621]} ، وهذا الحشر{[63622]} يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله{[63623]} صلى الله عليه وسلم{[63624]} : " بعثت أنا والساعة كهاتين " .

ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته ، استأنف شرح ذلك بقوله : { ما ظننتم } أي أيها المؤمنون { أن يخرجوا } أي يوقعوا الخروج من{[63625]} شيء أورثتموه{[63626]} منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم{[63627]} فكانوا بصدد مظاهرتهم ، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم ، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم ، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت أراؤهم وسلط{[63628]} عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم ، وإذا أراد الله نصرة عبد استأسد أرنبه وإذا أراد قهر عدو استنوق{[63629]} أسده .

ولما كانت الحصون تمنع إلى{[63630]} إتيان الأمداد قال : { وظنوا أنهم } ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال : { مانعتهم حصونهم } أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع ، قالوا : وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي جعل ضميرهم{[63631]} اسم ( إن ) و{[63632]}إسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز{[63633]} ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم{[63634]} ، ودل على ضعف عقولهم بأن {[63635]}عبر عن{[63636]} جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال : { من الله } أي الملك الأعظم {[63637]}الذي لا عز{[63638]} إلا له وأنتم جنده ، لا تقاتلون إلا فيه وبه ، بأسكم من بأسه ، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد . ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً{[63639]} جداً{[63640]} لأنه لا يلتبس على من{[63641]} له إلمام بكلامهم ، وبليغاً{[63642]} جداً لما له من العظمة ، قال : { فآتاهم الله } أي جاءهم الملك الأعظم الذي يحتملون مجيئه بما صور لهم من حقارة{[63643]} أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء ، { من حيث لم يحتسبوا } أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها{[63644]} وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم{[63645]} عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك ، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما{[63646]} مناهم وقربه لهم وأغواهم .

ولما كان التقدير : فأوهنهم الله{[63647]} بذلك ، عطف عليه قوله : { وقذف } أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة ، فثبت وارتكز ، { في قلوبهم الرعب } أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من {[63648]}أصلها ، ثم{[63649]} بين حالهم عند ذلك أو{[63650]} فسر قذف الرعب بقوله : { يخربون بيوتهم } أي يبالغون - على قراءة أبي عمرو{[63651]} بالتشديد - في إخرابها ، أي إفسادها{[63652]} ، فإن الخربة الفساد ، وقراءة{[63653]} غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد { بأيديهم } ضعفاً منهم - بما أشار إليه جمع القلة ، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها ، فكان الرجل منهم لما{[63654]} تحملوا للرحيل يهدم{[63655]} بيته عن نجاف بابه وما{[63656]} استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخلوا له{[63657]} عن البلد ولهم ما حملت إبلهم .

ولما كان السبب في تخريب الصحابة رضي الله عنهم لبيوتهم{[63658]} ما أحرقوهم به من المكر والغدر{[63659]} كانوا كأنهم أمروهم بذلك ، فنابوا عنهم فيه ، فقال{[63660]} أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده : { وأيدي المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها{[63661]} لأجل القتال ، وقدم تخريبهم لأنه أعجب .

ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل{[63662]} الإنسان في نفسه كما يفعل فيه{[63663]} عدوه ، سبب عن ذلك قوله : { فاعتبروا } أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا{[63664]} من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً من الخلق ولا تعتمدوا على غير الله ، فإن الاعتبار - كما قال القشيري - أحد قوانين الشرع ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره - انتهى .

وقد احتج بالآية مثبتو القياس فإنه مجاوزة من الأصل إلى الفرع ، والمجاوزة اعتبار ، وهو مأمور به في هذه الآية فهو{[63665]} واجب .

ولما كان الاعتبار عظيم النفع ، لا يحصل إلا للكمل ، زاده تعظيماً بقوله تعالى : { يا أولي الأبصار * } بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه و{[63666]}إعزاز نبيه{[63667]} ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين ، {[63668]}فإن من{[63669]} اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته ، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها{[63670]} - زعموا ، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل نكالهم كما أحكمه قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث ، وذلك الغدر منهم بعد أن حرضوا قريشاً على غزوة أحد ودلوهم على بعض العورات ، وقال البغوي{[63671]} : إن كعب بن الأشرف أتى قريشاً بعد أحد في أربعين راكباً فحالفهم على النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام عليه يخبره بذلك ، وقال{[63672]} : إنه لما قصدهم{[63673]} عليه السلام أرسلوا إليه أن يخرج في ثلاثين ويخرج منهم ثلاثون{[63674]} ليسمعوا منه ، فإن آمنوا به آمن الكل ، فأجابهم فأرسلوا أن الجمع كثير فاخرج في ثلاثة ليخرج ثلاثة منا{[63675]} ، فأرسلت امرأة منهم إلى أخيها وكان مسلماً أنهم اشتملوا على الخناجر يريدون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فكف صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وكل ما ذكر من أسباب قصتهم كما ترى{[63676]} دائر على المكر بل هو عين المكر .


[63606]:- زيد من م.
[63607]:- زيد من ظ وم.
[63608]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63609]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63610]:- من ظ وم، وفي الأصل: يعزوا.
[63611]:- من ظ وم، وفي الأصل: يحل.
[63612]:- من م، وفي الأصل وظ: إيجاب.
[63613]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[63614]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[63615]:- من ظ وم، وفي الأصل: و.
[63616]:- زيد من ظ.
[63617]:- زيد في الأصل: من، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63618]:- هذا قول الكلبي-كما في المعالم بهامش اللباب 7/ 48.
[63619]:- وقول ابن إسحاق ذكره البغوي في المعالم بهامش اللباب 7/47.
[63620]:- وقول ابن عباس ذكره البغوي في المعالم بهامش اللباب 7/ 48.
[63621]:- من ظ وم، وفي الأصل: هذه الآية.
[63622]:- من ظ وم، وفي الأصل: هذه الآية.
[63623]:- زيد من ظ وم.
[63624]:- زيد بعده في الأصل: بقوله، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63625]:- من ظ وم، وفي الأصل: في.
[63626]:- من ظ وم، وفي الأصل: اريتموه.
[63627]:- زيد من م.
[63628]:- زيد في الأصل: الله، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63629]:- من م، وفي الأصل وظ: استونق.
[63630]:- من ظ وم، وفي الأصل: من.
[63631]:- من ظ وم، وفي الأصل: ضمر اسم.
[63632]:- زيد من ظ وم.
[63633]:- من ظ وم، وفي الأصل: غير.
[63634]:- من ظ وم، وفي الأصل: معادهم.
[63635]:- من ظ وم، وفي الأصل: عين.
[63636]:- من ظ وم، وفي الأصل: عين.
[63637]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأعز.
[63638]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأعز.
[63639]:-من ظ وم، وفي الأصل: كثير.
[63640]:- زيد في الأصل: ما ألفوه، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63641]:- زيد في الأصل: كان، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[63642]:- من ظ وم، وفي الأصل: بليغ.
[63643]:- من ظ وم، وفي الأصل: حقيقة.
[63644]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63645]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63646]:- من ظ وم، وفي الأصل: بها.
[63647]:- سقط من ظ.
[63648]:- من ظ وم، وفي الأصل: أصلابها.
[63649]:- من ظ وم، وفي الأصل: أصلابها.
[63650]:- من ظ وم، وفي الأصل "و".
[63651]:- راجع نثر المرجان 7/268.
[63652]:- في ظ وم: فسادها.
[63653]:- زيد من م.
[63654]:- زيد من م.
[63655]:- من ظ وم، وفي الأصل: مجمل.
[63656]:- من م، وفي الأصل: مما.
[63657]:- من م، وفي الأصل وظ: لهم.
[63658]:- من ظ وم، وفي الأصل: بيوتهم.
[63659]:- من ظ و م، وفي الأصل: العز.
[63660]:- من ظ وم، وفي الأصل: فقالوا.
[63661]:- من م، وفي الأصل وظ: منهم.
[63662]:- في م: يعمل.
[63663]:- من ظ وم، وفي الأصل: في.
[63664]:- من ظ وم، وفي الأصل: يصيروا.
[63665]:- من ظ وم، وفي الأصل: هو.
[63666]:- من ظ وم، وفي الأصل: اعتزاز دينه.
[63667]:- من ظ وم، وفي الأصل: اعتزاز دينه.
[63668]:- من م، وفي الأصل وظ: وإن.
[63669]:- من م، وفي الأصل وظ: وإن.
[63670]:- زيد من ظ وم.
[63671]:- راجع معالم التنزيل بهامش اللباب7/46.
[63672]:- راجع المعالم بهامش اللباب 7/ 47.
[63673]:- من ظ وم، وفي الأصل: قدسه.
[63674]:- من ظ وم والمعالم، وفي الأصل: ثلاثين.
[63675]:- من م، وفي الأصل وظ: منها، وفي المعالم: من علمائنا.
[63676]:- زيد من ظ وم.