وقبل أن يكمل نداءه إليهم بالإيمان يقرر قاعدة من قواعد التصور الإيماني في القدر ، وفي أثر الإيمان بالله في هداية القلب :
( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله . ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، والله بكل شيء عليم ) . .
ولعل مناسبة ذكر هذه الحقيقة هنا هي مجرد بيانها في صدد عرض حقيقة الإيمان الذي دعاهم إليه في هذا المقطع . فهو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله ، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن الله . وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها . فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها . كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة . أو هذه الآية من السورة ، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع .
وعلى أية حال فهذا جانب ضخم من التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن . فيحس يد الله في كل حدث ، ويرى يد الله في كل حركة ، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء . يصبر للأولى ويشكر للثانية . وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا ، فيشكر في السراء وفي الضراء ؛ إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات ، أو بالخير على كل حال .
وفي الحديث المتفق عليه : " عجبا للمؤمن ! لا يقضي الله قضاء إلا كان خيرا له . إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له . وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " . .
( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) . .
وقد فسرها بعض السلف بأنها الإيمان بقدر الله والتسليم له عند المصيبة . وعن ابن عباس يعني يهدي قلبه هداية مطلقة . ويفتحه على الحقيقة اللدنية المكنونة . ويصله بأصل الأشياء والأحداث ، فيرى هناك منشأها وغايتها . ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح . ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور .
فهي هداية إلى شيء من علم الله ، يمنحه لمن يهديه ، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب ، وكشف الأسرار . . بمقدار . .
وبعد أن بين مصير الناس وأنهم قسمان : كافر بالله مكذِّب لرسله ومصيرُهُمْ النار ، ومؤمن بالله ومصدّق لرسله ويعمل الصالحات فهو من أهل الجنة ، بيّن هنا أمراً عظيما بقوله :
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله . . } .
إن ما يصيب الإنسان من خير أو شر إنما يكون بقضاء الله وقدَره بحسب النُظم التي وضعها للكون . فعلى الإنسان أن يجدَّ ويعمل ، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء . على المرء أن يبذل جهده ويسعى في جلب الخير ودفع الضُرّ ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأن يتوكل على الله ويؤمن به خالص الإيمان .
{ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فالإيمان يضيء القلبَ ويشرح الصدر لخير العمل ، وأيّ نعمةٍ أعظمُ من هذه النعمة ! ! .
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } أي ما أصاب أحداً مصيبة على أن المفعول محذوف ، و { مِنْ } زائدة ، و { مُّصِيبَةٍ } فاعل ، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } [ الحجر : 5 ] { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ } [ الأنعام : 4 ] والمراد بالمصيبة الرزية وما يسوء العبد في نفس . أو مال . أو ولد . أو قول . أو فعل أي ما أصاب أحداً من رزايا الدنيا أي رزية كانت { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز وجل كأن الرزية بذاتها متوجهة إلى العبد متوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا ، وجوز أن يراد بالمصيبة الحادثة من شر أو خير ، وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل : إنها في الأول : من الصوب أي المطر ، وفي الثاني : من إصابة السهم ، والأول هو الظاهر ، وإن كان الحكم بالتوقف على الإذن عاماً .
{ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } عند إصابتها للصبر والاسترجاع على ما قيل ، وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمر الله تعالى ويرضى بها ، وعن ابن مسعود قريب منه ، وقال ابن عباس : { يَهْدِ قَلْبَهُ } لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وقيل : { يَهْدِ قَلْبَهُ } أي يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة ، وقرأ ابن جبير . وطلحة . وابن هرمز . والأزرق عن حمزة نهد بنون العظمة .
وقرأ السلمي . والضحاك . وأبو جعفر { يَهْدِ } بالياء مبنياً للمفعول { قَلْبَهُ } بالرفع على النيابة عن الفاعل ، وقرئ كذلك لكن بنصب { قَلْبَهُ } ، وخرج على أن نائب الفاعل ضمير { مِنْ } و { قَلْبَهُ } منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه ، أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى : { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] فالكلام من الحذف والإيصال نحو { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] ، وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدي إليه ، وجوز أن يكون نصبه على التمييز بناءاً على أنه يجوز تعريفه .
وقرأ عكرمة . وعمرو بن دينار . ومالك بن دينار يهدأ بهمزة ساكنة { قَلْبَهُ } بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكن الإيمان ولا يكون فيه قلق واضطراب ، وقرأ عمرو بن قايد يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة ، وعكرمة . ومالك بن دينار أيضاً { يَهْدِ } بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة ، وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان ، وأجاز ذلك بعضهم قياساً ، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم ، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى :
جرى متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وأن «لا يبد » بالظلم يظلم
أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفاً ثم حذفت للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل عليه الجازم ، وقوله تعالى : { والله بِكُلّ شَيْء } من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها { عَلِيمٌ } فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة ؛ فالجملة متعلقة بقوله تعالى : { وَمَن يُؤْمِن } الخ ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله سبحانه : { مَا أَصَابَ } الخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد ، وذكر الطيبي أن في كلام الكشاف رمزاً إلى أن في الآية حذفاً أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه ، ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، وبنى عليه أن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضاً لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي » وأي مصيبة أعظم منهما ؟ وهو كما أشار إليه يدفع في نحر المعتزلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.