في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ؛ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .

كان النداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي . وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير . وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة . فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون ، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها ، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها . ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها :

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . .

ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب . وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء ، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها . فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها . فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره . وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطا بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء . ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق . فتصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع . فتندم على ارتكابها ما يغضب الله ، ويجانب الحق والعدل في اندفاع .

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صدقات بني المصطلق . وقال ابن كثير . قال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا - رضي الله عنه - أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد - رضي الله عنه - فرأى الذي يعجبه ؛ فرجع إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . قال قتادة : فكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " . . وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حبان . وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة . والله أعلم . . [ انتهى كلام ابن كثير في التفسير ] " . .

ومدلول الآية عام ، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق ؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره ، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة ، وخبر الفاسق استثناء . والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء . وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

الفاسق : الخارج عن حدود الدين .

بنبأ : بخبر . قال الراغب في مفرداته : لا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة .

فتبينوا : فتثبتوا ، وفي قراءة فتثبتوا .

بجهالة : بغير علم .

تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين : كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، وأن عليهم أن يتثبَّتوا من مصدرها . وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب ، أما إذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره ، ولا يجوز أن يُشك فيه ، وإلا تعطّلت المصالح ، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين ، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها . وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم ، ومنهم الرازي . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

قراءات :

قرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا ، من التثبت والتريث في الأمور ، وقرأ الباقون : فتبينوا ، من التبين والتريث ، والفعلان قريبان من بعض .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

{ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } أخرج أحمد . وابن أبي الدنيا . والطبراني . وابن منده . وابن مردويه بسند جيد عن الحرث بن أبي ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلى يا رسول الله رسولاً لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحرث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحرث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحري ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما إن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحرث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحرث فأقبل الحرث بأصحابه حتى إذا استقبله الحرث وقد فصل عن المدينة قالوا : هذا الحرث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحرث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزل : { يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ } إلى قوله سبحانه : { حَكِيمٌ } [ الحجرات : 6 8 ] وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إن بني فلان حياً من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكار حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال : ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد : ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال : لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئاً من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤنه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا : ما هذا ؟ قالوا : خالد بن الوليد قالوا : يا خالد ما شأنك ؟ قال : أنتم والله شأني أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا : نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبداً فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } الآية قال الحسن : فوالله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها المرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء ، والرواية السابقة أصح وأشهر ، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال ، والقائل بذلك قال : إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع ، والخطاب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } شامل للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم ، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعد إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل ، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم : فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، قال الراغب : والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة ، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقربه ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة .

ووصف الإنسان به على ما قال ابن الأعرابي لم يسمع في كلام العرب ، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروءة بناءً على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة ، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل ، والتبين طلب البيان والتعرف ؛ وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود .

وحمزة . والكسائي { فتثبتوا } وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال .

وقد أخرج عبد بن حميد . وابن جرير عن قتادة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم نزلت الآية : التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان " وتنكير { فَاسِقُ } للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ ، وهو كما في «القاموس » الخبر ، وقال الراغب : لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ، وقوله تعالى : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئاً عظيماً وماله قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين ، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل : { أَن جَاءكُمْ } بحرف الشك ، وفي النداء { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق ، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن » والمؤمن لا يكذب ، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافاً للشافعي ، وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد ، وقرره الأصوليون بوجهين . أحدهما : أنه لو لم يقبل خيره لما كان عدم قبوله معللاً بالفسق ، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللاً بالغير إذ لو كان معللاً به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللاً بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق ، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردوداً وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به . ثانيهما : أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقاً لأن الظن يعمل به هنا ، والقول بالواسطة منتف ؛ والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطاً على ما قرر في الأصول .

نعم قال ابن الحاجب . وعضد الدين : قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكراً من ذلك الآية المذكورة ، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافاً كثيراً مذكوراً في محله .

واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وههنا قد انتفى الفسق ظاهراً ونحن نحكم به فلا يجب التثبت .

وتعقب بأنا لا نسلم أنه ههنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له ، قال العضد : إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر . واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها ، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال : إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة ، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف . وثانيهما : أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين . وثالثها : أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حين قتله لوقوع الفتن من حينئذٍ وفيهم الممسك عن خوضها . ورابعها : أنهم عدول إلا من قاتل علياً كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة .

والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون : إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عمل بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناءً على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار ، فلا يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقاً بأنه مات على الفسق ، ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقاً لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم كقوله سبحانه : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] أي عدولاً وقوله سبحانه : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] إلى غير ذلك ، وحينئذٍ أن أريد بقوله : إن من الصحابة من ليس بعدل إن منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع ، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها .

هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة ، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي . والقاضي ، ومنهم من قبلهما ، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين ، والكذب حرام في كل الأديان لاسيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية ، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " نحن نحكم بالظاهر " وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم فاحترازه من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيباً أو ترهيباً كالكرامية أو ترويجاً لمذهبه كابن الراوندي ، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم ، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة . ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها ، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود ، والحديث خص منه خبر الكافر . وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم ، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب .

وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده ، ولذا قال : أحده وأقبل شهادته ، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ .

{ أَنْ تُصيبُواْ } تعليل للأمر بالتبين أي فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا { قَوْماً } أي قوم كانوا { بجهالة } ملتبسين بجهالة لحالهم ، ومآله جاهلين حالهم ، { فَتُصْبِحُواْ } فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به { على مَا فَعَلْتُمْ } في حقهم { نادمين } مغتمين غماً لازماً متمنين أنه لم يقع ، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه ، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله ، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء ، وفي «الكشف » التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر ، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب ، وأن تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك .

ومن باب الإشارة : وقوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبأ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها { أن تصيبوا قَوْماً } من القلوب وصفاتها { بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ } صباح يوم القيامة { على مَا فَعَلْتُمْ نادمين } [ الحجرات : 6 ] فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

{ 6 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }

وهذا أيضًا ، من الآداب التي على أولي الألباب ، التأدب بها واستعمالها ، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره ، ولا يأخذوه مجردًا ، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا ، ووقوعًا في الإثم ، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل ، حكم بموجب ذلك ومقتضاه ، فحصل من تلف النفوس والأموال ، بغير حق ، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة ، بل الواجب عند خبر الفاسق ، التثبت والتبين ، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه ، عمل به وصدق ، وإن دلت على كذبه ، كذب ، ولم يعمل به ، ففيه دليل ، على أن خبر الصادق مقبول ، وخبر الكاذب ، مردود ، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا ، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [ من ] الخوارج ، المعروفين بالصدق ، ولو كانوا فساقًا .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } الآية ، نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدوم قومه ، وقال له : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق } يعني الوليد بن عقبة ، { بنبأ } بخبر ، { فتبينوا أن تصيبوا } أي لا تصيبوا بالقتل والقتال ، { قوماً } برآء ، { بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } من إصابتكم بالخطأ .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين 6 واعلموا أن فيكم رسول الله ولو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون 7 فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم } .

يأمر الله عباده المؤمنين أن يتثبتوا فيما يردهم من أخبار يقولها فاسقون أو مريبون أولو ثرثرة ولغط وتهويش فما ينبغي للمؤمنين في كل زمان أن يصدقوا أمثال هؤلاء فيبنوا أحكامهم على ما يسمعونه منهم فيضلّوا ويزلّوا ويصبحوا من النادمين . والفاسق هو الكاذب ، أو الذي لا يستحيي من الله .

وقد نزلت الآية في الوليد بن أبي معيط إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليجمع منهم الزكاة ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية . فلما سمع القوم تلقّوه تعظيما لله تعالى ولرسوله ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ، سمعنا برسوله فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى . فبدا له في الرجوع فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله تعالى { ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وقيل : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك ، وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) إليهم وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا ( رضي الله عنه ) أنهم مستمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم . فلما أصبحوا أتاهم خالد ( رضي الله عنه ) فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله الآية . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " {[4286]} .

قوله : { فتبيوا أن تصيبوا قوما بجاهلة } أي تثبتوا واحتاطوا ، أو أمهلوا حتى تعرفوا صحة النبأ ولا تعجلوا { أن تصيبوا قوما بجهالة } أي كراهية ، أو لئلا تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بخطأ منكم { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } أي فتندموا على ما أصبتم به غيركم من الجناية .


[4286]:أسباب النزول للنيسابوري ص 261 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 209، 210.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي إلى بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، ليقبض صدقة أموالهم، فلما بلغهم ذلك فرحوا واجتمعوا ليتلقوه، فبلغ الوليد ذلك فخافهم على نفسه، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية من أجل شيء كانوا أصابوه، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: طردوني ومنعوني الصدقة، وكفروا بعد إسلامهم، فلما قال ذلك انتدب المسلمون لقتالهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى أعلم العلم"، فلما بلغهم أن الوليد رجع من عندهم، بعثوا وفدا من وجوههم فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقالوا: يا رسول الله، إنك أرسلت إلينا من يأخذ صدقاتنا فسررنا بذلك، وأردنا أن نتلقاه، فذكر لنا أنه رجع من بعض الطريق فخفنا أنه إنما رده غضب علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، والله ما رأيناه ولا أتانا، ولكن حمله على ذلك شيء كان بيننا وبينه في الجاهلية، فهو يطلب يدخل الجاهلية، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى في الوليد ثلاث آيات متواليات بفسقه وكذبه {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} يقول: إن جاءكم كاذب بحديث كذب {فتبينوا أن تصيبوا} قتل {قوما بجهالة} وأنتم جهال بأمرهم، يعني بني المصطلق {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} يعني الذين انتدبوا لقتال بني المصطلق...

تفسير الشافعي 204 هـ :

فأمر الله من يمضي أمره على أحد من عباده أن يكون مستبينا قبل أن يمضيه، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم خاصة أن لا يحكم الحاكم وهو غضبان، لأن الغضبان مخوف على أمرين: أحدهما، قلة التثبت. والآخر، أن الغضب قد يتغير معه العقل ويتقدم به صاحبه على ما لم يكن يتقدم به لو لم يكن غضب...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ "عن قوم "فَتَبَيّنُوا".

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "فَتَبَيّنُوا" فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة «فَتَثَبّتُوا» بالثاء، وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيّنوا بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى «فَتَثَبّتُوا».

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط...

وقوله: "أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ" يقول تعالى ذكره: فتبيّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قُذفوا به بجناية بجهالة منكم "فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ" يقول: فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قال أبو بكر: مقتضى الآية إيجابُ التثبّت في خبر الفاسق والنهي عن الإقدام على قبوله والعمل به إلاّ بعد التبيُّن والعلم بصحة مخبره، وذلك لأن قراءة هذه الآية على وجهين: "فتثبَّتوا " من التثبت، و {فَتَبَيَّنُوا}، كلتاهما يقتضي النهي عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته؛ لأن قوله: " فتثبتوا " فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب قوماً بجهالة، فاقتضى ذلك النهي عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوماً بجهالة، وأما قوله: {فَتَبَيَّنُوا} فإن التبيُّنَ هو العلم، فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

(يا ايها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) خطاب من الله – عز وجل -للمؤمنين بأنه (إن جاءكم فاسق) وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته (بنبأ) أي بخبر عظيم الشأن (فتبينوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بمتضمنه (أن تصيبوا قوما بجهالة) لأنه ربما كان كاذبا وخبره كذبا، فيعمل به فلا يؤمن بذلك...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

دلَّت الآية على تَرْكِ السكون إلى خَبَرِ الفاسق إلى أن يظهر صِدْقُه. وفي الآية إشارة إلى تَركِ الاستماعِ إلى كلام الساعي والنَّمامِ والمغتابِ للناس. والآيةُ تَدُلُّ على قبول خبرِ والواحدِ إذا كان عَدْلاً. والفاسقُ هو الخارجُ عن الطاعة. ويقال هو الخارج عن حدِّ المروءة. ويقال: هو الذي ألقى جِلبابَ الحياء...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(إن جاءكم فاسق) قالوا: الفاسق هاهنا هو الكذاب... وقوله: (فتبينوا) وقرئ: "فتثبتوا " ومعناهما متقارب، وهو ترك العجلة، والتدبر والتأني في الأمر...

وقوله: (أن تصيبوا قوما بجهالة) معناه: لئلا تصيبوا قوما بجهالة، ومعنى الإصابة هاهنا: هو الإصابة من الدم والمال بالقتل والأسر والاغتنام.

وقوله: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) أي: تصيروا نادمين على فعلكم، وليس المراد منه الإصباح للذي هو ضد الإمساء...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وفي تنكير الفاسق والنبأ: شياع في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ. فتوقفوا فيه وتطلبوا الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق «لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه... قيل: إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور {ءانٍ} مفعول له، أي: كراهة إصابتكم {تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} حال... يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح: بمعنى الصيرورة. والندم: ضرب من الغم، وهو: أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام: وهو لزام الشريب ودوام صحبته...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ، وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا. وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَكُونُ وَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا، كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ فَالْبُضْعُ أَوْلَى...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ} إشارة إلى لطيفة، وهي أن المؤمن كان موصوفا بأنه شديد على الكافر غليظ عليه، فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ، فإن تمكن منه يكون نادرا، فقال: {إن جاءكم} بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع،... أي فاسق جاءكم بأي نبأ، فالتثبت فيه واجب...

{أن تصيببوا قوما بجهالة} والجهل فوق الخطأ، لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلا، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزا...

{فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} بيانا لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادما...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

وهاهنا فائدة لطيفة: وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه وشهادته جملة، وإنما أمر بالتبيُّن، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر. فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته. وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري، وفسقه من جهات أخرى. فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة، ولاسيما مَنْ فسقه من جهة الكذب: فإن كثر منه وتكرر، بحيث يغلب كذبه على صدقه، فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا} وعبر بالفعل الماضي الذي هو لأدنى أسنان القلوب، وعبر بأداة الشك إيذاناً بقلة الفاسق فيهم وقلة مجيئه إليهم بخبر له وقع، فقال: {إن جاءكم} أي في وقت من الأوقات {فاسق} أي خارج من ربقة الديانة أيّ فاسق كان {بنبأ} أي خبر يعظم خطبه فيؤثر شراً، أيّ خير كان مما يكون كذلك؟ {فتبينوا} أي عالجوا البيان وهو فصل الخطأ من الصواب، استعمالاً لغريزة العقل المنفي عن المنادين واتصافاً بالغفران والرحمة ليرحمكم الله ويغفر لكم...

.

ولما أمر بالتبين، ذكر علته فقال: {أن} أي- لأجل كراهة أن {تصيبوا} أي بأذى {قوماً} أي هم مع قوتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم {بجهالة} أي مع الجهل بحال استحاقهم ذلك...

{فتصبحوا} أي فتصيروا، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته {على ما فعلتم} أي- من إصابتهم {نادمين} أي عريقين في الأسف على ما فات...

.والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة {أن تصيبوا قوما بجهالة} أي قوما برآء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} أي فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوما بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).. ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب. وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها. فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى {فتبينوا} تبينوا الحق، أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال... وتنكير {فاسق}، و {نَبأ}، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا، وفي الأنباء كيف كانت، كأنه قيل: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبَأ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه...

{فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعاً، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحُذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحداً بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبيّن وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه...

{على ما فعلتم نادمين} للاهتمام بذلك الفعل، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره...