ندرك هذا من ترتيب النهي عن الوهن والدعوة إلى السلم في الآية التالية على ما ورد في الآية السابقة من بيان لمصير الكافرين المشاقين : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ، وأنتم الأعلون والله معكم ، ولن يتركم أعمالكم ) . .
فهذا هو الذي يحذر المؤمنين إياه ، ويضع أمامهم مصير الكفار المشاقين للرسول ، ليحذروا شبحه من بعيد !
وهذا التحذير يشي بوجود أفراد من المسلمين كانوا يستثقلون تكاليف الجهاد الطويل ومشقته الدائمة ؛ وتهن عزائمهم دونه ؛ ويرغبون في السلم والمهادنة ليستريحوا من مشقة الحروب . وربما كان بعضهم ذوي قرابة في المشركين ورحم ، أو ذوي مصالح وأموال ؛ وكان هذا يجنح بهم إلى السلم والمهادنة . فالنفس البشرية هي هي ؛ والتربية الإسلامية تعالج هذا الوهن وهذه الخواطر الفطرية بوسائلها . وقد نجحت نجاحا خارقا . ولكن هذا لا ينفي أن تكون هناك رواسب في بعض النفوس ، وبخاصة في ذلك الوقت المبكر من العهد المدني . وهذه الآية بعض العلاج لهذه الرواسب . فلننظر كيف كان القرآن يأخذ النفوس . فنحن في حاجة إلى تحري خطوات القرآن في التربية . والنفوس هي النفوس :
( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . وأنتم الأعلون . والله معكم . ولن يتركم أعمالكم ) . .
أنتم الأعلون . فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . أنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة . وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى . وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية . وأنتم الأعلون شعورا وخلقا وسلوكا . . ثم . . أنتم الأعلون قوة ومكانا ونصرة . فمعكم القوة الكبرى : ( والله معكم ) . . فلستم وحدكم . إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار . وهو لكم نصير حاضر معكم . يدافع عنكم . فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم ? وكل ما تبذلون ، وكل ما تفعلون ، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم ، لا يضيع منه شيء عليكم : ( ولن يتركم أعمالكم ) . . ولن يقطع منها شيئا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه .
فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم ، من يقرر الله - سبحانه - له أنه الأعلى . وأنه معه . وأنه لن يفقد شيئا من عمله . فهو مكرم منصور مأجور ?
هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية تهوين من شأن هذه الحياة الدنيا ، التي قد يصيبهم بعض التضحيات فيها . وتوفية كاملة في الآخرة للأجور مع عدم إبهاظهم ببذل المال مقابل هذه الأجور !
{ فلا تهنوا } لا تضعفوا عن قتال الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله . وفعله كوعد وورث وكرم . { وتدعوا إلى السلم } أي ولا تدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهار للعجز{ وأنتم الأعلون } في الحجة ، الأغلبون بقوة الإيمان{ والله معكم } بنصره{ ولن يتركم أعمالكم } لن ينقضكم أجور أعمالكم . يقال : وترث زيدا حقه – من باب وعد – نقصته . ووترث الرجل : إذا قتلت له قتيلا ، أو سلبت ماله ما ذهبت به . ومحل النهي عن الدعوة إلى صلح الكفار ومسالمتهم إذا لم تكن بالمسلمين حاجة بهما ؛ وإلا جاز الجنوح إلى السلم ، وهو محمل قوله تعالى : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله " {[326]} .
الأولى-قوله تعالى : " فلا تهنوا " أي تضعفوا عن القتال . والوهن : الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره ، يتعدى ولا يتعدى . قال :
إنني لستُ بمَوْهُون فَقْر{[13964]}
ووهن أيضا ( بالكسر ) وهنا أي ضعف ، وقرئ " فما وهنوا " بضم الهاء وكسرها . وقد مضى في ( آل عمران ){[13965]} .
الثانية- قوله تعالى : " وتدعوا إلى السلم " أي الصلح . " وأنتم الأعلون " أي وأنتم أعلم بالله منهم . وقيل : وأنتم الأعلون في الحجة . وقيل : المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال . وقال قتادة : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها .
الثالثة- واختلف العلماء في حكمها ، فقيل : إنها ناسخة لقوله تعالى : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " {[13966]} [ الأنفال : 61 ] ، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح . وقيل : منسوخة بقوله تعالى : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " . وقيل : هي محكمة . والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال . وقيل : إن قوله : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " مخصوص في قوم بأعيانهم ، والأخرى عامة . فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة ، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين . وقد مضى هذا المعنى مستوفى{[13967]} . " والله معكم " أي بالنصر والمعونة ، مثل : " وإن الله لمع المحسنين " {[13968]} [ العنكبوت : 69 ] : " ولن يتركم أعمالكم " أي لن ينقصكم ، عن ابن عباس وغيره . ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول منه : وتره يتره وترا وترة . ومنه قوله عليه السلام : [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] أي ذهب بهما . وكذلك وتره حقه أي نقصه . وقوله تعالى : " ولن يتركم أعمالكم " أي لن ينتقصكم في أعمالكم ، كما تقول : دخلت البيت ، وأنت تريد في البيت ، قاله الجوهري . الفراء : " ولن يتركم " هو مشتق من الوتر وهو الفرد ، فكان المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب .
ولما قدم سبحانه ذم الكفرة وأنه عليهم وأنه يبطل أعمالهم في الدنيا في الحرب وغيرها ، وختم بأن عداوته لهم متحتمة لا انفكاك لها ، وكان ذلك موجباً للاجتراء عليهم ، سبب عنه قوله مرغباً لهم في لزوم الجهاد{[59931]} محذراً من تركه : { فلا تهنوا } أي تضعفوا ضعفاً يؤدي بكم إلى الهوان والذل { وتدعوا } أي أعداءكم { إلى السلم } أي المسالمة وهي الصلح { وأنتم } أي والحال أنكم { الأعلون } على كل من ناواكم لأن الله عليهم ، ثم عطف على الحال قوله : { والله } أي الملك الأعظم الذي لا يعجزه شيء ولا كفوء له { معكم } أي بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكريم إذا كان مع غيره ، ومن علم أن سيده معه وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً { ولن يتركم أعمالكم * } أي-{[59932]} فيسلبكموها فيجعلكم وتراً منها بمعنى أنه يبطلها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم فيصيرون مفردين عنها لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم ، فلا يجوز لإمام المسلمين أن يجيب{[59933]} إلى مسالمة الكفار وبه قوة على مدافعتهم ، ولا يحل له ترك الجهاد إلا لمعنى يظهر فيه النظر-{[59934]} للمسلمين ، ومتى لم يجاهد في سبيل الله انصرف بأسه إلى المسلمين .
{ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم }
{ فلا تهنوا } تضعفوا { وتدعوا إلى السَّلم } بفتح السين وكسرها ، أي الصلح مع الكفار إذا لقيتموهم { وأنتم الأعلوْن } حذف منه واو لام الفعل الأغلبون القاهرون { والله معكم } بالعون والنصر { ولن يَتِركُم } ينقصكم { أعمالكم } أي ثوابها .