وبعد هذه الدعوة يعود إلى استكمال مشهد البعث الذي أكده لهم أوثق توكيد :
( يوم يجمعكم ليوم الجمع : ذلك يوم التغابن ) . .
فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه ، كما يحضره الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله . ولكن قد يقربه إلى التصور ما جاء في حديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] - عن أبي ذر رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون . أطت السماء وحق لها أن تيط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجدا . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى . لوددت أني شجرة تعضد " . .
والسماء التي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك . هي هذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدودا . والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء ! فهل هذا يقرب شيئا للتصور البشري عن عدد الملائكة ? إنهم من بين الجمع في يوم الجمع !
وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن ! والتغابن مفاعلة من الغبن . وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم ؛ وحرمان الكافرين من كل شيء منه ثم صيرورتهم إلى الجحيم . فهما نصيبان متباعدان . وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء ، وليغبن كل فريق مسابقه ! ففاز فيه المؤمنون وهزم فيه الكافرون ! فهو تغابن بهذا المعنى المصور المتحرك ! يفسره ما بعده :
( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . ذلك الفوز العظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم يجمعكم ليوم الجمع} يعني جمع أهل السماوات وجمع أهل الأرض {ذلك يوم التغابن} يعني أهل الهدى تغبن أهل الضلالة، فلا غبن أعظم منه فريق في الجنة، وفريق في السعير، {ومن يؤمن بالله} أنه واحد لا شريك له {ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} لا يموتون و {ذلك} الثواب الذي ذكر الله تعالى هو {الفوز العظيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون خبير" يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجِمْعِ "الخلائق للعرض. "ذلكَ يَوْمَ التّغابُنِ" يقول: الجمع يوم غَبْن أهلِ الجنة أهلَ النار...
وقوله: "وَمَنْ يُؤمِنْ باللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحا" يقول تعالى ذكره: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته، وينته إلى أمره ونهيه "يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئاتِهِ" يقول: يمح عنه ذنوبه "وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول: ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: "خالِدينَ فِيها أبَدا" يقول: لابثين فيها أبدا، لا يموتون، ولا يخرجون منها.
وقوله: "ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ" يقول: خلودهم في الجنات التي وصفنا النجاء العظيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الآخرة، لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة، فإذا لم يجدوا، وصار بعضهم يلعن بعضا، غبنوا ما كانوا يأملون منهم...
ويحتمل أنه إنما سماه يوم التغابن لأن الدنيا جعلت أسواقا، والأحوال التي تكون لهم رؤوس الأموال، والأعمال التي يعملون فيها، ويكتسبون، تجارة... فإذا كانت الدنيا متجرة، والآخرة هي التي تقسم فيها الأرباح، ففي ذلك يقع الربح والخسران، ويظهر الغبن والفضل والنقصان والزيادة، والله أعلم. وسماه يوم التغابن لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا، أو ربحوا، فلا يظهر لهم ذلك في الدنيا. ثم بين العمل الذي يربح عليه والعمل الذي يخسر به والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح والتي يلحق بها الخسران، وهو ما قال: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} الآية، وقال: {والذين كفرا وكذبوا بآياتنا} الآية [التغابن: 10]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن سنان قال: حدّثنا كثير بن يحيى قال: حدّثنا أَبُو آمنة بن معلّى الثقفي قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة". قال المفسّرون: من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ذلك يوم التغابن) والتغابن هو التفاوت في أخذ الشيء بدون القيمة، والذين أخذوا الدنيا بالآخرة بهذه الصفة في أنهم أخذوا الشيء بدون القيمة، فقد غبنوا أنفسهم بأخذ النعيم المنقطع بالدائم وأغبنهم الذين اشتروا الآخرة بترك الدنيا المنقطع إليها من هؤلاء الذين تغابنوا عليها... (ذلك الفوز العظيم) أي النجاح الذي ليس وراءه شيء من عظمه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المطيعُ – يومئذٍ ِ- في غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلَّة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التغابن: مستعار من تغابن القوم في التجارة؛ وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَوَقَعَ الْغَبْنُ، لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِم الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ، عَلَى مَنْ أَخَذَ الْأَشَدَّ وَحَصَلَ عَلَى الْأَدْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا؟ قُلْنَا وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ: إنَّمَا هَذَا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمِينَ عَلَى دَارَيْنِ: دُنْيَا، وَآخِرَةٍ...
فَرِيقٌ لِلْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ لِلنَّارِ، وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ فَإِنْ سَبَقَ التَّوْفِيقُ حَصَلَ الْعَبْدُ من أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ سَبَقَ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ من أَهْلِ النَّارِ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَخْذُولِ مَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ، فَحَصَلَ التَّغَابُنُ. وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ من نَشْرِ الْآثَارِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} الذي يجمع فيه الناس ليوم الفصل، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} الذي يفكر فيه كل فرد بأن الفرصة التي منحها الله له في الدنيا، في ما أعطاه من عمر وهيّأه له من إمكاناتٍ، كانت تحمل في داخلها الكثير مما كان يمكنه الحصول على نتائجه في الآخرة، بالمستوى الذي يعتبر فيه نفسه مغبوناً، إذا قارنها بالنتائج الحاضرة التي حصل عليها الآن، سواء أكانت نتائج إيجابية لأنه كان قادراً على أن يحصل على الأفضل منها، أم كانت نتائج سلبية لأنه كان متمكناً من الحصول على النتائج الإيجابية بدرجاتها المتفاوتة، فتكون المسألة أن الجميع لم يقدّروا الفرصة التي فاتت حق قدرها، تماماً كمن باع سلعته بأقل من ثمنها، حيث يعتبر مغبوناً. وفسره البعض بأن اعتبر التغابن بين أهل الضلال: متبوعيهم وتابعيهم، فالمتبوعون وهم المستكبرون يغبنون تابعيهم وهم الضعفاء، حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا وترك الآخرة، فيضلون، والتابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره ومغبون من غيره.
ولعل الأساس في هذا الوجه هو ملاحظة صيغة التفاعل في كلمة التغابن، ولكن الظاهر أنها لم ترد بهذا المعنى، لأن الظاهر أنّ المخاطب به كل فردٍ ممن يجمعهم الله، حيث يواجه الناس مواقعهم في يوم القيامة، فيحس كل إنسان بأنه مغبون في ما حصل عليه، لأن من الممكن أن يكون حظه أكبر...
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} على أساس القاعدة الشرعية القرآنية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيِّئَاتِ} [هود: 114]، فيرفع الله عن الإنسان سيئاته ببركة حسناته، {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} وهو الجزاء الكبير على استقامته في خط الإيمان والعمل الصالح. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثّل العنوان الكبير للنتيجة الطيبة التي يحصل عليها المؤمنون الصالحون، في مواجهة الخسارة التي تحصل للكافرين،