ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
الذين كفروا : هم بنو النضير من اليهود ، وذلك بنقضهم العهدَ بينهم وبين رسول الله .
لأول الحشر : وهو جمعهم وإخراجهم من المدينة .
حصونهم : واحدها حصن ، كان اليهود يسكنون منفردين عن العرب في قلاع مسوَّرة محصنة .
من حيث لم يحتسبوا : من حيث لم يخطر لهم ببال .
يخرِّبون بيوتهم بأيديهم : كانوا يهدمون بيوتهم من قبل أن يغادروها .
هو الذي أجلى الذين كفروا من أهل الكتاب « وهم بنو النضير ، أكبر قبائل اليهود » أجلاهم من ديارهم ، وكان هذا أول مرة حُشروا فيها وأخرجوا من المدينة فذهب بعضهم إلى الشام ، وبعضهم إلى خيبر . وما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا من ديارهم ، لقوّتهم ، وظنوا هم أن حصونهم تمنعهم من بأس الله . . فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا ، وألقى في قلوبهم الرعب الشديد .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } ، وكانوا يخرّبون بيوتهم ليتركوها غير صالحة للسكنى بعدهم ، وتخرّبها أيدي المؤمنين من خارج الحصون ليقضوا على تحصنهم ويخرجوهم أذلاء .
{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، اتعظوا يا ذوي البصائر السليمة ، والعقول الراجحة ، بما جرى لهؤلاء القوم المتكبّرين المتجبّرين من حيث لم تنفعهم أموالُهم ، ولا أسلحتهم .
وعلينا نحن اليوم أن نعتبر ولا نخاف من شدة تسلّح اليهود وما عندهم من قوة وأموال ، فلو اتفقنا واتحدنا ، وجمعنا شملَنا على قلبٍ واحد صمَّم على الجهاد ، وأعددنا لهم ما نستطيع من العدة ، لكان النصر لنا بإذن الله ، سيكون مآل اليهود كمآل أسلافهم المتبجّحين . ولا يمكن أن يأتينا النصرُ من الشرق ولا من الغرب فما النصر إلا من عند الله ، ومن عند أنفسنا وإيماننا وعزمنا على استرداد أراضينا بأيدينا . عندها يكون الله معنا والنصر لنا بإذنه .
{ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق ، والمراد بالذين كفروا بنو النضير بوزن الأمير وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ، ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في «البحر » ، ويقال : إنهم نزلوا قريباً من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظاراً لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى .
وقيل : إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق ، وقال لهم : لا تستحيوا منهم أحداً فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله تعالى والله لادخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ماكان ، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى ، والجار الأول : متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب ، والثاني : متعلق بأخرج وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا ، وضمير { هُوَ } راجع إليه تعالى بعنوان العزة والحكمة إما بناءاً على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام ، أو على جعلن مستعاراً لاسم الإشارة كما في قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } [ الأنعام : 46 ] أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج الخ ، ففيه إشعار بأن في الآخراج حكمة باهرة ، وقوله تعالى : { لأِوَّلِ الحشر } متعلق بأخرج واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون ، ومآلها إلى معنى في الظرفية ، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا : إنها بمعنى في إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات ، وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا ، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناءاً على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم ، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام ، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر ، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام .
وعن عكرمة من شك أن المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية ، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى لأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضاً ليتم التقابل ، وهو يوم القيامة من القبور ، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة ؛ وفي «البحر » عن عكرمة . والزهري أنهما قالا : المعنى الأول موضع الحشر وهو الشام ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : «اخرجوا قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر » ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضاً ، وقيل : آخر حشرهم أن ناراً تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب ، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره ، وهو كما ترى ، وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم ، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ، ولذا قيل : إنه الظاهر ؛ وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضاً ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حماراً مخطوماً بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر ، وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة مع المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل ، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا ، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعاً من ذوي الأرواح لا غير ، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخت ، ولا يجوز إلا القتل . أو السبي . أو ضرب الجزية { مَا ظَنَنتُمْ } أيها المسلمون { أَن يَخْرُجُواْ } لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم .
{ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ ، { ومانعتهم } خبر مقدم ، والجملة خبر { أن } وكان الظاهر لمقابلة { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في «النظم الجليل » للإشعار بتفاوت الظنين ، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء بمانعتهم . وحصونهم مقدماً فيه الخبر على المبتدأ ؛ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم ، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، فجيء بضمير هم وصير اسماً لأن وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوّى على ما في «الكشف » .
وشرح الطيبي ، وفي كون ذلك من باب التقوّى بحث ، ومنع بعضهم جواز الإعراب السابق بناءاً على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلاً ، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل ، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون { حُصُونُهُم } فاعلاً لمانعتهم لاعتماده على المبتدأ .
وجوز كون { مَّانِعَتُهُمْ } مبتدأ خبره { حُصُونُهُم } ، وتعقب بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية ، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل ، وكانت { حُصُونُهُم } على ما قيل : أربعة الكتيبة . والوطيح . والسلالم . والنطاة ، وزاد بعضهم الوخدة وبعضهم شقا ، والذي في «القاموس » أنه موضع بخيبر أو واد به { فاتاهم الله } أي أمره سبحانه ، وقدره عز وجل المتاح لهم { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } ولم يخطر ببالهم ؛ وهو على ما روي عن السدي . وأبي صالح . وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة ، وقيل : ضمير { ءاتاهم } و { لَمْ يَحْتَسِبُواْ } للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، وفيه تفكيك الضمائر .
وقرئ فآتاهم الله ، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين . ثانيهما محذوف أي فآتاهم الله العذاب أو النصر { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب } أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذا ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب ، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد ، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ } ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب { وَأَيْدِي المؤمنين } حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم ، وبهذا الاعتبار عطفت { أَيْدِىَ المؤمنين } على أيديهم وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم فيخربون على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز ، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير { قُلُوبِهِمْ } أو لا محل لها من الإعراب ، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب ؟ أو معه .
أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها .
وقرأ قتادة . والجحدري . ومجاهد . وأبو حيوة . وعيسى . وأبو عمرو { يُخْرِبُونَ } بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول ، وجوز أن يكون في الفاعل ، وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب ترك الموضع خراباً وذهب عنه ، فالإخراب يكون أثر التخريب ، وقيل : هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة . وبالهمزة أخرى { فاعتبروا ياأولى * الابصار } فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سبباً لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أو طانهم مكرهين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه .
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي ، قالوا : إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ثبتت مشروعية العمل بالقياس ، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق ، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : { إِنَّ في ذلك لَعِبْرَةً لأِوْلِي الابصار } [ آل عمران : 13 ] { وَإِنَّ لَكُمْ في الانعام لَعِبْرَةً } [ النحل : 66 ] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال : إنه غير معتبر ، ولو كان القياس هو الاعتبار لم يصح هذا السلب سلمان لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم : إنه إذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم ، وإن كان أسود ، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم ، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأموراً به من جهة ما فيه من الانتقال وهو القياس .
والآيتان على ذلك ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظراً إلى كونه قائساً ، وإنما صح ذلك نظراً إلى أمر الآخرة ، وأطلق النفي نظراً إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به ، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة ، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه ، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق .
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ، وسوق الآية للاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة ، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية .
ومن ذلك ، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها .
وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجلوا إلى خيبر ، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا ، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر ، ثم عمر رضي الله عنه ، [ أخرج بقيتهم منها ] .
{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ يَخْرُجُوا } من ديارهم ، لحصانتها ، ومنعتها ، وعزهم فيها .
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم ، وحسبوا أنهم لا ينالون بها ، ولا يقدر عليها أحد ، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله ، لا تغني عنه الحصون والقلاع ، ولا تجدي فيهم القوة والدفاع .
ولهذا قال : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : من الأمر والباب ، الذي لم{[1027]} يخطر ببالهم أن يؤتوا منه ، وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة ، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال{[1028]} فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم ، التي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال الله قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم ولا منعة معه{[1029]} فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، على أن لهم ما حملت الإبل .
فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، التي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم ، فهم الذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا من أكبر عون عليها ، { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، ووصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم اللفظ{[1030]} لا بخصوص السبب ، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على مثله ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يزداد{[1031]} العقل ، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم .
قوله : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال المفسرون : نزلت هذه الآية في بني النضير . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بني النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية . فلما غزا أحدا وهزم المسلمون نقضوا العهد وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صالحهم على الجلاء من المدينة .
وذكر محمد بن إسحاق في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديه ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما . وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف ، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه ، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه . فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال : أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ، ( رضي الله عنهم ) فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة .
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة . فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - يعني السلاح - ففعلوا فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل . فكان الرجل منهم يهدم بيته على نجاف{[4494]} بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام {[4495]} .
قوله : { لأول الحشر } يعني أخرجهم عند أول الحشر فكان هذا أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام ، فقد كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط . وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . قال ابن عباس : من شك في أن أرض المحشر ههنا الشام فليقرأ هذه الآية { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اخرجوا " قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة ، لأن المحشر يكون بالشام .
قوله : { ما ظننتم أن يخرجوا } ما ظن المسلمون أن تخرج يهود بهذه السهولة في هذه المدة القصيرة من محاربتهم وهي ستة أيام ومع تمكنهم في حصونهم المنيعة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } ظنت يهود - واهمين - أن حصونهم القوية البنيان تمنعهم من أمر الله إن نزل بهم بأسه . وقد كان المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول يحرّضونهم على الثبات في وجه المسلمين وقد وعدوهم بالتأييد والمناصرة لكنهم سرعان ما تخلوا عنهم فلم يغنوا عنهم من بأس الله شيئا { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } أي أتاهم من بأس الله وشديد بلائه ما لم يخطر لهم على بال { وقذف في قلوبهم الرعب } ألقى الله في قلوبهم الجزع والفزع وغشيهم من الترعيب والهلع ما غشيهم .
قوله : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } كان المسلمون يهدمون ما يليهم من حصون يهود للدخول عليهم . وكان اليهود يخربونها من داخلها قبل رحيلهم عنها . فكان أحدهم ينظر إلى ما يستحسنه في بيته من الخشبة أو العمود أو الباب فينزعه . فاحتملوا من أموالهم وأمتعتهم ما أقلّته افبل فكانوا بذلك يهدمون بيوتهم عن نجاف أبوابها فيضعونها على ظهور الإبل ثم ينطلقون بها راحلين . وذلكم تخريبهم بيوتهم بأيديهم .
قوله : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } يعني اتعظوا يا أهل العقول والنهى واعتبروا مما حل بهؤلاء الظالمين ، إذ لم تغنهم حصونهم المنيعة شيئا من بأس الله لما نزل بهم . وقد هدموا بيوتهم فخربوها بأيديهم تخريبا . والله عز وعلا ولي عباده المتقين فهو ناصرهم ومؤيدهم ومخزي الظالمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي أخرج الذين كفروا} يعني يهود بني النضير {من أهل الكتاب} بعد قتال أحد أخرجهم {من ديارهم لأول الحشر} يعني القتال، والحشر الثاني للقيامة، وهو الجلاء من المدينة إلى الشام وأذرعات، {ما ظننتم} يقول للمؤمنين ما حسبتم {أن يخرجوا وظنوا} يعني وحسبوا {أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ} الله الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، وهم يهود بني النضير من ديارهم، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم، حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم، ويخلو له دورهم، وسائر أموالهم، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فخرجوا من ديارهم، فمنهم من خرج إلى الشام، ومنهم من خرج إلى خيبر، فذلك قول الله عزّ وجلّ: {هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارهِمْ لأوّل الْحَشْر}... وقوله: {لأَوّلِ الْحَشْرِ} يقول تعالى ذكره: لأوّل الجمع في الدنيا، وذلك حشرهم إلى أرض الشام...
وقوله: {ما ظَنَنْتُمْ أن يخْرُجُوا}، يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم.
{وَظَنّوا أنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ اللّهِ} وإنما ظنّ القوم فيما ذكر أن عبد الله بن أُبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم، ويعدونهم النصر... عن يزيد بن رومان، أن رهطا من بني عوف ابن الخزرج منهم عبد الله بن أُبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنّعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بهم.
وقوله: {فأتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} يقول تعالى ذكره: فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله حيث لم يحتسبوا، قذف في قلوبهم الرعب بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في أصحابه، يقول جلّ ثناؤه: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرّعُبَ}.
وقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ} يعني جلّ ثناؤه بقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} بني النضير من اليهود، وأنهم يخربون مساكنهم، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه، أو العمود أو الباب، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين... وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من داخلها...
وقال آخرون: إنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم... عن ابن عباس، قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأبْصَارِ} قال: يعني بني النضير، جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها، ثم يبنون ما يخرب المسلمون، فذلك هلاكهم...
وقوله: {فاعْتَبرُا يا أولي الأبصارِ} يقول تعالى ذكره: فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم من نقمته، واعلموا أن الله وليّ من والاه، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه، ومحلّ من نقمته به نظير الذي أحلّ ببني النضير. وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا} أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن تنتصروا منهم فضلا عن أن يخرجوا من ديارهم، ولكن ذلك من لطف الله ومنته عليكم...
وقوله تعالى: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} يعني أنه قذف في قلوبهم الرعب من حيث لم يحتسب المؤمن ولا الكافر، لأن المسلمين لم يظنوا أن يقهروهم، ويغلبوهم، مع قلة عددهم وكثرة عدد أولئك. وكذا لم يحتسب الكفرة أنهم مع قوتهم وقوة حصونهم يقهرون ويغلبون، حتى من الله تعالى على المؤمنين، فإن قذف الرعب في قلوب الكفرة، ذلك لطف عظيم من الله تعالى إلى المؤمنين، والله أعلم... قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فإنكم إذا اعتبرتم علمتم أن الله من عليكم حين أخرج الكفار من ديارهم؛ فإنه لم يكن ذلك بقوّتكم. ويحتمل أن يكون المعنى فيه {فاعتبروا يا أولي الأبصار} من أهل الكفر فإن ذلك يدلكم ويعرفكم أن اتفاقكم على النفرة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يغنيكم كما لم يغن هؤلاء الذين خرجوا إلى مكة، واتفقوا مع المشركين، ثم لم يغنهم، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والحشر: جمع الناس من كل ناحية.
والحصون: جمع حصن، وهو البناء العالي المنيع.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
["فاعتبروا يا أولي الأبصار"] يعني- والله أعلم- أن من فعل فعلهم استحق أن يناله ما نالهم أو يعفو الله، كذلك قال أهل العلم، وهو صحيح. (ت: 7/216).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} فلم يكن كما ظنُّوه -ومَنْ تَقَوَّ بمخلوقٍ أسْلَمَه ذلك إلى صَغَارِه ومذَلّتِه.
ومن الدلائل الناطقة ما أُلْقِي في قلوبهم من الخوفِ والرُّعب، ثم تخريبُهم بيوتهم بأيديهم علامةُ ضَعْف أحوالهم. والاعتبارُ أحَدُ قوانين الشَّرْع، ومَنْ لم يَعْتَبِرْ بغيره اعتَبَرَ به غيرُه.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
قوله {وأيدي المؤمنين} وأضاف الإخراب بأيدي المؤمنين إليهم لأنهم عرضوا منازلهم للخراب بنقض العهد.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
معنى الاعتبار: العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر. ومعنى أوّل الحشر: أن هذا أوّل حشرهم إلى الشأم، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. أو هذا أوّل حشرهم؛ وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل: آخر حشرهم حشر يوم القيامة؛ لأنّ المحشر يكون بالشام. وعن عكرمة: من شك أنّ المحشر ههنا -يعني الشام- فليقرأ هذه الآية. وقيل: معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الذين كفروا من أهل الكتاب} هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة، ولهم نخل وأموال عظيمة. وقوله تعالى: {لأول الحشر} اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن {الحشر}: الجمع والتوجيه إلى ناحية ما. فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: أراد حشر القيامة أي هذا أوله، والقيام من القبور آخره، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر». وقال عكرمة والزهري وغيرهما: المعنى {لأول} موضع {الحشر} وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر»، وقال قوم في كتاب المهدوي: المراد {الحشر} في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره، وأخبرت الآية بمغيب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب»، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم.
وقوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا} معناه: لمنعتهم وكثرة عددهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم.
وقوله تعالى: {فأتاهم الله} عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل.
وقوله تعالى: {وأيدي المؤمنين} من حيث فعلهم، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين.
ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي العيون والأفهام.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.
{فاعتبروا يا أولي الأبصار} ولا تعتمدوا على شيء غير الله؛ فليس للزاهد أن يعتمد على زهده، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته.
المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر، والكفر في البلاء والجلاء، والمؤمنين أيضا يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي
الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبرا لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه [و] على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو ورسله ومن أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا، فتولوا اليهود من أهل الكتاب ليعتزوا بهم، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم، فقال: {هو} أي وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب، {الذي أخرج} على وجه القهر {الذين كفروا} أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد التي تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع "من بني النضير " أو " اليهود " مثلاً: {من أهل الكتاب} أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفي التعبير ب {كفروا} إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر، دل على مزيد قهرهم به بأن قال: {من ديارهم} ولما كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر، ولحق بعضهم بالحيرة، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو موقتاً.
{لأول} أي لأجل أول أو عند أول {الحشر} وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح، ويزلزلون منه زلزلة أخرى، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة، والحشر: الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية. انتهى، وهذا الحشر يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين". ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته، استأنف شرح ذلك بقوله: {ما ظننتم} أي أيها المؤمنون {أن يخرجوا} أي يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم فكانوا بصدد مظاهرتهم، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت آراؤهم وسلط عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم ولما كانت الحصون تمنع إلى إتيان الأمداد قال: {وظنوا أنهم} ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال: {مانعتهم حصونهم} أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع، قالوا: وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي جعل ضميرهم اسم (إن) و إسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم، ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال: {من الله} أي الملك الأعظم الذي لا عز إلا له وأنتم جنده، لا تقاتلون إلا فيه وبه، بأسكم من بأسه، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد. ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً جداً لأنه لا يلتبس على من له إلمام بكلامهم، وبليغاً جداً لما له من العظمة، قال: {فآتاهم الله} أي جاءهم الملك الأعظم الذي يحتملون مجيئه بما صور لهم من حقارة أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء، {من حيث لم يحتسبوا} أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما مناهم وقربه لهم وأغواهم. ولما كان التقدير: فأوهنهم الله بذلك، عطف عليه قوله: {وقذف} أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة، فثبت وارتكز، {في قلوبهم الرعب} أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من أصلها، ثم بين حالهم عند ذلك أو فسر قذف الرعب بقوله: {يخربون بيوتهم} أي يبالغون -على قراءة أبي عمرو بالتشديد- في إخرابها، أي إفسادها، فإن الخربة الفساد، وقراءة غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد {بأيديهم} ضعفاً منهم -بما أشار إليه جمع القلة، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها ولما كان السبب في تخريب الصحابة رضي الله عنهم لبيوتهم ما أحرقوهم به من المكر والغدر كانوا كأنهم أمروهم بذلك، فنابوا عنهم فيه، فقال أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده: {وأيدي المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها لأجل القتال، وقدم تخريبهم لأنه أعجب. ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوه، سبب عن ذلك قوله: {فاعتبروا} أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً من الخلق ولا تعتمدوا على غير الله ولما كان الاعتبار عظيم النفع، لا يحصل إلا للكمل، زاده تعظيماً بقوله تعالى: {يا أولي الأبصار} بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه و إعزاز نبيه ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإن من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها- زعموا، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل نكالهم كما أحكمه قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. والله هو فاعل كل شيء، ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها.
(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب) أتاهم من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم، ولا يحكمون قلوبهم، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم. وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم. فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا، يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر، وهو يعلم كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة، مما يعرفه الناس ويقدرونه، فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة، والسبب والنتيجة من صنعه، والوسيلة والغاية من خلقه، ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية... وهو العزيز الحكيم.. (فاعتبروا يا أولي الأبصار).. وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه، والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته، وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين، وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك، وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير.
{لأول الحشر} فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم، وهذا إيماء إلى أن الله قَدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب. وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.. والحشر: جمع ناس في مكان. والمراد به هنا: حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها، أي جمْعهم للخروج، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تُجمع من متفرق ديار البلاد. وليس المراد به: حشر يوم القيامة، إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ « أول» لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه. وعن الحسن: أنه حمل الآية على حشر القيامة، وركّبوا على ذلك أوهاماً في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام، وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة « سورة بني النضير». وفي جعل هذا الإِخراج وقتاً لأوّل الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود، وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته إذ قال: « لا يبقى دينان في جزيرة العرب»، وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب...
ونظم جملة {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} على هذا النظم دون أن يقال: وظَنُّوا أن حصونهم مانعتُهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد {مانعتهم} إليه فيكون الابتداء بضمير هم مشيراً إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومَنَعة، وأن مَنَعة حصونهم هي من شؤون عزتهم.
وتركيب (أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) تمثيل، مُثِّل شأنُ الله حين يسّر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عِدة وعُدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوّه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها.
والاحتساب: مبالغة في الحسبان، أي الظنّ أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصّن والمنَعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم.
والقذف: الرمي باليد بقوة، واستعير للحصول العاجل، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب، ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية [آل عمران: 151] {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب}. والمعنى: وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام، وقَذْفُ الرعب في قلوبهم هو من أحوال إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا، فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله. والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم؛ فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري.
والإِخراب والتخريب: إسقاط البناء ونقضه. والخراب: تهدم البناء.
وقوله: {بأيديهم} هو تخريبهم البيوت بأيديهم، حقيقةٌ في الفعل وفي ما تعلق به، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبَّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير. وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين؛ فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.
والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها. وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة.
والخطاب في قوله: {يا أولي الأبصار} موجّه إلى غير معين. ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بَصر مما شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.