ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة ؛ تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس ، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود . بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود :
( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم . وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة . يحسبون كل صيحة عليهم . هم العدو فاحذرهم . قاتلهم الله ! أنى يؤفكون ? ) . .
فهم أجسام تعجب . لا أناسي تتجاوب ! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون . . فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة . . ( تسمع لقولهم كأنهم خشب ) . . ولكنها ليست خشبا فحسب . إنما هي ( خشب مسندة ) . . لا حركة لها ، ملطوعة بجانب الجدار !
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح ! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم :
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء . وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف . والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم ؛ يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف ، يحسبونه يطلبهم ، وقد عرف حقيقة أمرهم ! !
وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان . . إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال !
وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وللمسلمين :
هم العدو الحقيقي . العدو الكامن داخل المعسكر ، المختبئ في الصف . وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح . ( فاحذرهم ) . . ولكن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يؤمر هنا بقتلهم ، فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم - كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل - . .
( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) . .
فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا . والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء ، وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه . . وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف .
تعجبك أجسامهم : لصباحتها وتناسُب أعضائها .
تسمع لقولهم : لفصاحتهم وحسن حديثهم .
خشُب مسندة : جمع خشبة ، يعني أنهم أجسام فارغة لا حياة فيها .
يحسبون كل صيحة عليهم : فهم لشعورهم بالذنب وبحقيقة حالهم ، يظنون أن كل صوت أو حركة عليهم .
قاتلَهم الله : لعنهم الله وطردهم من رحمته .
ثم وصف هيئاتهم الظاهرة والباطنة ، فأجسامُهم في الظاهر حسنة تُعجِب الناس ، ومنطقهم حسن ، ولكلامهم حلاوة ، أما في الباطن فهم خُشُبٌ لا فائدة فيها ، أشباح بلا أرواح ، فسدت بواطنهم ، وحسنت ظواهرهم .
ثم وصفهم بالجبن والذلة إذا سمعوا أي صوت أو حركة ظنّوا أنهم المقصودون ، وأن أمرهم قد افتُضِح : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } وأنهم هالكون لا محالة . { هُمُ العدو فاحذرهم } أيها الرسول ، ولا تأمنهم أبدا .
ثم زاد في ذمهم وتوبيخهم فقال :
{ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ } لعنهم الله وطردَهم من رحمته كيف يُصرَفون عن الحق إلى ما هم عليه من النفاق .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : خشب بإسكان الشين . والباقون : خشب بضم الخاء والشين .
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم } لصباحتها وتناسب أعضائها { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم ، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحاً يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس . ومعتب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم ، والخطاب قيل : لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة . وعطية العوفي يسمع بالياء التحتية والبناء للمفعول ، وقيل : لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام ، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلى الله عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره ؛ وكذا السماع لقولهم ، وليوافق قوله تعالى : { إِذَا جَاءكَ } [ المنافقون : 1 ] والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة ، وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الاعراب ؛ وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم الخ ؛ والكلام مستأنف أيضاً ، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه ، وقيل : هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في { لِقَوْلِهِمْ } أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله :
فقلت : عسى أن تبصريني كأنما *** بنى حوالي الأسود الحوادر
وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك ، و { خُشُبٌ } جمع خشبة كثمرة وثمر ، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحاً خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر ، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم ، وفي مثلهم قال الشاعر :
لا يخدعنك اللحى ولا الصور *** تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا *** وليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه *** له رواء وماله ثمر
وقرأ البراء بن عازب . والنحويان . وابن كثير { خُشُبٌ } بإسكان الشين تخفيف خشب المضمون ، ونظيره بدنة وبدن . وقيل : جمع خشباء . كحمر . وحمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم ، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك ، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين ، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراآت .
وقرأ ابن عباس . وابن المسيب . وابن جبير { خُشُبٌ } بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر ، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى :
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل : متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعاً بهم ، وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ؛ ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل :
مازلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلا تكر عليهم ورجالا
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم *** إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
والوقف على { عَلَيْهِمْ } الواقع مفعولاً ثانياً ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي ، وعليه كلام الواحدي ، وقوله تعالى : { هُمُ العدو } استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى ككثير من أبناء الزمان { فاحذرهم } لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم ، وجوز الزمخشري كون { عَلَيْهِمْ } صلة { صَيْحَةٍ } و { هُمُ العدو } والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو ، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءاً على أنه يكون جمعاً ومفرداً وهو هنا جمع ، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جداً لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف ، ومع ذلك لا بساعد عليه ترتب { فاحذرهم } لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن { قاتلهم الله } أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها ، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة ، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى ، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام ، أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا : قاتلهم الله ، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه ، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن ، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره ، وكذا قوله سبحانه هنا : { قاتلهم الله } .
{ أنّى يُؤْفَكُونَ } وهذا تعجيب من حالهم ، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال ؟ فأني ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده ، وجوز ابن عطية كونه ظرفاً لقاتلهم وليس هناك استفهام ، وتعقبه أبو حيان بأن { أنّى } لا تكون لمجرد الظرفية أصلاً ، فالقول بذلك باطل .