في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

51

وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم :

وقالت اليهود يد الله مغلولة - غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء-

وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه . فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك . وقد قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة ! وقالوا : يد الله مغلولة ، يعللون بذلك بخلهم ؛ فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل . . فكيف ينفقون ؟ !

وقد بلغ من غلظ حسهم ، وجلافة قلوبهم ، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ؛ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا : يد الله مغلولة !

ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) .

وكذلك كانوا ، فهم أبخل خلق الله بمال !

ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ؛ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم . وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب :

( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) . .

وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان . . شاهدة باليد المبسوطة ، والفضل الغامر ، والعطاء الجزيل ، ناطقة بكل لسان . ولكن يهود لا تراها ؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم ، وبالكنود وبالجحود ، وبالبذاءة حتى في حق الله !

ويحدث الله رسوله [ ص ] عما سيبدو من القوم ، وعما سيحل بهم ، بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ؛ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث :

( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا ) . .

فبسبب من الحقد والحسد ، وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله ، سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا . لأنهم وقد أبوا الإيمان ، لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ؛ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا ، وطغيانا وكفرا . فيكون الرسول [ ص ] رحمة للمؤمنين ، ووبالا عن المنكرين .

ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة :

وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . .

وما تزال طوائف اليهود متعادية . وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ؛ وتوقد نار الحرب علىالبلاد الإسلامية وتفلح ! ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة . ففي خلال ألف وثلاثمائة عام . . بل من قبل الإسلام . . واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد . ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه . مهما تقم حولهم الأسناد . ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة ، التي يتحقق لها وعد الله . . فأين هي العصبة المؤمنة اليوم ، التي تتلقى وعد الله ، وتقف ستارا لقدر الله ، ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ؟

ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام : تؤمن به على حقيقته ؛ وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته . . يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله . . واليهود يعرفون هذا ، ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ؛ ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك ، على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ، ويضربون - لا بأيديهم - ولكن بأيدي عملائهم - ضربات وحشية منكرة ؛ لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة . . ولكن الله غالب على أمره . ووعد الله لا بد أن يتحقق :

( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) . .

إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود ، لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ؛ فالله لا يحب الفساد في الأرض ؛ وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه :

( ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين ) . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقالت اليهود}، يعني ابن صوريا، وفنحاص اليهوديين، وعازر بن أبي عازر، {يد الله مغلولة}، يعني: ممسكة، أمسك الله يده عنا، فلا يبسطها علينا بخير، وليس بجواد، وذلك أن الله عز وجل بسط عليهم في الرزق، فلما عصوا واستحلوا ما حرم عليهم، أمسك عنهم الرزق، فقالوا عند ذلك: يد الله محبوسة عن البسط، يقول الله عز وجل: {غلت أيديهم}: أُمسكت أيديهم عن الخير، {ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} بالخير، {ينفق كيف يشاء}، إن شاء وسع في الرزق، وإن شاء قتر، هم خلقه وعبيده في قبضته. ثم قال: {وليزيدن كثيرا منهم}، يعني اليهود {ما أنزل إليك من ربك}، يعني أمر الرجم والدماء، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، {طغيانا وكفرا} بالقرآن، يعني جحودا به، {وألقينا بينهم}، يعني اليهود والنصارى، شر ألقاه عز وجل بينهم: {العداوة والبغضاء}: يبغض بعضهم بعضا، ويشتم بعضا، {إلى يوم القيامة}، فلا يحب اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي، {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}: كلما أجمعوا أمرهم على مكر بمحمد صلى الله عليه وسلم في أمر الحرب فرقه الله عز وجل، وأطفأ نار مكرهم، فلا يظفرون بشيء أبدا. {ويسعون في الأرض فسادا}: يعملون فيها بالمعاصي.

{والله لا يحب المفسدين}: العاملين بالمعاصي.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جراءة اليهود على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخا لهم بذلك وتعريفا منه نبيه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيّ مبعوث ورسول مرسل أن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود فضلاً عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرؤوا كتابا ولا وَعَوْا من علوم أهل الكتاب علما، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليقرّر عندهم صدقه ويقطع بذلك حجتهم. يقول تعالى ذكره:"وَقالَتِ اليَهُودُ" من بني إسرائيل "يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ "يعنون: أن خير الله ممسك، وعطاءه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ". وإنما وصف تعالى ذكره اليد بذلك، والمعنى: العطاء، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم، فقال: "وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ" يعني بذلك أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف -تعالى الله عما قال أعداء الله- فقال الله مكذّبهم ومخبرهم بسخطه عليهم: "غُلّتْ أيْدِيهِمْ" يقول: أُمْسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات، "ولُعِنوا بما قالوا": وأُبْعِدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب، والإفك. "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ": بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غير مغلولتين ولا مقبوضتين. "يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ": يعطى هذا ويمنع هذا فيقتر عليه.

"يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ": يرزق كيف يشاء.

"وَلَيزِيدَنّ كَثِيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا".

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيّ أمور هؤلاء اليهود مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم، احتجاجا عليهم لصحة نبوّتك، وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير، "ليزيدنّ كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا"، يعني بالطغيان: الغلوّ في إنكار ما قد علموا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك. "وكُفْرا" يقول: ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ. وإنما أعلم تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرّد على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلي بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله وتكذيبهم إياه.

"وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ": بين اليهود والنصارى.

"كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ": كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخبث نياتهم... "كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ": كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرّقه الله، وأطفأ حَدّهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب.

عن مجاهد قوله: "كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ" قال: حرب محمد صلى الله عليه وسلم.

"وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ": ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذّبون رسله ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيهم فيها بالفساد. "وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ": والله لا يحبّ من كان عاملاً بمعاصيه في أرضه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وفي الآية دلالة الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر أنه ألقى بينهم العداوة. ولو كانوا على مذهب واحد ولم يكن بينهم اختلاف وعداوة لكان ذلك عليه أشد، وفي المقام بينهم أصعب. لكن مَنَّ عليه بالاختلاف فيما بينهم لما جعل الاختلاف والتنازع سبب الفشل كقوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا) الآية (الأنفال 46).

(كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) يحتمل وجهين: أحدهما: كلما أرادوا مكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا أمرهم على قتله أطلع نبيه عليه السلام على ذلك حتى لم يقدروا على مكروه. والثاني: كلما انتصبوا للحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه، فرّق الله شملهم، وجعلهم بحيث لا يجتمعون على ذلك، والله أعلم.

(ويسعون في الأرض فسادا) يحتمل وجهين أيضا: أحدهما: السعي بالفساد على حقيقة المشي على الأقدام، وهو ما كانوا يسعون في نصب الحرب مع المؤمنين والاتصال بغيرهم من الكفرة والاستعانة بهم، فذلك هو السعي في الأرض بالفساد. والثاني: ما كتموا من بعث الرسول وصفته، وحرفوا ما في كتبهم من أعلام نبوته وآيات رسالته، ودعوا الناس إلى غير ما نزل فيه، وذلك سعي في الأرض بالفساد.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{وقالت اليهود يد الله مغلولة} مقبوضة عن العطاء وإسباغ النعم علينا قالوا هذا حين كف الله تعالى عنهم بكفرهم بمحمد عليه السلام ما كان يسلط عليهم من الخصب والنعمة فقالوا لعنهم الله على جهة الوصف بالبخل {يد الله مغلولة}. وقوله {غلت أيديهم} أي جعلوا بخلاء وألزموا البخل فهم أبخل قوم {ولعنوا بما قالوا} عذبوا في الدنيا بالجزية والذلة والصغار والقحط والجلاء وفي الآخرة بالنار. {بل يداه مبسوطتان} قيل معناه الوصف بالمبالغة في الجود والإنعام وقيل معناه نعمه مبسوطة ودلت التثنية على الكثرة كقولهم لبيك وسعديك وقيل نعمتاه أي نعمة الدنيا ونعمة الاخرة {مبسوطتان ينفق كيف يشاء} يرزق كما يريد إن شاء قتر وإن شاء وسع {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} بين طوائف 65 67 اليهود وجعلهم الله مختلفين متباغضين كما قال {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى}...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{غلت أيديهم} دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبراً، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبراً عن الدنيا فالمعنى: غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه، وإذا كان خبراً عن الآخرة فالمعنى: غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه..

{وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} معطوف على قوله {وقالت اليهود} فهي قصص يعطف بعضها على بعض، و {العداوة} أخص من {البغضاء} لأن كل عدو فهو يبغض، وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} استعارة بليغة تنبئ عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخباراً عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد: معنى الآية كلما أوقدوا ناراً لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود.

وقوله تعالى: {ويسعون} معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل... وقوله تعالى: {والله لا يحب المفسدين} أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما لم تزل الدلائل على إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم، وجبوش البراهين تنجد، حتى انتشبت فيهم سهام الكلام أي انتشاب، قال تعالى معجباً من عامتهم بعد تعيين خاصتهم، معلماً بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره، مشيراً إلى سفول رتبتهم ودناءة منزلتهم بأداة التأنيث: {وقالت اليهود} معبرين عن البخل والعجز جرأة وجهلاً بأن قالوا ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة وإفاضة الجود والنصرة: {يد الله} أي الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال {مغلولة} أي فهو لا يبسط الرزق غاية البسط، وهذا كناية عن البخل والعجز من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه على حياله أصلاً، كما قال تعالى:

{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29] ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده، لا غل ولا عنق ولا بسط أصلاً، بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازاً عنه، كأنهما متعقبان على معنى واحد، حتى لو جاد الأقطع إلى المنكب لقيل له ذلك، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، منه الاستواء "وقالت: في السماء "المراد منه -كما قاله العلماء- أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان، قال في الكشاف: ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به.

ولما نطقوا بهذه الكلمة الشنعاء، وفاهوا بتلك الداهية الدهياء، أخبر عما جازاهم به سبحانه على صورة ما كان العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء، فقال معبراً بالمبني للمفعول إفادة لتحتم الوقوع وتعليماً لنا كيف ندعو عليهم، ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية له على تقدير سؤال سائل: {غلت أيديهم} دعاء مقبولاً وخبراً صادقاً، عن كل خير، فلا تكاد تجد فيهم كريماً ولا شجاعاً ولا حاذقاً في فن، وإن كان ذلك لم تظهر له ثمرة {ولعنوا} أي أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم {بما قالوا} والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم وأقروا عليها، فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر التي لا أفظع منها، وسكت عليه الباقون فشاركوه، ولما كان الغل كناية عن البخل وعدم الإنفاق، وكان الدعاء بغلهم ولعنهم متضمناً أن الأمر ليس كما قالوا، ترجمة سبحانه بقوله: {بل يداه} وهو منزه عن الجارحة وعن كل ما يدخل تحت الوهم {مبسوطتان} مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود، ليكون رد قولهم وإنكاره بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم وتكذيب قولهم.

ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال، قال مصرحاً بالمقصود معرفاً أنه في إنفاقه مختار فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض: {ينفق} ولما كان إنفاقه سبحانه تحقيقاً للاختيار على أحوال متباينة بحيث إنها تفوت الحصر، أشار إلى التعجيب من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام وإن قالوا: إنها في هذا الموطن شرط، فقال: {كيف} أي كما {يشاء} أي على أي حالة أراد دائماً من تقتير وبسط وغير ذلك.

ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان، قال سبحانه عاطفاً على

{وترى كثيراً منهم} [المائدة: 62] مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله

{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً} [المائدة: 41] بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم: {وليزيدن كثيراً منهم} أي ممن أراد الله فتنته، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال: {ما أنزل إليك} أي على ما له من النور وما يدعو إليه من الخير {من ربك} أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى {طغياناً} أي تجاوزاً عظيماً عن الحد تمتلئ منه الأكوان في كل إثم وشنأ، وذلك بما جره إليهم داء الحسد، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان، وهو -لما له من الكمال وعلو الشأن- يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان، فيكون أعدى العدوان {وكفراً} أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النور، ودعت إليه كتبهم من الخير، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح، وكلما قوي الضياء زاد أذاه، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة، فإن ضعفوا فنفاقاً.

ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم، نفى ذلك بقوله {وألقينا} أي بما لنا من العظمة الباهرة {بينهم} أي اليهود {العداوة} ولما كانت العداوة -وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض- ربما زالت بزوال السبب، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله: {والبغضاء} أي لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو {إلى يوم القيامة}.

ولما كان ذلك مفيداً لوهنهم ترجمه بقوله: {كلما أوقدوا} على سبيل التكرار لأحد من الناس {ناراً للحرب} أي بإحكام أسبابها وتفتيح جميع أبوابها {اطفأها} أي خيّب قصدهم في ذلك {الله} أي الذي له جميع صفات الكمال، فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل وتحت القهر، وأصل استعارة النار لها ما في كل منهما من التسلط والغلبة والحرارة في الظاهر والباطن، مع أن المحارب يوقد النار في موضع عال ليجتمع إليه أنصاره، ولقد قام لعمري دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة قينقاع تم النضير ثم قريظة، والقبائل الثلاث بالمدينة لم يتناصروا ولم ينصروا، ثم غزوة خيبر وأهل فدك ووادي القرى وهم متقاربون ولم يتناصروا ولم ينصروا، هذا فيما في خاصتهم، وأما في غير ذلك فقد ألبّوا الأحزاب وجمعوا القبائل وأتقنوا في أمرهم على زعمهم المكايد، ثم أطفأ الله نارهم حساً ومعنى بالريح والملائكة، وألزمهم خزيهم وعارهم وجعل الدائرة عليهم -وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم، وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله: {ويسعون} أي يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار بما يوجدون من المعاصي من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام وغير ذلك من أنواع الأجرام {في الأرض} أي كل ما قدروا عليه بالفعل والباقي بالقوة.

ولما كان الإنسان لكونه محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك فضلاً عن أن يمشي فضلاً عن أن يسعى إلا بما يرضي الله، وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله لكونه آمراً به خالقاً له، فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة على الفساد، صرح به في قوله: {فساداً} أي للفساد أو ذوي فساد {والله} أي والحال أن الذي له الكمال كله {لا يحب المفسدين} أي لا يفعل معهم فعل المحب، فلا ينصر لهم جيشاً، ولا يعلي لهم كعباً، ولا يصلح لهم شأناً، وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عليهم من عذابه بواسطة عباده وبغير واسطتهم ما يفوت الحصر.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

لما أسرفت يهود المدينة ما حولها في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فضلهم على مشركي قومه، وأقرهم على دينهم وما في دينهم وما في أيديهم، بين الله تعالى له مخازيهم التي يشهد بها تاريخهم وكتب دينهم، وما كان من تأثيرها في أخلاق المعاصرين له وأعمالهم. ثم عطف على ما تقدم من ذلك قولا فظيعا قاله بعضهم يدل على الجرأة على الله تعالى فيهم، الذي هو ترك التناهي عن المنكر فيما بينهم، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} هذا القول الفظيع من شواهد قولهم الإثم الذي أثبته فيما قبل هذه الآية. وقد عزي إليهم – وهو واحد أو آحاد منهم – لأنه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار المنكر – كما قلنا آنفا – والمقر للمنكر شريك الفاعل له، وهذا هو وجه وصل هذه الآية بما قبلها.

وقد جعل أهل الجدل الآية من المشكلات لأن يهود عصره ينكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنه يخالف عقائدهم ومقتضى دينهم. ومما قالوه في حل الإشكال:إنهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له} [البقرة:245] قالوا: من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخرص في بيان مرادهم منه، وما هذا إلا غفلة عن جرأة أمثالهم في كل عصر، على مثل هذا القول البعيد عن الأدب بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممن ليس لهم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد القشرية، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين.

وطالما سمعنا ممن يعدون من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق، وفي إبان المصائب. وعبارة الآية لا تدل على أن هذا القول يقوله جميع اليهود في كل عصر، حتى يجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجها للإشكال في الآية، وإنما عزاه إلى جنسهم لما ذكرناه آنفا، على أن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعونه من بعض أفرادهم إذا كان مثله لا ينكر فيهم، والقرآن يسند إلى المتأخرين ما قاله وفعله سلفهم منذ قرون، بناء على قاعدة تكافل الأمة وكونها كالشخص الواحد. ومثل هذا الأسلوب مألوف في كلام الناس أيضا.

واليد تطلق في اللغة على عدة معان: يقول أهل البيان إن بعضها حقيقة وبعضها من المجاز أو الكناية، فتطلق على الجارحة وعلى النعمة والقدرة والملك والتصرف وغير ذلك. رأى أهل التأويل بأن هذه الآية يجب تأويلها لأن اليد بمعنى الجارحة مما يستحل نسبته إلى الله تعالى، ويقول بعض أهل التفويض: بل نثبت له اليد وننزهه عن لوازم هذا الإطلاق من مشابهة الناس، وتفسير ابن عباس- إمام مفسري السلف والخلف – للآية يدل على أنها ليست مما يجري فيه الخلاف بين الخلف والسلف في التأويل والتفويض. لأن استعمال غل اليد في البخل وبسطها في الجود معروف في اللغة مألوف، ومنه قوله تعالى: {و تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29] ولا يقول أحد يفهم اللغة أن هذا من إخراج اللفظ عن ظاهره المسمى عندهم بالتأويل؟

أما قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا} وهو دعاء عليهم يناسب جرمهم هذا، وجزاء لهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين. قد جاء على طريقة الاستئناف البياني لأنه مما تستشرف له النفوس وتتساءل عنه بالفعل أو بالقوة. والمشهور من معنى (غلت أيديهم) أمسكت أيديهم وانقبضت عن العطاء والإنفاق في سبيل البر والخير. وهو دعاء عليهم بالبخل؛ وما زالوا أبخل الأمم فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا، إلا إذا كان يرى أنه له من وراءه ربحا. وقد حسنت أحوالهم في هذا الزمان، وارتقت معارفهم وحضارتهم في كثير من البلاد، وتربوا في أمم من الإفرنج صار من تقاليدهم الاجتماعية بذل المال لمعاهد العلم والملاجئ والمستشفيات والجمعيات الخيرية، وهم على كونهم أغنى من هذه الأمم مضطرون لمجاراتها لا يبذلون إلا دون ما يبذل غيرهم من الإعانات الخيرية، بل هم على شدة تكافلهم واستمساكهم بالعصبية الملية فيما بينهم، قلما يساعد أغنياؤهم فقراءهم بالصدقة الخالصة لوجه الله تعالى واجبا في الخير، بل يتاجرون ويرابون بالإعانات، فيعطون الفقراء مالا على أن يعملوا به في تجارة أو غيرها، بشرط أن يردوه في مدة معينة مع ربا قليلة في الغالب.

وقيل: إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالأغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما.

ثم رد عليهم تعالى بقوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} أي بل هو صاحب الجود الكامل، والعطاء الشامل، عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في عطاء جهد استطاعته يعطيه بكلتا يديه. وصفوه بغاية البخل والإمساك. فأبطل قولهم وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء. ولا غرو فكل ما يتقلب العالم كله من الخير والنعم، هو سجل من ذلك الجود والكرم، والنكتة في قوله: {كيف يشاء} بيان أن تقتير الرزق على بعض العباد، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع، لا ينافي سعة الجود، وسريانه في كل الوجود؛ فإنه له – سبحانه – الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، بحسب السنن التي أقام بها سنن الخلق...

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أن هذا الذي أنزلناه عليك من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ومن أحوال سلفهم وشؤون كتبهم وحقائق تاريخهم، هو من أعظم الحجج والآيات على نبوتك، فكان ينبغي أن يجذبهم الإيمان بك، لأنك لولا النبوة والوحي لما علمت من ذلك شيئا – لا من ماضيه لأنك أمي لم تقرأ الكتب، وما كل من قرأها يعلم كل ما جئت به عنهم – ولا من حاضره لأنه من خفايا مكرهم وأسرارهم كيدهم – ولكنهم لتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب، والعصبية الجنسية لأنفسهم، لا بجذبهم ذلك إلى الإيمان ولا يقربهم منه إلا قليلا منهم، والله ليزيدن كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك وكفرا بما جئت به. قال قتادة: حملهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعرب على أن كفروا به – وفي رواية: على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه – وهم يجدونه مكتوبا عندهم. فعلم مما شرحناه أن زيادة طغيان الكثيرين منهم وكفرهم جاء على خلاف الظاهر وضد ما يقتضيه الدليل، فلهذا أكده بالقسم الذي تفيده اللام في قوله: (ليزيدن).

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال المفسرون أن الضمير في قوله تعالى: (بينهم) يرجع إلى اليهود والنصارى في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} رواه ابن جرير عن مجاهد واقتصر عليه، وعزاه غيره إلى الحسن أيضا، ورواه أبو الشيخ عن الربيع، فلا نعرف في التفسير المأثور عن السلف غيره، وفي تفاسير المتأخرين احتمال أن يكون الضمير لليهود وحدهم، ويراد بالملقى حينئذ عداوة المذاهب والبغضاء بين الأفراد، لأن هذا لا ينقطع من بين الناس، ولكن يظهر معه فائدة لتخصيص اليهود به، وهم الآن من أشد الأمم تعاطفا وتعاضدا وائتلافا. وأما العداوة بينهم وبين النصارى فلم تنقطع...

{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} الحرب ضد السلم وليس مرادفا للقتال بل أعم – كما حققناه في تفسير آية المحاربة من هذه السورة – فهو يصدق بالإخلال بالأمن، والنهب والسلب ولو بغير قتل، ويصدق بتهييج الفتن والإغراء بالقتال، خص مجاهد الحرب هنا بحربهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحسن باجتماع السفلة من الأقوام على قتل العرب، وقال السدي في تفسير الجملة: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب. وفسره الربيع بما كان من مفاسدهم الماضية التي أغرت بها البابليين والروم قبل النصرانية وبعدها ثم المسلمين، كأنه يرى أن إيقادهم لنار الحرب هو تلبسهم بالأعمال التي هي سبب لها، وإن لم يريدوها بها. والمراد أن الله تعالى يخذلهم في كل ما يكيدون به لرسوله وللمؤمنين الصادقين. فإما أن يخيبوا ولا يتم له ما يسعون إليه من الإغراء والتحريض، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين. وكذلك كان، وصدق الله وعده، وأعزه جنده. ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

وجعل بعض المفسرين ذلك عاما عملا بظاهر اللفظ دون السياق والقرينة والأسباب والعلل، فقال الزمخشري في تفسيره: كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط – ثم قال – وقيل كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصره عليهم. اه. وما اخترناه أظهر.

ومن المفصل في السيرة النبوية أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وكان منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم، ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويؤوي أعداءهم ويساعدهم، ككعب بن الأشرف.

وكل ما كان من مقاومة اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كان سببه الحسد والعصبية، وتوقع الأحبار والرؤساء وإزالة الإسلام لما كان لهم من الامتياز بين العرب في الحجاز من مكان العلم والمعرفة، إذ كان المشركون يحترمونهم لكونهم أهل كتاب وعلم وإن لم يدينوا بدينهم. فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسة جنسية ليست من طبيعة الدين ولا من روحه، ولذلك كان ضلع اليهود مع المسلمين في الشام والأندلس لما رأوا ما عند مسلمي العرب من العدل، المزيل لما كان الروم والقوط من الجور عليهم والظلم، وكذلك كانت عداوة النصارى للمسلمين في الصدر الأول للإسلام سياسية، ولذلك كانت على أشدها بينهم وبين الروم (الرومان) المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب إلى الميل للمسلمين بعد ما وثقوا بعدلهم، لما كانوا يقاسون من ظلم الروم على كونهم من أهل دينهم. وهذا شأن الناس في العداوة والمودة أبدا، يتبعون في ذلك مصالحهم ومنافعهم، فلا ينبغي أن يجعل ما ذكر وصفا ذاتيا لهم أو لدينهم، لينتظر القارئ شهادة الله تعالى للنصارى بكونهم أقرب مودة للمؤمنين بعد آيات قليلة. فتحتم أن العداوة من السياسة لا من الدين.

{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي أنهم لم يكونوا فيما يأتونه أو على ما يأتونه من عداوة النبي والمؤمنين وإيقاد نيران الحرب والفتن والقتال، مصلحين للأخلاق والأعمال، أو لشؤون الاجتماع والعمران، بل كانوا يسعون في الأرض سعي فساد أو لأجل الفساد، بمحاولة منع اجتماع كلمة العرب، وخروجهم من الأمية إلى العلم، ومن الوثنية إلى التوحيد، وبالكيد للمؤمنين، وتشكيكهم في الدين، حسدا لهم، وحبا في دوام امتيازهم عليهم. والله لا يحب المفسدين في الأرض، فلا يصلح عملهم، و ينجح سعيهم، لأنهم مضادون لحكمته في صلاح الناس وعمران البلاد.

والدليل على صحة هذا أن الله أبطل كل ما كاده أولئك الأقوام، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللعرب والإسلام، وأن العرب لما اجتمعت كلمتها وصلحت حالها بالإسلام، وان العرب لما اجتمعت كلمتها وصلحت حالها بالإسلام، أصلحوا بين الناس، وعمروا الأرض في بلاد كان لهم فيها سلطان، وأما غيرهم فكانوا مفسدين بالظلم ومخربين للبلاد. فالإسلام يأمر بالصلاح والإصلاح على أكمل وجه وهو ما يحبه الله تعالى، فلما قام المسلمون به حق القيام، أيدهم ونصرهم على جميع من ناوءهم من الأقوام، وكذلك التوراة والإنجيل ما أنزلت إلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح، إنما كان أهلها مفسدين في ذلكم العصر، لأنهم تركوا هدايتهما...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم:

وقالت اليهود يد الله مغلولة -غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء-

وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه. فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك. وقد قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة! وقالوا: يد الله مغلولة، يعللون بذلك بخلهم؛ فالله- بزعمهم -لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل.. فكيف ينفقون؟!

وقد بلغ من غلظ حسهم، وجلافة قلوبهم، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر؛ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا: يد الله مغلولة!

ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم: (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا).

وكذلك كانوا، فهم أبخل خلق الله بمال!

ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم؛ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم. وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب:

(بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)..

وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان.. شاهدة باليد المبسوطة، والفضل الغامر، والعطاء الجزيل، ناطقة بكل لسان. ولكن يهود لا تراها؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم، وبالكنود وبالجحود، وبالبذاءة حتى في حق الله!

ويحدث الله رسوله صلى الله عليه وسلم عما سيبدو من القوم، وعما سيحل بهم، بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة؛ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث:

(وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا)..

فبسبب من الحقد والحسد، وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله، سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا. لأنهم وقد أبوا الإيمان، لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل؛ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا، وطغيانا وكفرا. فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين، ووبالا عن المنكرين.

ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة:

وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله..

وما تزال طوائف اليهود متعادية. وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند؛ وتوقد نار الحرب على البلاد الإسلامية وتفلح! ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة. ففي خلال ألف وثلاثمائة عام.. بل من قبل الإسلام.. واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد. ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه. مهما تقم حولهم الأسناد. ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة، التي يتحقق لها وعد الله.. فأين هي العصبة المؤمنة اليوم، التي تتلقى وعد الله، وتقف ستارا لقدر الله، ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء؟

ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام: تؤمن به على حقيقته؛ وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته.. يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله.. واليهود يعرفون هذا، ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد؛ ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك، على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض، ويضربون- لا بأيديهم -ولكن بأيدي عملائهم- ضربات وحشية منكرة؛ لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة.. ولكن الله غالب على أمره. ووعد الله لا بد أن يتحقق:

(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله)..

إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود، لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه؛ فالله لا يحب الفساد في الأرض؛ وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه:

(ويسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين)..

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة...).

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة (العداوة والبغضاء) الواردة في هذه الآية، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّاريخي الخاص لهؤلاء، وهو انعدام الاتحاد والإِخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة والصدق فيما بينهم، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وتشير الآية في الختام إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في إنقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة، فتقول (كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله...).

وتعتبر هذه الظاهرة إِحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب، بالإِضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عوناً في كل صراع بحيث أن قريشاً كانوا يستمدون العون منهم، وكان الأوس، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة هذه وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة، بشكل لم يكن متوقعاً لديهم، فاضطر يهود بني النضير وبني قينقاع إلى ترك ديارهم، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين، وحتى أُولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإِسلام، فهم بالإِضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية أيضاً أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول: (ويسعون في الأرض فساداً...) وتؤكّد أيضاً قائلة: (والله لا يحبّ المفسدين).

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على أساس عنصري مطلقاً، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إِليهم، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء، قد ترك باب التوبة مفتوحاً أمامهم.